العنف.. يعكس أزمة المجتمع الثقافية والأخلاقية والقيمية والقانونية

اعداد : عبدالله العتوم

مركز الرأي للدراسات

9/2009

ظاهرة العنف التي رافقت شهر رمضان الفضيل ووصلت إلى 19 جريمة تكاد تشكل مفصلا خطيرا يجب التوقف عنده، قراءة وتحليلا وصولا إلى أسباب هذه الظاهرة ومحاولة ايجاد الحلول الناجعة لها، لأن المقلق فيها ان المزاج الشعبي أصبح مستفزا وغابت ثقافة الفرح التي تطرحها وزارة الثقافة دائما خاصة في السنوات الأخيرة.. ولكن هذا الشعار ذهب هباء وفق المعطيات القائمة حاليا على الأرض وعلى ساحات المجتمع الأردني، وذهبت كل المحاولات هدرا أمام هذا الواقع.

محاور متعددة سنناقشها في هذه الدراسة ولنبدأ ببعض العناوين لهذه الظاهرة المشكلة، وسنقرأ لرأي خبراء وشيوخ عشائر ومختصين ونبدأ بما نحن منتمون له ''الإعلام والصحافة'' الذي اتهم بأنه مارس التصعيد تجاه هذه المسألة، بينما لم تخل صحيفة محلية ومحطة تلفزيون وموقع الكتروني محلي واقليمي من هذه العناوين.. مع ملاحظة ان ''الفعل ورد الفعل'' اي الاستجابة لهذه الظاهرة لا تنسجم بين حجم المشكلة ونتيجتها التي تنتهي عادة بجريمة القتل.

غياب الطاقة الروحية، والعنف المجتمعي والاسري والفردي، وتلاشي دور شيخ العشيرة او الوجيه الذي كانت كلمته مسموعة في السابق، وغياب دور شيخ الجامع، ومدير المدرسة، والمعلم، عمادة شؤون الطلبة ورئيس الجامعة في الجامعات التي تشهد عنفا والاعتداء على الاطباء والمعلمين، والاعتقاد بأن العدالة غائبة، وان هناك تنظيما عائليا او عشائريا غير رسمي، هو البديل مما أدى إلى ضعف الثقة بالدولة، وان الحقوق ستنال عبر هذا ''غير الرسمي'' وهناك شكوك بقدرة الدولة على ايصال الحقوق لاصحابها.. وبالملخص ان الجناة لا يهابون الدولة الأكثر رسوخا في المنطقة،

وسؤال يرافق الظاهرة حول دور مجلس الأمة بنوابه وأعيانه ورؤساء بلدياته الذي كان من المفترضة ان يمتص هكذا ظاهرة، لكن تداعيات الانتخابات افرزت كراهية مزدوجة للرأي العام والدولة.

كان من المفروض ان يتصدى لهذه الظاهرة علماء الاجتماع في الجامعات الأردنية المختلفة، لكنهم تخلوا عن هذا الدور، وأصبحوا مغتربين ومرعوبين وابتعدوا عن مجتمعاتهم التي بشرونا بأن الجامعات قوة تغيير في المجتمع المحلي، فلم يقتربوا من هذا المجتمع واكتفوا بشرح النظريات، لأن غياب الدديمقراطية المجتمعية التي تكرس في الوعي الجمعي اسلوب الحوار كطريق لحل الاختلافات والخلافات بعيدا عن استخدام العنف بكافة اشكاله، وعدم الوعي القانوني، واحترام القوانين وطاعتها، مما يشكل رادعا اخلاقيا والاحجام عن العنف والامتناع عن التصرفات والافعال غير المشروعة.

الدولة قبلت بدور الوسيط، وان استجابتها بصورة سريعة غير واردة لان مستوى الردع لديها ضعيف الامر الذي أصبح الناس فيه لا تهاب الدولة وفق معادلتين الاولى جرائم الشرف، والثانية الاتفاقية الدولية للقضاء على جميع أشكال التمييز ضد المر؟أة ''سيداو'' التي وقعها الأردن عام 1980، وصادق عليها في العام 1992، ورفع تحفظه عن المادة ( 15 ) من الاتفاقية ما أثار غضب إسلاميي الأردن.

الجرائم، التي تتعلق بالشرف، ربما تكون هي الأكثر انتشارا وإثارة، مما جعل موقعا الكترونيا مهما ''الجوجل'' يضع نصا يذكر زوار الموقع بأنه اضاف قسما مخصصا للجرائم في الأردن، كما يذكر بأن اداة اخبارية جديدة ستسجل على الصفحة الرئيسية.

الاحصاءات الرسمية تشير إلى أن حوالي (25) جريمة شرف تقع في الأردن وتشكل 25% من جرائم القتل التي ترتكب كل عام، وترى المنظمات المهتمة بحقوق الانسان والمرأة في الأردن، أن هناك الكثير من الجرائم لا يتم الاعلان او الكشف عنها.

وفي تقرير نشرته منظمة ''هيومان رايتس ووتش'' وثقت فيه المنظمة جرائم القتل والشروع فيه، تتعرض لها النساء على ايدي اقاربهن بدعوى الدفاع عن''شرف'' العائلة.

وهذه مشكلة لها أسبابها ويجب أن تخضع لتحقيق سكيولوجي، واجتماعي للوصول إلى نتائج دون الاكتفاء بعناء السجن اثناء ايداع النساء رهن ''الاحتجاز الوقائي'' من اجل سلامتهن، ولن تغادر المرأة السجن، الا بموافقة وصي من اقاربها الرجال بزعم انه يضمن سلامتها، وتقول ارقام صحفية ان نحو (40) من ضحايا جرائم ''الشرف'' والنساء المهددات بتلك الجرائم محتجزات حاليا رهن الحبس الوقائي.

وتنال تلك الجرائم من سمعة الأردن العالمية التي هي محل احترام وتقدير مختلف دول العالم، حيث تقول صحيفة ''كريستيان ساينس مونيتور'' الأمريكية أن جرائم الشرف تعتبر وراء ثلث الوفيات الناجمة عن اعمال العنف في الأردن.

وترد جريدة ''جوردن تايمز'' وباستحياء لتقول بأن عدد جرائم الشرف بلغ 19 جريمة ارتكبت في العام 2001، و22 جريمة في العام 2002، حيث يفوق هذا العدد احصائيات الحكومة، مع ملاحظة ان 70% من النساء اللواتي يتعرض لجرائم الشرف عذارى.

وفي المحصلة فان صحيفة ''الرأي'' في تناولها لهذه الظاهرة في الشهر الحالي قالت ان الضحية رقم (19) قد سجل في الأردن في سلسلة جرائم القتل في شهر آب الماضي.

ونضيف لمسلسل العنف.. العنف على الطرقات في المجتمع في الاسرة، الاعتداء على الاطباء والمعلمين والعنف في الجامعات، والعنف الفردي، وتعطيل سلطة القانون بحجة الاعراف والقانون العشائري، الذي يتولى الفصل في الاحكام متطاولا على هيبة الدولة مع اننا نعترف بقيم الخير والايجابية لدى العشيرة، لكننا لا نوافق على قتل سلطة القانون وكان الدولة شاهد او طرف محايد، اضافة إلى ان مؤسسات الدولة التي تنفذ قوانينها وانظمتها والاصول الادارية لديها، تتفاجأ بعشيرة او اسرة الموظف الذي يخالف تزور الوزارة او المؤسسة لتتطاول على الانظمة والقوانين لصالح احد ابنائها العاملين لدى تلك المؤسسات وتسعى لتطبيق قانونها بعيدا عن الاصول بحجة العشائرية.

في احدى المحطات الفضائية عزت جرائم العنف في الأردن إلى الأزمة الاقتصادية، العالمية،! وآخرون يعزونه إلى الفقر والبطالة وانتشار الفساد، او إلى الصيام الذي يؤدي بصاحبه إلى حالة من النرفزة وشاهدها ازمات المرور وعدم الانتظام بالتعليمات والشواخص والمسارب المرورية.

وفي مسألة التصعيد الإعلامي يقول احد المواقع الالكترونية ان مديريات الشرطة المنتشرة في محافظات الشمال ''اربد، جرش، عجلون، المفرق'' تتعامل مع نحو (60) مشاجرة يوميا ونسبت ذلك إلى مصدر امني في قيادة اقليم الشمال.. اما سبب ذلك فيقولون بأن العنف نتاج غياب الرقابة في مرحلة المراهقة، اضافة إلى احتقانات مرت عليها سنون من الزمن، وطالب البعض باللجوء إلى الأخلاق التي تعتبر صمام امان في المجتمع.

وفي مفصل آخر، فان مصدرا قضائيا افاد بأن تجميد عقوبة الاعدام شجع على الجريمة، وان وجود منظمات حقوقية محلية وعبر الحدود لا تنفك تدافع عن المجرمين، وكذلك حالات الانتحار التي طفت على السطح مؤخرا، لتشكل ظاهرة هي الاخرى، وعزا البعض هذه الظاهرة إلى ضعف الوازع الديني والاخلاقي وان الضغوطات النفسية لدى البعض تدفعهم إلى ارتكاب الحماقات، رغم انها تبدأ عادة بمشادة كلامية كان يجب ان تنتهي هناك، وكذلك استيفاء دين بمبلغ عشرة دنانيرة، او سلب سائق تكسي من اجل حفنة من الدنانير.

