قراءة أخرى مضافة في القضاء الإداري الأردني

اعداد: الدكتور نوفان العجارمة

مركز الرأي للدراسات

7/2007

لقد وسمت هذه المقالة (بقراءة أخرى) في القضاء الإداري الأردني ، وهذا يعني بالضرورة وجود قراءات سبقت هذه المقالة تناولت ذات الموضوع ، وكان آخرها الدراسة القيمة الني نشرت في صحيفة الرأي الغراء بتاريخ 19/5/2009 بقلم القاضي الدكتور أكرم مساعدة بعنوان ((قراءة مضافة في القضاء الإداري الأردني))، وتكمن أهمية هذه الدراسة من كون صاحبها يزاوج ما بين النظرية والتطبيق ، فهو متخصص أكاديميا في القانون الإداري وفي الوقت نفسه هو قاضي مترافع أمام محكمة العدل العليا باعتباره رئيسا للنيابة العامة الإدارية .

وفي الوقت الذي أؤيد ما جاء بهذه الدراسة و الدراسات التي سبقتها سواء في الصحافة اليومية أو في المجال الأكاديمي في رسائل الماجستير والدكتوراه ، أود أن أوكد على الملاحظات التالية و التي بمجملها تسلط الضوء على بعض الجوانب المعتمة أو المنسية في القضاء الإداري الأردني وهي :

أولا: إن العلاقة ما بين الفرد والسلطة أصبحت منظمة في دول عالمنا المعاصر، فالعلاقة أصبحت علاقة قانونية، وأصبحت الدولة تعرف بدولة المشروعية أو الدولة القانونية و أصحبت السيادة في الوقت الحاضر للقانون، ، وإذا نشب أي خلاف ما بين الفرد و السلطة ، بسبب أو بمناسبة مباشرة هذه السلطة لوظيفتها الإدارية، فان المرجع المختص بالفصل بهذا النزاع هو القاضي الإداري ، و الرقابة القضائية على أعمال الإدارة- لاسيما في درجتها الكبرى والمتمثلة في سلطة إلغاء القرارات الإدارية- تعتبر الأساس المتين الذي يقوم عليه بمبدأ المشروعية و تعتبر الوسيلة الفعالة لإعمال هذا المبدأ (المشروعية) و الحصن الحصين لحمايته و الذود عنه، وهي ضمانه حقيقية لجعل مبدأ المشروعية ممارسة عملية ، لا مجرد مبدأ نظري .

ثانيا: إن إنشاء قضاء إداري مستقل و متخصص ويأخذ بمبدأ تعدد درجات التقاضي يعتبر ضرورة وطنية ملحة ، فيها مصلحة وحماية للحكام والمحكوم ، وفيه مصلحة للسلطة التنفيذية ذاتها ، فالإدارة المؤمن بدور القضاء الإداري وأهميته، والتي تخشى المساءلة ، سوف تحرص كل الحرص على وضع الموظف المناسب في المكان المناسب ، حتى تأمن عدم إلغاء قراراتها الإدارية غير المشروعية من قبل القضاء الإداري .

ثالثا: إن إنشاء قضاء إداري مستقل و متخصص هو أمر إلزامي على السلطات الثلاث بالدولة التشريعية والتنفيذية و القضائية، وليس من باب الترف، فالمادة (100) من الدستور جاء بنص واضح لا لبس فيه ولا غموض حيث أوجبت (( تعين أنواع المحاكم ودرجاتها و أقسامها واختصاصاتها وكيفية إدارتها بقانون خاص ، على أن ينص هذا القانون على إنشاء محكمة عدل عليا ))، أي إن الأمر أو الإيعاز الصادر من المشرع الدستوري إلى المشرع العادي جاء بصورة الإلزام ولم يعطيه أي سلطة تقديريه بهذا الخصوص ، وغني عن القول بان كلمة (إنشاء) في اللغة تفيد احدث شيء وخلقه من العدم بصفات وخصائص تجعله متميزا عن غيره ، أي إن المشرع الدستوري قصد من خلال النص المتقدم إيجاد محكمة جديدة مستقلة عضويا ووظيفيا عن محكمة التمييز .

