عندما يصبح الوهم بديلا عن الدواء

اعداد :حيدر جميل المدانات

مركز الرأي للدراسات

10/2007

هل صادف ان تناولت كوبا من القهوة، فشعرت بالانتعاش والنشاط، ثم فوجئت بمن يقول لك انها قهوة منزوعة الكافيين؟ ان مررت بهذه التجربة، فانك تكون قد عشت تجربة تأثير الدواء الزائف او المموّه.

والواقع انه على مدى القرون الماضية، عرف الاطباء قوة تأثير الدواء الزائف، ويقصد به استخدام مادة غير ضارة لتحقيق معالجة حقيقية ناجحة لمشكلة صحية عند الانسان. لكن ما مدى فعالية الدواء الزائف؟ وكيف يعطي تأثيره ان حدث؟ سؤالان، بدأ العلماء مؤخرا فقط تلمّس اجابة عنهما. ومن ذلك مثلا، ان الاعتقاد الذي شاع بين العلماء طويلا من ان واحدا من كل ثلاثة مرضى يستفيدون من العقار الزائف، هو محض خرافة. اذ تشير الدراسات الى ان 80% تقريبا من مرضى الاكتئاب يستفيدون من المعالجة بالادوية الزائفة، في حين لا استفادة مطلقا منه عند مرضى السكري. كما تبين ان قوة تأثير العقار الزائف يمكن التحكم بها وتعديلها، كما يمكن ان تدعم فعالية الدواء الحقيقي المناسب دعما قويا.

في تجربة بالغة البساطة لتوضيح الفرق بين عقارين احدهما منشط والآخر مهديء، وظف الباحثون ستين متطوعا للمشاركة في التجربة. واعطي كل منهم عشوائيا احد العقارين، دون ان يعرف ماذا تناول بالضبط. ثم راقب الباحثون علامات النعاس او النشاط. و عند تحليل النتائج كان الاستنتاج واضحا قاطعا: الاشخاص الذين تناولوا المهديء، كان احتمال شعورهم بالنعاس ضعفي الذين تناولوا المنشّط.

بالطبع، لا غرابة في ذلك، سوى ان المتطوعين لم يتناولوا لا مهّدئا ولا منشّطا. اذ انهم جميعا قد اعطيوا المادة المحايدة نفسها التي لا تحوي اية عناصر فعالة. وكان الفرق الوحيد هو ان بعض الحبوب لوّنت باللون الازرق الهادىء وقيل للمتطوعين انها عقار مهديء. والبعض الآخر لوّنت بالأحمر الفاقع باعتبارها منشطات.

اثبتت هذه التجربة قوة الوهم وسيطرة الدماغ الكبيرة على الجسم. وما هذه التجربة سوى واحدة من العديد من التجارب المشابهة التي اجريت على مدى السنين، والتي دعمت الاعتقاد بفعالية الادوية الزائفة. فمجرد اعتقاد او ايمان المريض بفعالية الدواء يجعله يشعر بتحسن. يطلق على هذه الادوية في اللغة الانجليزية اسم "بلاسبو" وهي كلمة لاتينية تعني

"سوف ابتهج". (وتجد معناها في قاموس المورد مثلا: دواء يعطى لمجرد ارضاء المريض، كل ما يهديء او يرضي.)

وعلى النقيض من الدواء الزائف، هناك السم الزائف. وقد ابتكر الطبيب الاميركي ولتر كندي عام 1961 مصطلحا لاتينيا مشابها للتعبير عنه. وهي "نوسبو" وتعني "سوف أتضرر". وتورد المجلة العلمية (فوكس) في عددها لشهر ايلول 2007 حادثة ظريفة تثبت قوة السم الزائف. ففي اوائل هذا العام 2007 استقبل احد مستشفيات ولاية مسيسبي شابا عمره 26 عاما قال أنه أخذ جرعة مضاعفة من دواء مضاد للكآبة، وذلك ضمن مشاركة في تجربة لقياس فعالية هذا الدواء الجديد. كان ضغط دم الشاب منخفضا للغاية ودقات قلبه متسارعة ثم فقد الوعي. وعندما وصل احد القائمين على التجربة الى المستشفى، تبين ان ما تناوله الشاب كان مجرد دواء زائفا لا يحتوي أية مادة فعالة. وما أن أخبر الاطباء الشاب المريض بالحقيقة حتى عاد الى وضعه الطبيعي واصبح ضغطه ونبضه طبيعيان خلال 15 دقيقة.