وفق النظرية.. وكثيرا ما نلجأ للتنظير فان خبراء يربطون ارتفاع نسبة الجريمة والعنف المجتمعي بتعرض النسيج الاجتماعي الأردني للتمزق المتسارع، ولن نتأكد من الرقم فان ادارة المعلومات الجنائية إلى وقوع 29927 جريمة في العام 2004 وتضاعف تقريبا إلى 44722 جريمة عام 2008.

وخاتمة الاحزان ? كما نتمنى - فان طفلا في التاسعة من عمره، قتل اخته ابنة السادسة نتيجة عبثه بمسدس والده الذي يبدو انه كان في متناول اليد.

واستكمالا لمحاولة التنظير فأن البعض حمل المحطات التلفزيونية والتي تبث على مدار الساعة افلام العنف والجريمة.. والمخدرات مسؤولية العنف في المجتمع علما بأن مجلس وزراء الإعلام العرب الذي ينعقد عادة في مقر الجامعة العربية في القاهرة قد اعلن ان لدينا في العالم العربي 400 محطة تلفزيونية.

الدكتور مصطفى الحمارنة

استاذ التاريخ الدكتور مصطفى الحمارنة ومدير مركز الدراسات الاستراتيجية في الجامعة الأردنية (مجلة السجل) يرجع ظاهرة العنف إلى عوامل كثيرة جدا ادت إلى هذا الوضع، وابتداء ? قال ? يجب ان نفرق بين العنف الفردي والاشكال المتعددة التي يأخذها هذا العنف، والعنف الاجتماعي الذي هو غير سياسي بالتحديد، الذي اخذ في التصاعد مؤخرا في بلادنا بشكل مقلق جدا، وهنا يجب التفريق بين ظاهرة مدينة او قرية تتحرك بشكل جماعي ضد اجراءات الدولة مثل معان والمزار في الكرك ومدن اخرى وبين تحرك جماعات او عشائر ضد بعضها البعض،ـ ولكل من هذه الظواهر أسبابها.

جوهر الحركة يعود إلى عدة أسباب اهمها غياب سلطة القانون والشعور، اما بضرورة اخذ الثأر او لا يوجد عدالة، وان هناك عدم ثقة بالقضاء لاقناع المعتدى عليه انه لا يمكن ان يأخذ حقه.

غياب سلطة القانون بشكل مستمر يؤدي إلى كثرة هذه الظواهر، وظهور حالات من الشعور عند الافراد والجماعات، تجاه كثرة عددهم او شعورهم بالتطرف بانلنزعة الفردية، وهذا باعتقادهم يجب المحافظة على موقعهم هذا.. وهو نقيض للعدالة والمساواة، وهذه تنتشر في بعض المناطق، ويتكرر انتشار هذه الظواهر، بحيث يسيطر القوي على الضعيف، ويصبح ممثلو الدولة عشيرة اخرى من العشائر في تلك المناطق.

كل هذا له اثر تدميري على التنمية والتقدم، وبالتالي هو تكريس وتعزيز للهويات الفرعية، وتفتيت للمجتمع ويتضمن هذا عوامل قد تكون جنينية في هذه الفترة، لكن قد تتطور تلك العوامل وهي في مجملها تؤدي إلى خلل واضح في بنيان الدولة الحديثة في بلادنا كما نعرف.

الوضع الآن في بعض المناطق شبيه بالظروف التي كانت سائدة قبل الامارة ? في هذا السياق المحدد ? لأن عهد ما قبل الامارة كان هناك زعامات تقليدية لها ظهورها تحد من استفحال العنف الجماعي وهذه الظاهرة، اما الآن فان معظم النخب السياسية والحزبية والثقافية، حضورها محدود جدا، وحلقات ادارة الدولة العليا، المعنيين بفرض القانون لا يعرفوا ما يعملون، ويتصرفوا وكأنهم زعامات محلية.

الملفت للنظر في كل ما يجري انه اذا تظاهر (20) نقابيا أمام وزارة تتدخل الدولة وتتحرك بعنف غير ضروري وغير مطلوب، واذا ما تحرك عمال الميناء للدفاع عن مصالحهم تستعمل الدولة العنف ضدهم ايضا، لكن لا تحريك لساكن لمنع تفتيت المجتمع.

ما دور مؤسسات الدولة والمجتمع التي ملأت الدنيا طولا وعرضا وعقدت الندوات وورش العمل وصرحوا في الصحافة والإعلام، وهناك كوادر وقيادات لهم تشبه الوزارات.. والجواب.. ان معظم هذه المؤسسات انبثقت من فوق، هدفها الاساسي ليس تنمية قدرات الشباب او حماية الاسرة، بل هي ادوات ضبط وتوجيه الطاقات لضمان الامن والاستقرار السياسي، كما هو مفهوم ومعروف بحلقات ادارة الدولة العليا.

وهذه مؤسسات خاوية ليس لها مصداقية لا بين افرادها داخل المؤسسة ولا بين الناس.

المؤسسات والاطر السياسية والاطر المصلحية يكون لها مصداقية، وتأثير كبير في المجتمع اذا انطلقت من تحت، واتفقت على مجموعة من الاهداف والبرامج والافكار، وعملوا بشكل مؤسسي لتقديم عمل وتراتيبية واضحة داخل المؤسسة ومساعدتها لتكون لها مصداقية ونفوذ لمن حولها.

مثال ذلك.. الثقل المعنوي الكبير الذي كانت تتمتع بها القوى السياسية واليسارية والقومية في الشارع قبل عام 1989، والنفوذ والاحترام الذي تتمتع به هذه الأطر من ناحية الافكار والاشخاص.

خمسينيات وستينيات القرن الماضي ليست تسعينيات ذلك القرن الماضي، وليست العقد الاول من الألفية الجديدة، وسجل تاريخنا مراحل شهدت على صعيد توحيد المجتمع وبروز الهوية الوطنية على حساب الهويات الفرعية، وكان الاشخاص الأكثر نفوذا في الشارع هم الذين يعملون في الشأن العام، وتصدوا للقضايا الوطنية والقومية العليا.

ايقاف تفتيت المجتمع وتحويله إلى مليشيات يتطلب نهجا سياسيا واقتصاديا وثقافيا من نوع آخر، وبرأيي علينا العودة إلى روح 1989، وما كنا نحلم بتحقيقه من توحيد للمجتمع ودمقرطته، يقوم على المواطنة ويسوده القانون، من اجل ذلك يجب ان تتوفر الارادة السياسية على اعلى المستويات، وعلينا ان نبدأ بتغيير قانون الانتخاب حتى يستطيع الناس ان يمارسوا حقوقهم، وحتى يتأطروا طوعا في الاطر التي تساعدهم في حماية مصالحهم، وبالتالي دفع عملية التقدم إلى الأمام.

يرتبط بذلك ان يكون هناك إعلام مرئي ومسموع مستقل يسمح بتعميم وتعميق التعددية في كافة اشكالها في بلادنا، وعلينا ان ننتبه الآن ? ولا يوجد وقت ? للاصلاح الحذري في النظام التعليمي في بلادنا من البستان حتى الدكتوراة، وجميعنا يعرف اين تكمن المشكلة في تدني المستوى الفاضح للهيئات التدريسية على كافة المستويات.

وفي النهاية، فان فشل اهم مؤسستين في الأردن ''الاسرة والمدرسة'' أدى إلى ما وصلنا اليه الآن.

في التاريخ نجاح وفشل المجتمعات هنا وهناك، مجتمعات انقرضت واخرى تطورت، في اميركا اللاتينية (الجنوبية) تشيلي والسلفادور، الاولى دولة معاصرة يسودها القانون، وتنبض بالحياة كمجتمع، والثانية تجد نفسها في وضع لا يمكن ان تتقدم بالشكل الذي تقدمت به تشيلي، نرجو ان لا يختار الأردن نموذج السلفادور.

د. حسين محادين

وفي دراسة أعدها أستاذ علم الاجتماع في جامعة مؤتة الدكتور حسين محادين '' للرأي '' يقول فيها أن العنف أبتداء هو قلة الرفق كما ورد في معجم لسان العرب ،وبمعنى سلوكي مواز يمكنني القول ؛ هو الغلظة في التفكير والسلوك العنيف المعبر عنهما تبادليا بين اطرافه سواء اكان:- لفظيا او جسديا او نفسيا أو جنسيا او حتى تهديدا واهمالا للاخرين افراد ومؤسسات ، والاخيرتان هما مايعرف تكثيفا بالعنف المجتمعي لغايات الفهم والتحليل في هذا السياق التفكيكي للسلوكات العنيفة.اذ تتأثر طبائع الناس وسلوكاتهم بجغرافية امكنتهم كما يرى العلامة ابن خلدون.