رابعا: استجاب المشرع العادي للمشرع الدستوري بعد قرابة أربعة عقود من الزمان، حيث سن في عام 1989 قانون محكمة العدل العليا المؤقت رقم (11) لسنة 1989 ، و أصبح هذا القانون دائما عندما تم اعتماده من قبل البرلمان بعد إدخال بعض التعديلات عليه ، وهو القانون النافذ حاليا رقم (12) لسنة 1992 ، ولكن هذا القانون ، ومع كل آسف ، لم يحقق المطلوب المأمول حيث ويلاحظ على هذا القانون ما يلي :

1. لم يأخذ المشرع بمبدأ تعدد درجات : إن مشرعنا الأردني ومنذ عام 1951 وحتى تاريخه جعل القضاء الإداري في الأردن على درجة واحدة ، فأحكام المحكمة(العدل العليا) نهائية ، أول درجة وآخر درجة ، غير قابلة للاعتراض أو المرجعة بأي حال من الأحوال وهذا أمر خطير ، و لا يحقق عدالة ، لأنه يحرم الخصوم من ميزات مبدأ تعدد درجات التقاضي ، فالحكم يكون نهائيا حتى لو أخطأت المحكمة كان تستند إلى تشريع ملغي مثلا أو ترد الدعوى لعدم وجود بينة يتضح فيما بعد وجودها في ملف الدعوى . لذا نوصي مشرعنا بان يأخذ بمبدأ تعدد درجات التقاضي الإداري بحيث يكون القضاء الإداري على درجتين على الأقل ، لاسيما إن المجلس العلي لتفسير الدستور أفتى بان الدستور لا يمنع من وضع قانون خاص مستقل بتشكيل محاكم إدارية(قراره رقم 2/2001) ، فهذا المبدأ (مبدأ تعدد درجات التقاضي) يمكن المتقاضيين (الفرد و الإدارة) من تصحيح أحكام محكمة الدرجة الأولى التي أصدرتها عن خطأ أو جهل أو تقصير ، وهذا المبدأ يشبع غريزة العدالة في نفس المحكوم عليه (الخاسر) إذ يتيح الفرصة أمامه بعرض النزاع مجددا أمام محكمة أعلى درجة وقضاتها أكثر عددا وخبرة من قضاة محكمة الدرجة الأولى التي أصدرت الحكم ، ومما لاشك فيه ، إن هذا المبدأ يحض قضاة الدرجة الأولى على توخي العدالة و التأني في إصدار الأحكام خشية إلغائها أو تعديلها من محكمة الدرجة (الأعلى). ولا نعلم لماذا اقر مشرعنا مبدأ تعدد درجات التقاضي في القضاء النظامي(الحقوقي والجزائي و ضريبة الدخل و الجمارك) وحرمنا من هذا المبدأ في القضاء الإداري ؟؟ يبدو الأمر كما قال شوقي ((أحرام على بلابله الدوح... حلال للطير من كل جنس ))

2. اختصاص المحكمة محدد على سبيل الحصر: على الرغم من أن المشرع حقق بعض التقدم في القانون الحالي بالنسبة لاختصاصات محكمة العدل العليا ، إلا انه لم يصل بعد إلى جعل محكمة العدل العليا صاحبة الولاية العامة بنظر المنازعات الإدارية ، فما زال اختصاصها محدد على سبيل الحصر ولا نعلم ما هي الحكمة من وراء ذلك ؟؟ لم يصل إيمان مشرعنا الأردني بوجود قضاء إداري إلى حد اليقين ؟ وعليه، وطالما اختصاص محكمة العدل العليا محدد على سبيل الحصر تكون المحاكم النظامية هي صاحبة الولاية العامة بنظر المنازعات الإدارية ، وهذا يفقد ميزة وجود محكمة قضاء إداري مستقلة، لان المحاكم النظامية تطبق القانون المدني في حين محكمة العدل العليا تطبق القانون إداري ، وطالما المنازعات ذات طبيعة واحدة (إدارية) فالأصل أن تحكمها قواعد واحدة، لان اتحاد العلة يوجب اتحاد الحكم ، وهي قواعد القانون الإداري ،فتقرير الولاية العامة لمحكمة العدل العليا هو الذي يحقق وحدة القانون الذي يطبق على جميع المنازعات الإدارية ، وهذا يحقق العدالة ، لان قواعد القانون تطبيق بشكل متساوي على كافة المنازعات ذات الطبيعة المتشابهة. ويحقق كذلك نوعا من التوازن ما بين سلطات الإدارة وحقوق الإفراد وحريات

فهل من العدالة أن تذهب المنازعة المتعلقة بالمكافأة الشهرية إلى القضاء النظامي في حين تذهب المنازعة المتعلقة بالزيادة السنوية إلى القضاء الإداري ونحن نتحدث عن علاقة واحدة (موظف و إدارته) ؟؟؟