لقد ثبت ان للدواء الزائف فعالية جيدة في حالات الشعور بالألم او الاكتئاب، وهي فعالية تكاد تماثل فعالية الدواء الحقيقي. ولاينحصر تأثير الدواء الزائف بالأعراض المرتبطة بالدماغ والأعصاب (كالشعور بالألم أوالاكتئاب) وانما قد تنجح في التخفيف من شدة مشاكل صحية أخرى كالربو. فقد أعطي بعض مرضى الربو أدوات استنشاق كاذبة لا تحتوي على أية مادة فعالة –دون علمهم بالطبع- فكانت استجابتهم جيدة وتوسعت قصباتهم الهوائية كما لو انهم تناولوا علاجا حقيقيا.

تساؤلات تنتظر الاجابة

ما مدى قوة تأثير الدواء الزائف؟ وما آلية عمله؟ وهل يمكن الاستعانة به لتحسين معالجة المرضى؟ تثير هذه الاسئلة الجدل والخلاف في المجتمع الطبي حاليا. ويتوقع أن تساعد الاجابة عن هذه الاسئلة في القاء الضوء على عدة قضايا مثل: دور العقل في الصحة،وفعالية وسائل العلاج الجانبية كالمعالجة المثلية (هوميوباثي- وتتلخص باعطاء المريض جرعات صغير من دواء، لو أعطي لشخص سليم لأحدث عنده مثل أعراض المرض المعالج- قاموس المورد)

ينظر للادوية الزائفة عادة باعتبارها بدائل مشبوهة اخلاقيا لوسائل العلاج الصحيحة. لكن هذا الحكم حديث نسبيا. اذ انه حتى بدايات القرن العشرين كان الاطباء يستخدمون حبوبا مصنوعة من الطحين، وحقنا لا تحوي سوى الماء، لجعل المرضى يشعرون بالتحسن. (فبعض الاشخاص الذين لا يعانون من أي مرض حقيقي لن يرضوا بمغادرة عيادة الطبيب دون دواء) وكانت فعالية تلك الأدوية الزائفة تفسّر بتأثيرها النفسي أو العاطفي، وخاصة على البسطاء أو العصابيين. وبحلول أواسط القرن العشرين، ومع انتشار النظرة العلمية تجاه العلاج الطبي، لم تعد الادوية الزائفة تقبل الا في التجارب العيادية الهادفة لدراسة فعالية دواء جديد. فلم يكن مثل هذا الدواء يقبل ويعتمد الا اذا ثبتت فعاليته مقارنة مع الدواء الزائف.

واحد من كل ثلاثة

مع توالي التجارب العيادية لفحص فعالية الادوية الجديدة، دهش الباحثون من عدد المرضى الذين اظهروا تحسنا لمجرد تناولهم دواء زائفا (وهم يجهلون ذلك طبعا). وفي عام 1955 نشر الباحث الطبي الاميركي هنري بيشر تقريرا تحت عنوان " الدواء الزائف القدير"، وعرض نتائج 15 دراسة دوائية تضمنت اعطاء دواء زائف وآخر حقيقي. استنتج التقرير أن 35% من المرضى، أي نحو واحدا من كل ثلاثة اشخاص، تحسنوا باعطائهم الدواء الزائف.