* ولعل الجذر الاساس المحفز أو الكابح معا للسلوكات العنفية في يومياتنا هي بنية الثقافة الفكرية والاقتصادية والمطلبية التي يتمثلها اعضاء المجتمع الاردني؛ والتي يتشربونها فعلا من المؤسسات المرجعية انطلاقا من الاسرة المتمثلة بالقيم والخبرات التي يستأثر في بثها''رب الاسرة'' بقداسته المفترضة،و التي مازالت عموما وعلى سبيل المثال تستلب الانثى المساواة بالمعنى الانساني وهذه بأعتقادي المحطة الاولى التي نتشرب منها معنى وممارسة الاستبعاد الاجتماعي لأكتمالنا وتوازننا كبشر،وتحديدا من داخل عقولنا افراد واسر ضمن مؤسسة التنشئة الاولى وخبرات طفولة كما يرى عالم النفس فرويد،والتي ستشكل لاحقا سلوكاتنا في تمثل وامتصاص بذر العنف باطيافه المتعددة. وبعدها تنتقل ملامح العنف عبر استخدمات اللغة والتربية اللتان لا تؤمنان بحوار الاجيال والفروق الفردية بين الافراد. فالاسرة الاردنية المختزلة بالاب للان والمتحكمة بالقرار لاتمنح الفرد وحتى الابن الذكر فرصة المشاركة أو حتى الاصغاء اليه مكتفية بعبارة''أكبر منك يوم افهم منك سنه'' ، وبالتالي ان الخبرات السابقة في حياتنا افرادا واسر ومناهج تعليمة تلقينية ايضا انما تعمق الاقرار بتلقي السلطة والحكمة من الاعلى والاكبر وفقا للمعيار الرقمي للاعمار فقط وترافقا مع انمحاء الشخصية المحاورة والقادرة على التكيف الايجابي في الازمات الحياتية التي تواجهنا كافراد غير محاورين من جهه ؛ ومن الجهة الاخرى؛ فاننا عمليا ابناء لمجتمع اردني عربي رضعنا منه قيم البداوة وثقافة المغالبة وازدواجياتهما السلوكية عبر شخصية البدوي المتناقضة'' سلاب ووهاب في ان'' كما يرى د. الراحل علي الوردي. او ليس من المفارقة التأثير على سلوكاتنا ان يشكل الماء ما يقارب ثلاثة ارباع جسم الانسان وكذلك الكرة الارضية ، في حين تشكل الصحراء ما يزيد على 80% من مساحة الارض الاردنية والعربية كاستثناء لافت في تشكيل سلوكاتنا الصراعية بين الذات الانسانية والارض كعامل موضوعي في داخل شخصيتنا الاردنية والعربية في آن. لكن وبرغم التحولات المادية المتسارعة التي نعيشها الان، الا ان علينا الاقرار الواعي بأن الجذور الثقافية للبداوة- وهي هنا للتشخيص- ما زالت تشكل نسغا واضحا في اليات تصرفاتنا مع انفسنا والاخرين للان في حياة شبه مدنية يمكن ان نصف بها ظاهر لعلاقات مجتمعنا الاردني ،في حين ان باطنها عكس ذلك ربما والدليل ما نشهده من عنف وحدة في تعاملنا مع انفسنا ومع افرازات التكنولوجيا كأرتفاع نسب حوادث السيارات،وكذا تعاملنا الحاد مع الهاتف الخلوي،او حتى مع المفرقعات وفي الاعراس والنجاحات الدراسية لابنائنا..الخ.

@ علميا ومن منظور علم الاجتماع الثقافي، ليس بوسعنا الوصول الى العوامل/الجذور المفضية الى كل هذه الانماط من سلوكاتنا العنيفة مجتمعيا وبنسبها الآخذة في الارتفاع بصورة خطرة، قبل ان نفهم ونستحضر في هذه المقاربة التحليلية لحياتنا كاردنيين مقارنة بجذورنا الثقافية؛ ومعرفة ما نسب تبادلية الاثر والتأثير بينهما في الوقت الراهن؟ ونتسائل هنا؛ الا ينظر البدوي عادة الى اهل الريف والمدن بأنهم جبناء او متخاذلين في الحد الادنى تأريخيا، فهل يمكن الاستنتاج بأن البدوي الصغير القابع بدواخلنا ذكورا واناث كأردنيين عرب للان؛ مازال يشكل الجذر الكامن للتبريرنا او بقبولنا الضمني بالعنف المتنوع او ثقافة المغالبة التي نعيشهما للان معبرا عنهما بالالتفاف والتجاوز سلوكيا على نظام الدور او حتى المواعيد المعلنة مسبقا في بعض شركاتنا او عيادتنا ، وعلى كل ما مؤسسي وعام - خصصناه تمشيا مع متطلبات اليات السوق التي هي بلا رقيب على الانسان وبصورة متسارعة اضعفت متانة وتكافل النسيج الاجتماعي التقليدي فسقطت مصلحة تبادلية المنفعة بين المواطن والقطاع العام بالمعنى الامني والاقتصادي المتبادل ؛ مما ولد انماطا اجتماعية من السلوكات الجديدة على مجتمعنا والتي تحمل معنى الفهلوة والكسبة والقيم الفردية والتفكك الاسري وافول الشرائح المتوسطة،واهتزاز القيم النمطية المرتبطة بالارض والعرض مقارنة بالسابق انتشار اعمال والسمسرة من كل ما هو مال عام وحكومي ''دين الحكومة مو دين ، اكل مال الحكومة حلال''؛كما ان سيادة منظومة الواسطة وعدم الانتهاء من الواقع غير المبرر لما يعرف بالمناطق والافرد الاقل حظا، وبالتالي الاكثر فقرا وتعلما ووعيا رغم التساوي في دفع الضرائب للدولة المركز.

@ ان العوامل السابقة والمتداخلة قد اسهمت وبنسب متفاوتة في ان يطفو العنف على وجه مجتمعنا الذي لطالما اكدنا بأنه محافظ وآمن؛ وبالتالي في ظل هذه الاختلات المتراكمة في البناء والتمايز الاجتماعي والاقتصادي الصارخ بين شرائحة - فقد اشارت دراسة لمركز الفنيق المستقل الى ان90% من الشعب يتقاضون 300دينار في الشه ر- وارتفاع تكاليف الحياة علاوة على ضعف المشاركة السياسية المرتبط بخيبة الامال من افرازات الانتخابات عموما والدور التأتيري الكبير والمحبط معا لتأتير المال السياسي فيها بالنسبة للاكفياء من الفقراء كاغلبية، لذا يصبح '' الانتحار والثأر من الاخرين وممتلاكتهم بمعزل عن المؤسسات القانونية والمدنية رغم وجود هذه التنظيمات ، والقبول الجمعي باقتناص حق الاخرين الاكثر كفاءة وتأهيلا في العمل او الابتعاث او حتى تبوء الوظائف العامة سلوكا متوقعا ، وهذا شكل من اشكال العنف ايضا ؛ خصوصا وان فكرة القبيلة/ الدولة عربيا ما زالت جاثمة على قاموس حياتنا وهي التي تصرف اعمالنا بذات الوقت، وعليه ليس صعبا اذا اردنا ان نتوقع ونفسربالمعنى العلمي ردود افعلنا العنيفة والتي تسيدت ايامنا في الشهور القليلة الماضية للاسف. كيف لا وهي-رغم مخالفتنا لها- الرد العملي الصارخ والرافض للسائد الحياتي في سياسة الشيخ/النفوذ المتحكم في واقعنا، سواء كانت حقيقته او مسماه فهو غير العادل كونه الواهب للاخرين فرصهم وليست المؤسسية التي ننادي بها منذ امد بعيد والتي من اجلها اسسنا المدارس والجامعات ،وطورنا المباني الدينية، وخرجنا الاعداد الكبيرة من المعلمين والوعاض ،وبرغم هذا كله ربما اخفقنا جزئيا في تنحية أو لجم الفرد ''الشجاع '' كقيمة غاطسة لدينا،او حتى الفارس الكامن بدواخلنا من ان يفعل ما يشاء او مايراه مناسبا من عنف او قتل ، خصوصا وانه مؤمن وبثقافته المجتمعية ؛ ان الاخرين من ابناء جلدته سيتبعونه عنوة وضمنا على هيئة تكافل لحل مخالفته الشنيعة او حتى من خلال الجلوة. وتساوقا مع هذا التحليل نجد ان ارادة المجتمع تنحني امامه ، هذه الارادة التي تراخت بدورها في الدفاع عن هوينا المجتمعية الآمنه عبر القوانين المتعاقد عليها بين السلطات الاربع.