3. حقق المشرع الاستقلال للمحكمة لكنه لم يحقق ميزة التخصص لقضاتها : السادة قضاة محكمة العدل العليا غير متخصصين في القانون الإداري،وغير مستقرين في عملهم كقضاة محكمة العدل العليا ، فهم مشبعون بروح القانون الخاص ، لأنهم امضوا أكثر من 25 عاما يطبقون القانون الخاص على المنازعات التي ينظرونها، وهم ينظرون إلى الإفراد والإدارة نظرة متساوية ، خلافا للقاضي الإداري المتخصص الذي يرى بحكم تكوينه وفلسفته ، إن الإدارة والتي تمثل الصالح العام ، لن تتساوى في خصومتها مع الإفراد . لان طرفي النزاع غير متكافئين، و نظرية الإثبات في القانون الإداري تختلف عنها في القانون المدني ، لذا نوصي مشرعنا ، بان يسن قانون خاص ينظم كافة المسائل المتعلقة بقضاة هذه المحكمة، من تعيينهم وترقيتهم ودرجاتهم ، ولابد من النص كذلك على عدم قابليتهم للنقل أو للعزل، لان مهمة القاضي الإداري أشبه ما تكون إبحار في عين العاصفة واحتكاكه واختلافه مع السلطة التنفيذية هو أمر محتم ولا مفر منه .

خامسا: وإجمالا لما تقدم فإننا نوصي مشرعنا بان يسن قانون (نقترح تسمية بقانون مجلس الدولة ) لما لهذه التسمية من قيمة معنوية كبيرة بحيث:

• يأخذ بمبدأ تعدد درجات التقاضي : ونقترح وجود ثلاث محاكم أدارية في عمان و اربد ومعان ، على أن تكون أحكام هذه المحاكم تخضع للطعن أمام محكمة العدل العليا ، وإعطاء مجلس الدولة صلاحية استحداث محاكم إدارية وحسب الحاجة .

• استبدال تسمية النيابة العامة الإدارية بـ (هيئة مفوضي الدولة) ، لان هذه التسمية مفرغة من معناها ، و النيابة العامة الإدارية حاليا تقوم فقد بالمدافعة عن أشخاص القانون العام ولا تماس أهم واجب من واجبات النيابة العامة الإدارية و المتمثلة بالحقيق الإداري .

• إلغاء المجلس التأديبي المنصوص عليه في نظام الخدمة المدنية ، واستحداث محكمة تأديبية(تابعة للمجلس) مشكلة من عناصر قضائية بحيث تختص بمحاكة الموظفين عما ينسب إليهم من مخالفات مسلكية، وتقوم الإدارة العامة بدور النيابة العامة الإدارية إمام هذه المحكمة ، على أن تكون أحكام هذه المحاكمة خاضه للطعن أمام محكمة العدل العليا .

• ضم ديوان التشريع والرأي (الموجود حاليا) إلى المجلس بحيث يقوم مجلس الدولة بمهمتي الفتوى والتشريع، اسود بدول العام المتقدم لاسيما مجلس الدولة الفرنسي.

• أن ينظم هذا القانون كافة الأمور المتعلقة بالجهاز القضائي و الإداري الخاص بموظفي المجلس ، من حيث الرواتب والدرجات و المسميات الوظيفية(لابد من وجود مسميات تختلف عن القضاء النظامي مثل مسمى مستشار ومستشار مساعد ...)) على إن ينص هذا القانون على عدم قابلية القضاة للعزل، وعدم أمكانية نقلهم خارج محاكم مجلس الدولة.

• يكون مجلس الدولة صاحب الولاية العامة بنظر كافة المنازعات الإدارية، بما في ذلك المنازعات المتعلقة بالعقود الإدارية و الطعون الانتخابية.

وأخيرا ، أقول لقد تعلمنا من تقاليدنا إن القضاء هو أمننا وهو حصننا، ولقد ظل في الأردن – حتى الآن – الأمل والحصن، وهو في ذات الوقت أمان للحكام وحصن له، وإن وجود قضاء إداري مستقل ومتخصص يأخذ بمبدأ تعدد درجات التقاضي، أسوة بدول العالم المتقدم – هو كالفضيلة بأجمل صورها، يجعل الفرد بالمجتمع نبيلا بغير ولادة، غنيا ً بلا مال، رفيعاً من غير حاجة إلى لقب، وسعيداً بغير ثروة.

راجيا أن يصل هذا الصوت إلى من يهمة الأمر،،،،،

*أستاذ القانون الإداري المساعد

كلية الحقوق – الجامعة الأردنية

هاتف: 0777241111

Nofan.a@ju.edu.jo