أصبح هذا الرقم مرجعيا في الدراسات الطبية والدوائية، فساد الاعتقاد أن واحدا من كل ثلاثة مرضى يمكن علاجه بنجاح اذا تناول حبوبا لا تحوي سوى السكر مثلا.لكن بيشر ارتكب خطأ قاتلا في تحليله وافتراضه أن تأثير الدواء الزائف هو التفسير الوحيد لتحسّن المرضى. ففي الحقيقة هناك تفسيرات عديدة ممكنة دائما. ففي العديد من الأمراض، مثل ألم الظهر، قد يتحسن وضع المريض من تلقاء نفسه. وهكذا فان رقم الثلث هذا هو مجرد خرافة كما يقول ارفنغ كيرش، كبير خبراء تأثير الدواء الزائف في جامعة هيل.

وفي عام 2001 نشر باحثان من جامعة كوبنهاغن في الدنمارك دراسة هدفت لكشف الحقيقة حول قدرة الادوية الزائفة. فحصت الدراسة نتائج أكثر من مئة تجربة عيادية تضمنت مقارنة تأثير ثلاث ممارسات: اعطاء دواء حقيقي، واعطاء دواء زائف، وعدم اعطاء المريض أي علاج.

أثارت نتائج هذه الدراسة، وما زالت تثير، الجدل والخلاف. فقد اظهرت أن الدواء الزائف لا يفيد. وباسثناء فوائد بسيطة في حالات معينة مثل الشعور بالألم، فقد ظهر أن فعالية الدواء الزائف ليست أكبر من فعالية عدم اعطاء أي علاج!

تعرضت نتائج هذه الدراسة لانتقادات عدة، أهمها أنها قد جمعت دراسات من كل صنف وشكل، كمعالجة الرشح الى مرض الزهايمر الى التنافر الزوجي.

ويثير البعض الشك في مصداقية أي دراسة لفعالية الدواء الزائف اعتمادا على التجارب العيادية، لسبب بسيط، حسب قول فبريزيو بندتي من جامعة تورين الايطالية. فالمرضى المشاركون في تجربة لدواء جديد يعلمون أن نصفهم لن يتلقى الدواء الحقيقي، ولذلك فانه لن يكون واثقا من الشفاء. وتم تفادي هذا العيب في تجارب مخبرية أخبر فيها المشاركون أنهم سيعطون دواء حقيقيا- لكنهم في الواقع تناولوا دواء زائفا. وهنا ظهرت مؤشرات على فعالية واضحة للدواء الزائف.

أسلوب الطبيب المعالج هو الأهم

بدلا من التسليم بفعالية الأدوية الزائفة، أو على العكس رفضها تماما، تهدف بعض الأبحاث حاليا الى الجمع بين الأدوية الزائفة وأساليب العلاج الحقيقي، من أجل جعل الدواء الزائف يدعم فعالية الدواء الصحيح. فمثلا يمكن التناوب في اعطاء مسكّن حقيقي ملائم ثم دواء مزيف له الشكل نفسه. وقد لوحظ أن لشكل الدواء الزائف وكمية وأسلوب اعطائه أهمية كبيرة. فالحقن مثلا تنجح أفضل من الحبوب. لكن يبدو أن العامل الأهم هو سلوك الطبيب الذي يعطي الدواء الزائف وكيفية معاملة المريض.

ففي دراسة أجريت في جامعة ساوثمبتون البريطانية، حصلت مجموعة من المرضى على تشخيص محدّد واضح وأعطوا دواء زائفا، أو لا دواء أبدا، مع التأكيد لهم بأنهم سيشفون. بينما كان تشخيص حالة مجموعة أخرى غامضا ولم يتلقوا أي تأكيدات مطمئنة حول امكانية شفائهم- بغض النظر عن تلقيهم العلاج أو عدمه.

وكانت النتائج ملفتة للنظر، اذ أن 64%(اي نحو الثلثين) من الذين حصلوا على تشخيص واضح وتأكيدات بالشفاء تحسّنت حالتهم، وذلك مقابل 39% من المجموعة الأخرى. وهذا يعني أن أسلوب الطبيب أهم بكثير من الدواء الذي يصفه للمريض. وهكذا فاذا حصل المريض على الدواء الصحيح والمعاملة الجيدة من الطبيب فان النتائج ستكون أفضل بكثير.