فالمعنف او القاتل وكما جرت العادة لا نتركه جميعا للقضاء الصارم كما يرتجى للان، وبغض النظر عن مستوانا التعليمي والوظيفي. أقول وكأننا بهذا الموقف اللافت لانخالفه عمليا رايه او سلوكه المدان لفظيا من قبلنا عادة؛ وكأن هناك جزءا من التواطىء المجتمعي مع العنيفين سلوكيا؛ ومرد ذلك بأعتقادي الى ان هذه السلوكات تناغي أو تتماهى مع ما بداخلنا من قيم عنيفة جمدتها بعض المظاهر الحداثية في مجتمعنا كالعمل في الوظائف الحكومية وتحت انظمتها ، والدليل على هذا التماهي هو بقاء ازدواجية القوانين العشائرية والمدنية للان، او استمرار العمل بتلك الاساليب المزدوجة-رسميا ضمنا-وعشائريا التي تم من خلالها تجميد ولا اقول حل جرائم القتل في عجلون، او الكرك، او الصلحات التي تمت بين عشيرة اردنية مع نقابة الاطباء، او الاعتداء على بعض رؤساء جامعاتنا.. الخ في الاعوام الاخيرة ، حيت جسدت هذه الحلول تراجعا في معايير المؤسسية الاردنية التي نعتز بانجازاتها ضمنا ولصالح عدوى سلوكية بالمعنى الاجتماعي مختزلة بمقولة الجميع المتعلمين ؛رغم وجود ثلاثين جامعة اردنية، والتحاق 6,1 مليون طالب وطالبة للدراسية في بداية السنة الدراسية الحالية- وغيرهم '' ان انجنوا ربعك عقلك ما بفيدك'' فالربع كما يفهم عنفي السلوكات هم العوض عند غياب او ضعف السلطات الرسمية وعدالة قوانيها الناظمة للحقوق والواجبات وفي تحقيق نوعا من العدالة بين الجميع كما يفترض.

ولعل السؤال هنا ؛ الا تتحول الحكم والمواعض بجذورها الدينية والتي قلت كثافتها الدينية لصالح ثقافة الرقم الدنيوية الى فرض كفاية، مع احترامنا للايمان وضرورة سيادته. هذه الحكم التي نطلقها عادة بعيد حدوث اي شكل من اشكال العنف وفي ذروته قتل النفس التي تمثل قتلا للانسانية جمعاء كما يؤكد ديننا الاسلامي العظيم.

اخيرا نادي محادين بضرورة اقامة الحورات الهادفة والحملات التوعوية وصولا الى اعادة وتطوير ادوار مؤسساتنا المرجعية-الاسرة المدرسة الجامعة والمسجد والكنيسة واعلام الصورة والخبر والقانون - بداء من اهمية اعمال الحوار التسامحي في ما بيننا وخلق النماذج الفكرية والحياتية محليا والتي تقديم الحوار وقيمه المطلوب تعميقها وتقديمها على اي فكر احادي او جهوي عنيف ظاهرا او في الباطن، والسعي عبر مؤسساتنا المرجعية لتعديل سلوكاتنا وان بأمكاننا الوصول الى حلول توافقية لا الغائية في مجمل خصوماتنا او اختلافاتنا على ارضية من الكلمة الحسنى ، وسيادة القانون المدني، وتقديس حياة الانسان كمستخلف لاعمار واعمال الخير وقيمه على وجه هذه البسيطة المستدامة الحوار - ليس القتال- والاجيال.

أ.د. ذياب البداينة

وحول الموضوع أشار نائب رئيس جامعة الحسين الأستاذ الدكتور ذياب البداينة إلى أن هذا العصر عصر التحولات والتغيرات الكبرى في البنى الاقتصادية والاجتماعية والاتصالات، عصر العنف على جميع مستوياته الفردية (الانتحار) والجماعية، والصراعات والحروب، عصر يمثل فيه الشباب أفضل استثمار، عصر فيه النظام التعليمي غير مجهز ولا مناسب لاعداد الجيل لتكوين مجتمع متسامح في ظل انتشار الايدولوجيا المتطرفة في مجتمع متنوع. إن حاجة الشباب على وجه الخصوص كبيرة لمعرفة كيفية العمل الجماعي في مناخ متسامح؛ لتحقيق الأهداف الشخصية والاجتماعية، وهم بحاجة إلى أن يتعلموا كيف يفكرون، وكيف يصغون للآخر، وكيف يتواصلون ويوصلون أفكارهم بفعالية، وأن يفهموا مبادئ التسامح وتطوير مهارات حياتية لمستقبلهم.

فعلى على المستوى الدولي قد عانت البشرية من آثار الحروب والصراعات. ففي القرن العشرين هناك حربان عالميتان و(20)عشرون حربا بين الدول وعشرون حربا أهلية كبيرة وستة (6) مذابح نجم عن هذه الحروب مائة (100) مليون قتيل في الحروب بين الدول، ومائة (100) مليون قتيل في المذابح والحروب الأهلية، وما بين مائة إلى خمسمائة (100-500) مليون لاجئ ومشرد، وثمانية (8) مليارات طن من المتفجرات (1300كغم/للشخص قي العالم) و(100) ألف طن من الكيماوي تم تطويره، وبمعدل (15غم/للشخص)، بالإضافة إلى تكوين شبكات الإرهاب. ولقد عبر الأمين العام للأمم المتحدة السابق كوفي عنان بقوله: ''سيذكر القرن العشرون بأنه القرن الموسوم بالعنف، انه يحملنا موروثا هائلا من العار والخراب والتدمير الشامل الذي لم يشاهد من قبل، ولم يكن ممكننا في تاريخ البشر، وهذا الموروث الناجم عن تسخير التكنولوجيا الحديثة في خدمة إيديولوجيات الكراهية'' وعلى المستوى المحلي، فيعد المجتمع الأردني مجتمعا أبويا يسيطر فيه الذكور على الإناث وعلى القرارات المادية، وعلى المصادر المالية، والاجتماعية. الذكور مفضلون على الإناث وينظر لهم على أنهم أقوياء مستقلون، وغير عاطفين وعدوانيين في حين ينظر إلى الإناث على أنهن ضعاف وتابعات وعاطفيات ومسالمات. أن توزيع القوة في الأسرة توزيع هرمي، حيث يقع الذكور في أعلى الهرم والإناث والصغار في أسفله، ومن هذا المنظور يمكن رؤية العنف الأسري كمهدد لأمن الأسرة، وعلى إنه ممارسة للقوة (الذكرية) لتحقيق السيطرة والتحكم بالأسرة.

ومن خصائص الأسرة الأردنية توحد الهوية (Identification) فالفرد يشترك مع الجماعة (الأسرة والعشيرة) في الأفراح، والأتراح. فالإنجازات للجميع والإخفاقات على الجميع، وبالتالي فأن كثير من المشكلات التي تعترض الفرد غالبا ما تكون جمعية (collective problems) ، ومسؤوليتها جمعية (collective responsibility) وخاصة في جرائم القتل، والاغتصاب وما يسمى بجرائم الشرف وحلولها جمعية (collective action). الشرف للجميع والعار على الجميع والمسؤولية على الجميع. الفرد في الأسرة عضو وليس فرد مستقل، فعضوية الأسرة قرابية (أبو فلان)، أب، أخ،... إلخ. وفي هذا النمط من المجتمعات تسود ثقافة العيب وليس ثقافة المسؤولية، وأحيانا يمكن أن تثار نزاعات راكدة لسنوات بسبب وصم أحد الأفراد لفرد آخر بقضية ثأر أو جريمة شرف. وللعامل الاجتماعي أهمية كبيرة في تحريك سلوك الانتقام أو القتل أو الثأر أو جرائم الشرف، والسبب هو في العضوية والتوحد الاجتماعي وثقافة العيب الجماعية. ومن الخصائص الأخرى للبنى الاجتماعية الطاعة، والدونية على أساس النوع والعمر، وفي مثل هذا الوضع الاجتماعي لا غرابة في انتشار سلوك العنف الموجه نحو الذات ( الانتحار) بين الإناث والشباب بشكل أكبر من شيوعه في الفئات الاجتماعية الأخرى وذلك لأن هذه الفئات تمثل الفئات غير المتكاملة وغير المتكافلة اجتماعيا. وهي الفئات التي تمارس عليها القوة وتحشر في زوايا ضيقة، مما يجعلها تحول عدوانيتها نحو الذات لصعوبة توجيهها نحو الأخر المهم (الأب، الزوج،... إلخ) الأسرة الأردنية أسرة متحولة فهي نووية البناء ممتدة الوظائف، ولا تتوقف سيطرة الرجل فيها على الأنثى، والصغار، والأسرة، بل تشمل السيطرة على المصادر المادية والاجتماعية، ذلك أن الرجل مسؤول عن تأمين دعم الزوجة ماديا مقابل الخدمات الأسرية والإخلاص، فالسيطرة على الزوجة ليست سيطرة قوة وجنس بل سيطرة مالية. فشرف الرجل يقاس بإخلاص الزوجة وإذا ما انحرفت الزوجة (أو الأنثى عامة) فأن إعادة الشرف ليست مسؤولية الزوج وحده، وإنما للأسرة والعشيرة، ونظرا للوصم الاجتماعي الشديد لمثل هذا الانحراف، فأن ردة الفعل الاجتماعية تجاه مثل هذا الانحراف شديدة وتنتهي بقتل الأنثى أحيانا.

إن القوانين الجنائية في الأردن وسوريا ولبنان والتي تشمل جرائم الشرف تسمح بالتساهل أو تهرب الذكور من العقاب على مثل هذه الجرائم. إن أصول هذه القوانين يمكن إيجادها في القوانين العثمانية، والفرنسية والأسبانية والإيطالية. أما المادة (340) في القانون الأردني فهي مشابهة لقتل الحب في الولايات المتحدة والذي يبرر بأن الرجل لا يستطيع التحكم في غيرته، وعدوانيته عندما يرى زوجته تضاجع رجلا آخر.

إن القبول الاجتماعي لكثير من سلوكيات العنف تحت غطاء الثقافة الاجتماعية عامة، يجعل من حجم المشكلة حجما كبيرا. إن الثقافة الاجتماعية الأردنية تقبل استخدام العنف مع الطفل أو الزوجة كنوع من أساليب التأديب، وهذا القبول دعم كعرف اجتماعي. فإيذاء الفرد، أو إلحاق الأذى به (الجسدي أو الجنسي أو العاطفي) غير مقبول من الناحية الدينية، بل إن الإسلام يحث على الإحسان حتى للحيوانات حين ذبحها واتخاذها طعاما. وفي التراث الإسلامي فالمرأة التي دخلت النار بسبب هرة حبستها حتى ماتت، ولم تقدم لها ما يحفظ حياتها من طعام وماء. ورجل دخل الجنة بسبب تقديم الماء لكلب يعاني من الظمأ. إن تجذر مثل هذه السلوكيات في الثقافة الاجتماعية، جعل مشكلة العنف الأسري مشكلة عصية الحل وتحتاج لجهود كبيرة للوقاية منها ومكافحتها.

تعد الأسرة أول جماعة مرجعية يتفاعل معها الفرد بشكل مباشر، لأنها تحتضن الفرد في سنواته الأولى، وفيها تتشكل شخصيته? وتتكون لديه البنى والتراكيب النفسية والاجتماعية، وفيها يتعلم ويكون نظام القيم وقواعد السلوك التي تشكل معايير وأطر مرجعية في سلوكه وأفعاله. لقد أصبحت الأسرة تعاني من مشكلات جمة أهمها مشكلة العنف داخلها، وهذه مشكلة اجتماعية. وبشكل تراكمي بدأ الرأي العام وعامة المجتمع بالانتباه بأن الأهل يسيئون معاملة أطفالهم وأن الأزواج يضربون زوجاتهم ويسيئون معاملتهن، ومنذ تلك الفترة أخذ موضوع العنف داخل الأسرة، يأخذ اهتماما كبيرا في الإعلام والبحث العلمي وفي النظام العدلي في غالبية المجتمعات. تعد مشكلة العنف داخل الأسرة مشكلة وطنية وعالمية، وهي مشكلة متعددة الوجوه : (Multifaceted Problem) صحية، واجتماعية، واقتصادية، وثقافية، وهي جريمة.

إن المكانة الدونية للمرأة والطفل الناجمة عن الممارسات الخاطئة قد جعلها ممارسة القوة داخل الأسرة من قبل الآخرين أكثر على هذه الفئات، حيث استخدمت أشكال منوعة من العنف الأسري لقمعها وإجبارها، وهذا ممكن الحدوث بين كافة الطبقات والمستويات الاجتماعية والاقتصادية في المجتمع، فهو ليس حصرا بجماعة أثنية وأخرى، أو بفئة عمرية، أو بمستوى تعليمي. وللعنف داخل الأسرة أشكال متنوعة منها على سبيل المثال لا الحصر العنف الجسدي، والنفسي، والعنف الجنسي والإهمال... إلخ، ويمكن أن يقع العنف الأسري على أي من أفراد الأسرة كالطفل أو المرأة أو الرجل أو المسن، أو المعرضين للخطورة من الشباب وذوي الاحتياجات الخاصة. وفي الغالب يقع أكثر من شكل من أشكال العنف داخل الأسرة الواحدة.

وغالبا ما يرتبط العنف بالقمع وإهانة النفس البشرية وتقييد الحرية، مما ينجم عنه مشكلات نفسية وصحيــــة تصيب الشخصية الإنسانية في جوهرها، وتؤثر على سلوكيات الفرد وتفاعلاته الاجتماعية المستقبلية. وتزداد خطورة العنف عندما تكون ساحة ممارسته هي الأسرة، الأسرة التي يفترض بها أن تكون البيئة الآمنة للفرد، مما يؤدي لانحراف الأسرة عن وظائفها الاجتماعية، وتصبح مخرجاتها ضحايا عنف وأفراد غير قادرين على البناء في مجتمعاتهم، وبالتالي تفشل الأسرة في تمكين أفرادها من المشاركة الفاعلة في التنمية البشرية أو الاستفادة من مردوداتها. إن فشل الأسرة في أداء وظائفها يهدد الوظائف والأدوار الاجتماعية في المجتمع عامة، مما يتطلب جهودا مشتركة للكثير من المنظمات الرسمية وغير الرسمية لمواجهة هذه المشكلة.

ولقد تبين أن عواقب العنف الأسري لا تتوقف عند الإصابات الجسدية أو النفسيــة، حيث أن نسبــــــــة كبيرة مــــــن تكاليف العنف داخل الأسرة تنجم عن أثره على صحة الضحايا، بالإضافة إلى العبء الذي تتحمله المؤسسات الصحية والاجتماعية والاقتصادية، أن لضحايا العنف داخل الأسرة مشاكل تتطلب الرعاية الصحية والنفسية والاجتماعية بشكل كبير ومستمر، وللعنف داخل الأسرة نتائج سلبية على الاقتصاد الوطني مثل التكاليف المباشرة للرعاية الصحية والطبية، والنفسية والاجتماعية، وتكاليف منظمات وخدمات القطاع الأمني مثل المحكمة والشرطة، ومراكز التأهيل والإصلاح، وتوفير المأوى، وفقد الإنتاجية نتيجة للموت المبكر أو الإصابة أوالغياب الطويل أو العاهة المستديمة، وانخفاض جودة الحياة ونقص القدرة على رعاية الذات أو الآخرين، وتخريب الأملاك العمومية والبنى التحتية التي تؤدي إلى تعطيل الخدمات كالرعاية الصحية والنقل، وتعطل الحياة اليومية نتيجة الخوف على السلامة الشخصية، ونحو ذلك.

وإدراكا من منظمة الصحة العالمية لهذه المشكلة وتأثيراتها على التنمية الصحية والنفسية والاجتماعية، والعواقب المتزايدة ، أعلنت بأن: العنف مشكلة صحة عامة عالمية في الطليعة، وطلبت المنظمة العالمية من مديرها العام إطلاق مبادرة فعاليات الصحة العامة للتصدي لمشكلة العنف ضمن الموارد المتاحة.

وعلى مستوى الطفل هناك (6) فئات رئيسة في العنف الأسري هي:- سوء معاملة الطفل، والعنف الجسدي، والعنف الجنسي، والعنف العاطفي، والإهمال الجسدي ( الصحي)، والإهمال التربوي، والإهمال العاطفي. ولقد أكدت التعاريف الأولى للعنف داخل الأسرة على العنف الجسدي تجاه المرأة من قبل الزوج أو الأهل. أما سوء معاملة المسنين فقد عرفت لتشمل العنف الجسدي والجنسي والنفسي والإهمال. وعلى أية حال يشمل العنف ضد المسنين الاستغلال وسوء المعاملة المالية. ولقد وسع تعريف العنف داخل الأسرة ليشمل ما المقصود بالأسرة. فهل تشمل الأسرة الأزواج والأزواج السابقين، والأسرة الممتدة والأسرة الوالدية، والأسرة الحالية (الزواجية). أما ما يخص سوء معاملة الطفل فقد تم التمييز بين سوء المعاملة والإهمال، حيث أن تعريف الإهمال محدد بالأفعال من قبل أهل الطفل أو مقدموا الخدمة القانونيين. أما سوء معاملة الطفل الجسدية والجنسية فلا يوجد اتفاق حول كيفية تحديد الجناة. وكذلك في سياق العنف الأسرى فأن الغرباء لا يتضمنهم تعريف العنف داخل الأسرة. ويعد أحيانا الإهمال الذاتي عنف ذاتي عند المسنين، بالإضافة لذلك فأن العنف بين الأزواج وعنف الأطفال الموجه لوالديهم ربما يتم تضمينه في

تعريف العنف داخل الأسرة.

أظهرت دراسة العامري (1998) والتي أجرتها على مجموعة من طلبة الجامعات أن (86%) منهم اقروا بوجود العنف داخل أسرهم. كما دعمت دراسة البداينة والشقور هذه النتيجة حيث بينت ان (87%) من الطلاب قد أفادوا بحدوث عنف اسري في أسرهم وان (75%) منهم قد تعرضوا لأحد أشكال العنف.

العنف الطلابي

وفي المسح الوطني الذي نفذه البداينة والطراونة والعثمان وابو حسان (2009) على 4000 طالب وطالبة، استجاب منهم 3702 طالب وطالبة، من 19 جامعة حكومية وخاصة. خلصت الدراسة إلى أن السلوك الطائش الطلابي، منتج اجتماعي، متجذر في المؤسسات الاجتماعية الرسمية وغير الرسمية وفي المجتمع المحلي، ومتصل ومتحرك من الأسرة إلى باقي مؤسسات المجتمع؛ تساهم في إنتاجه النظم الشخصية، والمؤسسية، والاجتماعية، ويزداد بزيادة شعور الطالب بعدم الإنصاف والعدالة. وهو سلوك متعلم، وعابر للمؤسسات الاجتماعية، ولما بين الأجيال، وهو موجود في كل الكليات الجامعية.

عوامل الخطورة

وتركزت عوامل الخطورة في المدرسة على عدم المشاركة في الأنشطة المدرسية، ومشاهدة العنف، والتدخين من قبل الزملاء، وعدم الشعور بالأمن، وكذلك الشعور بالتحيز ضد الطالب، وعدم الشعور بالعدالة، والتسرب من المدرسة، والتعود على التدخين وكانت أقل عومل الخطورة تكرارا، التغيب عن المدرسة، والشعور بالخوف، والتحصيل المتدني، والمشاركة في الشجار داخل المدرسة، والتعرض لأحد أشكال العنف والتعرض للضرب من قبل الزملاء، والمشاركة في تحطيم بعض ممتلكات المدرسة، وتناول الكحول، والتحرش بالآخرين، والتحرش بالطالب، والشعور بالإقصاء، والشعور بالعجز.

وكانت أكثر عوامل الخطورة في الجامعة عدم المشاركة في الأنشطة المصاحبة، والتدخين، وعدم الشعور بالأمن، إضافة إلى مشاهدة أحد أشكال العنف وعدم الشعور بالعدالة والشعور بالوحدة وكذلك عدم الشعور بالافتخار.

أما عوامل الخطورة الأسرية، فقد كانت وفاة الأب أو الأم، وزواج الأب المتعدد بأكثر من زوجة، وعدم الالتزام الديني في الأسرة، وعدم الالتزام بالأعراف الاجتماعية، وقبول التدخين في الأسرة، وكثرة الشجار في الأسرة، وضعف الإدارة الأبوية، والتعرض للضرب في الصغر، والشجار بين الوالدين، والشعور بالخوف داخل الأسرة، كما تبين ندرة وجود عوامل الخطورة مثل قبول تعاطي الكحول والمخدرات في الأسرة، وتعرض أحد أفراد الأسرة للسجن، وضرب الأم أمام الأطفال، وضرب الطالب عندما كان طفلا مع أخوته.

وفي مجال عوامل الخطورة الشخصية فقد كانت عدم الالتزام الديني، وبعدم الالتزام بالعرف والتقاليد الاجتماعية، وعدم الشعور بالانتماء، والتدخين والشعور بالاغتراب، أما بقية العوامل فقد كانت الشعور بالإقصاء، والمعاناة من المشكلات الصحية، والتعرض للضرب في الصغر والشعور بالخوف.

أما أعلى نسب عوامل الخطورة المرتبطة بالرفاق فقد كانت الغش في الامتحان، وعدم وجود أصدقاء حميمين، وعدم الشعور بالمسؤولية نحو الأصدقاء، وقيام الأصدقاء بشجار مع الآخرين.

أما الجهود المبذولة لمقاومة عوامل الخطورة في المجتمع المحلي، فقد أفاد أقل من النصف بقليل (43%) بان هذه الجهود كانت كافية. أما وفق الجهات التي تقوم بمقاومة عوامل الخطورة حيث احتل المسجد أعلى النسب حيث بلغت حوالي الثلث تلاها الجيران فالمدرسة فالمراكز الاجتماعية وكان أقل هذه الجهات في مقاومة عوامل الخطورة الاعمال التطوعية فالأسرة.

العنف الأسري وفي مجال العنف الأسري أفاد حوالي ثلث العينة بأنهم خبروا العنف الأسري في صغرهم، وان حوالي الثلثين قد تعرض لأحد أنواع العنف في آخر (12) شهر. كما أفاد حوالي خمس العينة بان الأب قد كان غائبا عن المنزل في فترة طفولتهم، وان الأب هو الذي يتخذ القرارات في الأسرة. وان ثقافة العنف منتشرة في أكثر من نصف معارف أسر الطلبة.

تبين أن هناك معرفة على نطاق واسع بمشكلة العنف الطلابي في الجامعات حيث أفاد ثلثا العينة بأنه في آخر(12) شهر يعرف عن العنف الطلابي، وان أكثر من ثلثي العينة يعتقدون بخطورة العنف الطلابي كمشكلة اجتماعية، كما أفادت الأغلبية المطلقة بوجود العنف في المجتمع المحلي، وأفاد أكثر من نصف العينة بوجود العنف في أسرهم.

المشاجرات الطلابية

أفاد (73%) من العينة بمشاهدة أحد أشكال العنف، وقد شاهدوا في حوالي أكثر من ثلثي العينة (3) مشاجرات طلابية فما دون. ولقد أفاد حوالي ثلث (30%) الذين شاهدوا العنف بانهم شاركوا في إحدى هذه المشاجرات أي حوالي (22% من العينة الكلية)، ولقد شارك في هذه المشاجرات وبالمتوسط خمسة طلبة في حوالي في حوالي أكثر من ربع العينة.

أما وفق العلاقة مع مجموعة الشجار فقد شكلت الزمالة الجامعية حوالي أقل من الثلث بقليل، في حين كان لزمالة القسم والكلية أكثر من العشر بقليل لكل منهما، أما القرابة فلم تشكل إلا حوالي السبع، في حين بلغت الصلة العشائرية حوالي أقل من الخمس بقليل.

توزعت أسباب المشاجرات التي شارك فيها الطلاب على أسباب متنوعة منها وفي حوالي ثلث العينة، كان السبب خلافات شخصية، وكان السبب في حوالي ربع العينة التحرش بطالبة، أو التحرش بقريبة أو الدفاع عن قريب أو السلوك المتهور أو الدفاع عن صديقة أو الدفاع عن النفس على التوالي.

أما وفق مكان المشاركة فقد تبين أنه في حوالي ثلاثة أرباع العينة كانت المشاركة من داخل الجامعة وخارجها، في حين أفاد ثلث العينة بأن المشاركة كانت من داخل الجامعة فقط، أما من خارج الجامعة فقد أفاد أقل من عشر العينة بأنها كانت من خارج الجامعة.

تنوعت أشكال العنف الطلابي، فتراوحت بين الشجار بين الطلاب والموظفين والتحرش، والتحرش بالموبايل والتحرش بعامة، والإزعاج في المحاضرة....الخ. إلا أن اغلب الاشكال شيوعا هي المشجارات الفردية واعاقة سير المحاضرة والتحرش عامة.

العنف على الطرقات (عنف قادة المركبات).

كانت كلفة حوادث المرور في الأردن (5,1) مليار دولار مقارنة بالوطن العربي والتي كانت حوالي (5,20) مليار دولار سنويا، وكانت كلفة حادث المرور الأعلى في السعودية (4,6) مليار دولار، فالمغرب (1,2) مليار دولار، فقطر (8,1) مليار دولار، فالجزائر (6,1) مليار دولار، فالأردن (5,1) مليار دولار.

واستمرت الحوادث بازدياد مضطرد حيث تبين أن نسبة الزيادة السنوية في عدد الحوادث بلغ ( 11 %)، ونسبة الزيادة السنوية بعدد الوفيات بلغ( 6%)، ونسبة الزيادة السنوية في عدد الجرحى بلغ ( 7%)، (المعهد المروري الأردني، 2003 ). وتعد حوادث السير السبب الأول للوفيات والإصابات في الأردن وبنسب تكاد تجعل الأردن من الدول العشرة الأعلى في العالم. لذلك أصبح مستوى السلامة المرورية في الأردن أقل من مستوى السلامة المقبول مقارنة مع دول العالم المتقدمة مروريا، حيث نجد أن معدل الوفيات على الطرق الأردنية (14,2/100000 نسمة ) بالرغم من أنها في الدول المتقدمة تبلغ بين(8,0- 1وفاة /100000 نسمة) ومعدل الخطورة عال جدا مقارنة مع المعدلات العالمية حيث إنها لم تنخفض في الأردن عن ( 25,0)، بينما النسب العالمية لا تتجاوز (15,0).

ففي دراسة البداينة (2009) تبين أن حوالي نصف العينة قد أوقف لمخالفتهم لقواعد السير، وكان حوالي نصف العينة من مدينة عمان والزرقاء، وقد واجه حوالي عشر العينة صعوبات مع القانون، وقد خبر حوالي خمس العينة العنف في قيادة المركبة. وكانت أكثر السلوكيات التي سبقت المخالفات أو حوادث السير هي السرعة والتفكير بمشكلة شخصية، والغضب والاندفاع، واستخدام الهاتف في أثناء القيادة.

ربما يكون ما أشرنا إليه أعلاه بعض مظاهر العنف المباشر والتي باتت مدركة ومعروفة كحالة اجتماعية يتداولها الناس بشكل شبه يومي، على أن أشكال من العنف قائمة بيننا دون أن ندرك أنها كذلك مستترة أو غير متداولة ومسكوت عنها وربما الباحثين الاجتماعيين والمهتمين من الأفراد والمنظمات، فاستغلال تاجر لسلعة ما احتكارا أو سعرا هو شكل من العنف ضد المستهلك الذي لا يكون له حول في رد الاستغلال والاحتكار، وما يتعرض له المواطن من ظروف معيشية صعبة وتردى مستوى حياته الاقتصادية وغياب تكافؤ الفرص والتوزيع العادل لمكتسبات النمو ومظاهر الفساد ما هي إلا أشكال من العنف تمارسه فئات اجتماعية ضد فئات أخرى، وهو ما دفع جلالة الملك الاجتماع على عدد من المسؤولين لدراسة ارتفاع الأسعار ودعوته الحكومة للتدخل لمعالجة الاختلالات والممارسات التي تركت على الغارب تمعن في استغلال المواطن، أليس تسلط البعض في الأحكام ضد بعض الكتاب والأفكار وتحريم بعضها ودفع أصحابها إلى المحاكم شكل من أشكال الإرهاب والعنف ، أليس ما يمارسه الرجل من قمع ومصادرة لأفكار وآراء زوجته أو أحد أبناءه أو أخواته وأخوته من أشكال العنف ، إلا يعتبر رمي المحصنات عنفا !؟ أليس في لجئوا بعض الشباب الأردنيين إلى بيع كلاهم هو عنف ذاتي يمارسه بعض الأفراد ليس من باب '' السادية '' وإنما من باب آخر وانعكاسا لأوضاع مأساوية يعيشونها هؤلاء تعبيرا عن البؤس والحاجة إلى تجاوز مصاعب الحياة فالعنف هو الابن الشرعي للظلم.

إن كل ذلك لا يتطلب حلولا إدارية وردعية وأمنية وقانونية، وهي في كل الأحوال لن تحقق النتائج المرجوة، فالحلول المطلوبة هو في النظر بعمق لدلالات هذه الظواهر وتداعياتها الخطيرة والمدمرة على الصعد الاجتماعية والاقتصادية والثقافية وما يقدم من أفكار حتى الآن تؤكد على عقم المعالجات والحلول المطروحة.

إن غياب السياسات والبرامج القادرة على مواجهة الأمراض الاجتماعية من فقر وبطالة وفساد وتفاوتات اجتماعية قاسية سيؤدي إلى الإمعان في العنف. إن ما نحتاجه في التصدي لهذه الظاهرة هو في إعادة النظر بالمنظومة الاجتماعية والأخلاقية والقيمية والقانونية والعودة إلى دور الدولة والعقد الاجتماعي كضامنين لحقوق المواطنين ولتحقيق العدالة المفقودة

د. ادب السعود

المتتبع لما يجري على الساحة الاجتماعية الاردنية، لا يحتاج الى التوقف طويلا ليلاحظ ارتفاع وتيرة ظاهرة العنف بشتى اشكاله، وصوره، بشكل بات غريبا على مجتمعنا الاردني، واصبحنا نرى ونسمع مشاهد غريبة للعنف كنا نظنها ضربا من الخيال او شيئا لا يمكن ان يحدث عندنا، وربما يحدث في مجتمعات اخرى، وعلى الارجح غير عربية وغير اسلامية، لأن هذه الجرائم تتنافى وطبيعة ثقافتنا الاجتماعية وهويتنا الثقافية وعادات وتقاليد مجتمعنا الاسلامي العربي، وبعضها يتنافى مع ابسط القيم الانسانية، كما انها مخالفة صريحة للقانون والتشريع.

فمن ارتفاع مستويات العنف الاسري بشتى انواعه، الى القتل العمد الى الانتحار الى العنف داخل الجامعات، حوادث السير، المخدرات، شغب الجامعات، شغب الملاعب وجرائم الشرف، والمشاجرات العشائرية اليومية التي باتت مسلسلا لا ينتهي.

لماذا العنف؟

كثيرون يتساءلون عن الاسباب التي تؤدي الى العنف بكل صوره وربما يمكن ادراج بعض الاسباب على النحو التالي: غياب الوازع الديني البعد عن الدين يؤدي الى تفشي ظاهرة العنف، لأن اطراف التخاصم سوف يلجأ كل منهم الى تنفيذ احكامه الخاصة وليس الاحكام الشرعية، وهذا يظهر في العنف الاسري وغياب مفهوم الحقوق والواجبات لدى الزوجين، حيث ان السيادة هنا وفقا للمفاهيم الشخصية هي لصالح الرجل، وعليه فان اي خطأ - من وجهة نظره ? من قبل الزوجة بحاجة لعقاب يحدده الرجل، الامر الذي يعبر عنه ويترجمه الى اشكال العنف الاسري المعروفة بدءا من الاذى المعنوي مرورا بالايذاء الجسدي والاقتصادي وربما انتهاء بانهاء الحياة في بعض الحالات، مما يحول الامر الى جريمة، في الوقت الذي حدد فيه الاسلام الحقوق والواجبات لقطبي الاسرة وبين طرق العلاج، كما وضع حدا للخلاف بانهاء العلاقة الزوجية بالمعروف ان استفحل الخلاف في الاسرة، وبين الحقوق حتى بعد الانفصال.

وكما بين الشرع ايضا الحدود والعقوبات لكل الجرائم والتي يجب ان ينفذها ولي الامر وليس الاشخاص انفسهم.

وبين الشرع ايضا مخاطر الغضب، فكان يحث على الحلم، وعدم الغضب كما في السنة النبوية الشريفة وكذلك الحث على العفو عند التعرض للاساءة مما قد يبعد شبح العنف عن المجتمع، حتى في حالات القتل، لذا فيلاحظ نزق عام في الشارع بحيث يتم اللجوء فورا الى الاشتباك او استخدام ادوات حادة او خطيرة، لاتفه الاسباب.

- غياب الثقافة القانونية وعدم احترام القانون وربما يتضح ذلك في عدم معرفة الحقوق والواجبات الوظيفية والمدنية بحيث يتم اللجوء لأخذ الحقوق بشكل شخصي دون اللجوء للدولة، لذلك يتم احيانا ضرب الاطباء او المعلمين، وحتى رجال السير وهم يؤدون واجباتهم يتعرضون للضرب والاعتداء.

اضافة الى ان هناك طرقا تقليدية واحيانا تكون مقيدة وتعتبر بديلا عن القانون في حل اصعب المشاكل التي لا يقبل الاطراف المتخاصمين الاحتكام فيها الى القانون، وهنا نستذكر ان معظم حالات القتل سواء العمد او الخطأ او الناجمة عن حوادث السير تحل بالجاهات وبشكل اكثر مرونة وسرعة من تطبيق القانون، مما يجعل مستوى الردع القانوني ضعيف، وهذا لا يعني عدم اللجوء للقضاء العشائري بل يعني تطوير القطاع العشائري ليتخذ صيغة قانونية رادعة وليس توفيقية فقط.

- غياب دور الجامعات ومراكز البحث والمؤسسات التربوية هذه المؤسسات دورها في مجابهة ظاهرة العنف ولا يتعدى اجراء بعض الدراسات حول الظاهرة من ناحية نظرية بحتة، بل ان المدارس والجامعات ومراكز الشباب اصبحت مسارحا للعنف لاسباب غير معقولة وتافهة يمكن ان يكون سببها العلاقات داخل الجامعات او اجهزة الخلوي، او الفراغ الذي يعيشه طلبة الجامعات نتيجة ضحالة البرامج التعليمية مما يجعل العنف متنفسا للطلبة وسببا في الفراغ الثقافي وسطحية التفكير وسرعة الاستجابة السلبية لأي حادث داخل الحرم الجامعي.

- اسباب اجتماعية (فقر - بطالة - مخدرات).

هناك من يعزو العنف للبطالة التي تؤدي للفقر، فينتقل الشباب بممارسة عادات سيئة (تدخين ? مخدرات.. الخ) وتصبح المشاجرات شائعة وبالتالي تنتج الجرائم، وهذا الجانب يمكن ربطه بالوازع الديني وغيابه، وغياب دور الاسرة، وتراجع دورها التربوي والرقابي بسبب دخول عناصر اخرى في تربية الابناء (وسائل الاتصالات، الانترت، النوادي، الشوارع، مجتمع الرفاق)، مما يجعل تأثير الاسرة قليلا في التوجيه والتربية موجهة والعقاب والردع من جهة اخرى، تحت مسميات الحرية الشخصية للأبناء وغير ذلك.

- غياب دور الاعلام تراجع البرامج الحوارية الاجتماعية، والتركيز على الاعلام التجاري وحتى الدراما، عندما تعالج العنف فانها تعرض اساليب مبتكرة للظاهرة المراد معالجتها، فيقع الشاب في التقليد بطريقة غير مقصودة اضافة الى تسليح القيم، والتقليل من قيمة العمل اليدوي مما يجعل الاعلام لا يساهم في تعزيز قيم العمل بشتى اشكاله، فتتولد الجريمة بسبب غياب هذا المفهوم، وكذلك جري الشباب وراء الوسائل التي تحققه لهم صورة معينة (ترف) للحياة، فكل شاب يريد سيارة، وفيلا، ومالا بأي صورة، بسرعة كما في المسلسلات وبالتالي يبحث عنها بأية وسيلة حتى لو كان وراء ذلك قيامه بجريمة، يعلم ان عقوبتها غير رادعة، او تحل بفنجان قهوة.

الشيخ فهد مقبول الغبين

وفي الظاهرة فان كثيرين يحملون القضاء العشائري مسؤولية ما يحدث لكن الشيخ فهد مقبول الغبين يقول: منذ البصيرة والانسان يعيش في الاطماع والقتال والاقتتال، وهذا ينبثق من الغيرة والحمية للحفاظ على الارض والعرض والسمعة العامة للبلد والقبيلة والسمعة الشخصية والاسرة، والضابط لهذه القضايا والحمد لله، والعادات العربية الاصيلة، المتوارثة من الآباء والاجداد، وكلاهما جزء لا يتجزأ عن بعضهما البعض، للحفاظ على الامن والاستقرار خاصة عندما يتعرض البلد الى ابواق داخلية وخارجية مغرضة.

عندما يتعايش الانسان في شريحة حياته اليومية بالمسؤولية العامة والخاصة، سيكون اسير في جميع تصرفاته للعقل لأنه هو الفيصل، ولا يفكر باستعمال اليد لاحقاق الحقوق لأن لهذا التصرف سلبيات كثيرة وغير سليمة.

لنا عاداتنا وتقاليدنا الاصيلة، وندحض اي شائبة من الشوائب ولا سيما في وقتنا الحاضر الذي سجل مجموعة من قضايا العنف، ويجب ان نفوقت الفرصة على المغرضين في الداخل والخارج حتى لا يستغلوا اي ثغرة بين الاخ والاخ، وتوظيفها لمآربهم الشخصية سواء كانت في الجانب المادي او المعنوي او الادبي وحتى النفسي.

هناك اشخاص يتنصلون من المسؤولية ويضعوا الحق على الاب.. والأب هنا هي الدولة، والمواطن هنا هو الابن، وكلنا مسؤولون لوضع حاجز لحجب الشيء قبل وقوعه من خلال السيطرة العقلانية والموضوعية، ونجنب بعض المغرضين والانتهازيين لحدوث ازمات او احداث مؤسفة، نحن لا نحتاجها، لأن عواقبها وخيمة على المجتمع والفرد.

في القضاء العشائري نحل مشاكلنا على ثلاث رؤى:.

- الشريعة السمحة.

- القانون الوضعي - العرف العشائري.

فالشريعة من صنع الله، والكمال له والديمومة والسمو والكمال له سبحانه وتعالى، اما القانون الوضعي فهو اجتهاد من الانسان الذي يصيب ويخطئ، خاصة وان بعض مواده مستورد من الفقه القضائي الخارجي.

اما العرف العشائري فهو ايضا من اجتهاد الانسان و60% من احكامه تستنبط من الشريعة الاسلامية ويتميز عن القانون الوضعي بسرعة حل اي معضلة مستعصية بالجاه والوجاه من علية القوم واهل الخير في هذا المجتمع.

اضافة لذلك.. سرعة السيطرة على جريمة القتل او هتك العرض قبل ان تصل الاجهزة الامنية الى موقع الحادث بجهود اهل الخير من المنطقة بطرح ''الوجه ? الدفا'' فنضع حدا لتفاقم المشكلة ريثما تحل القضية من مختلف جوانبها.

والسؤال .. لماذا نحمل القضاء العشائري المسؤولية، ونبسط في المسألة لنقول بأن فنجاه القهوة هو رمز معنوي بين الرجال، ولا قيمة مادية له، لكن قيمته المادية والمعنوية يعبران عن ميزات ومعان وتقدير واحترام، وهو ثقيل الوزن.

ونسأل ايضا اليست الجامعة العربية تقوم بوساطة وترسل جاهة كالقانون العشائري، وكذلك هيئة الامم المتحدة عندما ترسل وفود للمصالحة، وهذا بمثابة جاهة كما لدينا.

القضاء العشائري هو خير مساند للدولة ولا يضعفها او يلغي دورها لأنه دور قائم دائما، ان رب العالمين امرنا باصلاح ذات البين ''انما المؤمنون اخوة، فأصلحوا بين اخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون'' صدق الله العظيم..

اذا.. القضاء العشائري له قيمته واحترامه ويحل مختلف المشاكل من خلال عقلاء العشيرة او يريح الدولة، اما القانون الوضعي فان هناك قضايا لا زالت معروضة عليه عمرها (20) عاما، وتظل بين مد وجزر بين المحامين، بينما القضاء العشائري يحل القضية بساعتين او ارب ساعات.

ولما كان رأس النظام سيدنا حفظه الله ابن عشيرة عربية اصيلة هي قريش، وهو يراعي الاعراف العشائرية لما لها من مزايا حميدة ومجيدة وحل لمختلف المشاكل، بالمقابل على الدولة ايقاع العقاب الصارم وتجريم قضايا القتل والاغتصاب والخمرة والمخدرات، وهنا الانسان هو الذي يحكم على نفسه بسبب وقوعه بالخطأ عامدا متعمدا.

صحيح ان هناك سلبيات للعرف العشائري، تتمثل بتخجيل ذوي المتوفى او المصاب وتنازلهم عن حقوقهم المالية وخاصة اذا كان المتوفى او المصاب قد ترك خلفه اسرة من الارامل والاطفال.

واذكر باقتراحات المؤتمر الشعبي الذي جرى في رحاب الجامعة الاردنية في الفترة من 9-23/11/1989 بحضور ما يربو على (500) شخصية من اساتذة الشريعة والقانون والقضاء العشائري في الاردن حيث وافق جلالة الملك الحسين بن طلال، بتوقيعه السامي على مقترحات المؤتمر، وصدر كتاب بعنوان العرف العشائري بين الشريعة والقانون، ويقع بـ (535) صفحة، وزع على جميع القضاة، والعشائر، واهم ما تضمنه تحديد ''الجلوة'' على دفتر العائلة فقط، وفورة الدم على خمسة الجاني.. لكننا نشاهد اليوم تجاوزا لمثل هذه الاعراف الحميدة..

ربما يكون ما أشرنا إليه أعلاه بعض مظاهر العنف المباشر والتي باتت مدركة ومعروفة كثقافة دارجة بين الناس، على أن أشكال من العنف قائمة بيننا دون أن ندرك أنها كذلك مستترة أو غير متداولة بين الناس وربما بين الباحثين الاجتماعيين والمهتمين من الأفراد والمنظمات، فاستغلال تاجر لسلعة ما احتكارا أو سعرا هو شكل من العنف ضد المستهلك الذي لا يكون له حول في رد الاستغلال والاحتكار، وما يتعرض له المواطن من ظروف معيشية صعبة وتردى مستوى حياته الاقتصادية وغياب تكافؤ الفرص والتوزيع العادل لمكتسبات النمو ومظاهر الفساد ما هي إلا أشكال من العنف تمارسه فئات اجتماعية ضد فئات أخرى، وهو ما دفع جلالة الملك الاجتماع مع عدد من المسؤولين لدراسة ارتفاع الأسعار ودعوته الحكومة للتدخل لمعالجة الاختلالات والممارسات التي تركت على الغارب تمعن في استغلال المواطن، أليس تسلط البعض في الأحكام ضد بعض الكتاب والأفكار وتحريم بعضها ودفع أصحابها إلى المحاكم شكل من أشكال الإرهاب والعنف ، أليس ما يمارسه الرجل من قمع ومصادرة لأفكار وآراء زوجته أو أحد أبنائه أو أخواته و أخوته من أشكال العنف ، إلا يعتبر رمي المحصنات عنفا !؟ أليس في لجوء بعض الشباب الأردنيين إلى بيع كلاهم هو عنف ذاتي يمارسه بعض الأفراد ليس من باب ''السادية'' وإنما من باب آخر وانعكاسا لأوضاع مأساوية يعيشونها هؤلاء تعبيرا عن البؤس والحاجة إلى تجاوز مصاعب الحياة فالعنف هو الابن الشرعي للظلم.

إن كل ذلك لا يتطلب حلولا إدارية وردعية وأمنية وقانونية، وهي في كل الأحوال لن تحقق النتائج المرجوة، فالحلول المطلوبة هي في النظر بعمق لدلالات هذه الظواهر وتداعياتها الخطيرة والمدمرة على الصعد الاجتماعية والاقتصادية والثقافية وما يقدم من أفكار حتى الآن تؤكد على عقم المعالجات والحلول المطروحة.

إن غياب السياسات والبرامج القادرة على مواجهة الأمراض الاجتماعية من فقر وبطالة وفساد وتفاوتات اجتماعية قاسية سيؤدي إلى الإمعان في العنف. إن ما نحتاجه في التصدي لهذه الظاهرة هو في إعادة النظر بالمنظومة الاجتماعية والأخلاقية والقيمية والقانونية والعودة إلى دور الدولة والعقد الاجتماعي كضامنين لحقوق المواطنين ولتحقيق العدالة المفقودة .