هل من مخرج من المأزق الفلسطيني؟

اعداد : يوسف الحوراني

مركز الرأي للدراسات

11/2009

من الواضح، مع تلويح الرئيس محمود عباس أنه -غير راغب- في ترشيح نفسه للانتخابات الرئاسية المقبلة، أن الرجل وصل إلى حائط منيع، وعليه فإنه يصبح صحيحا القول أن الشعب الفلسطيني وقضيته يمران في مرحلة صعبة وحرجة وأنهم دخلوا منعطفا خطيرا. وإذا كان هذا التوصيف صحيحا فإن الفلسطينيين يواجهون تعقيدات بالغة الصعوبة ويمكن معه الإستنتاج أن مصير القضية لعقود قادمة سوف تحدده نتائج التفاعلات والتطورات اللاحقة.

لقد توحد الشعب الفلسطيني في مراحل سابقة على سياسة رفض الحلول السياسية التي لا تتساوق ومفهومه ومطالبه المشروعة في إقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس وعودة وتعويض اللاجئين، ولكن بعد أوسلو ودخول الفلسطينيين في مفاوضات وجها لوجه مع العدو التاريخي لهم ويكون النضال الوطني الفلسطيني قد انتقل إلى مرحلة جديدة من الجدل والصدام. فقد شهدت الساحة الفلسطينية منذ ما بعد أوسلو 1993 محورين رئيسيين في الاشتباك، محورا يمثله المنخرطون في العملية السياسية التفاوضية وآخر رافضا ومشككا بجدوى العملية التفاوضية وداعيا لاستخدام الوسائل الأخرى في مقارعة الاحتلال الصهيوني ومع مرور الوقت ترسخت لدى كل طرف القناعة والتماسك والانسجام بأن نهجه هو الذي سيقود إلى تحقيق الحلم بالدولة ضمن رؤيتين مختلفتين كما كان الحال العربي عشية العدوان الصهيوني عام 1967، والذي تجلت فيه السياسة العربية الرافضة لقبول إسرائيل ككيان يشكل تهديدا حقيقيا لمصالح الأمة وبالذات تهديدا لطموحها بالوحدة والاستئثار بثرواتها لصالح التنمية، وعبرت عن ذلك برفضها للقرارات الدولية التي ترتب اعترافا بإسرائيل ورأت أن الحسم يجب أن يكون عسكريا للقضاء على الوجود الصهيوني في خاصرة الأمة العربية، ولكن هزيمة حزيران عام 1967 فرضت عليها التخلي عن الكثير مما كانت تحرض عليه، وبدأت المرحلة الجديدة بالقبول بالقرار الأممي رقم 242 الذي ترتب عليه اعتراف ضمني بإسرائيل وتحول الشعار من تحرير فلسطين إلى إزالة أثار العدوان وانسحاب القوات الإسرائيلية إلى حدود الرابع من حزيران، وفي الوقت ذاته طرحت بعض الفصائل الفلسطينية البرنامج المرحلي (حق العودة وتقرير المصير وإقامة الدولة المستقلة على الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967)، وحقق الفلسطينيون نجاحا في استصدار قرارات دولية ساندت حقه في تقرير المصير دون أن يتعارض ذلك مع القرارات المؤيدة لحق إسرائيل في الوجود. وقد شهدت هذه المرحلة نهوضا سياسيا فلسطينيا وأصبحت منظمة التحرير الفلسطينية تتمتع بمركز دولي بدعم من الاتحاد السوفيتي والمعسكر الاشتراكي آنذاك، ولكن هذا النهوض لم يؤد إلى حل للقضية يعكس توازن القوى على صعيد دولي، وبعكس ذلك نجحت واشنطن بفرض كامب ديفيد التي مهدت الطريق أمام إسرائيل لشن عدوانها على لبنان 1982 لتصفية منظمة التحرير وإخراجها من معادلة الحل. هذه التطورات أدت إلى قبول الفلسطينيين بالقرارات الدولية 181، 242، 338، والقبول بالقرارات المتعلقة بإسرائيل وحقها في الوجود مما أدى إلى هبوط السقف الفلسطيني، ودفع بالإسرائيليين إلى التشدد ورفض كافة الصيغ المطروحة لحل القضية، الأمر الذي دفع بالفلسطينيين الدخول في مفاوضات بدون شروط ودون أي التزام إسرائيلي بمبادئ الحل المتوازن التي نصت عليها القرارات الدولية وفي نفس الوقت دون أن يتخلى الفلسطينيون عن الثوابت الوطنية وتحقيق أهدافهم.

إن التراجع في المواقف الفلسطينية شكل استجابة لشروط الظروف الموضوعية (العربية والإقليمية والدولية)، مما دفع بالقيادة الفلسطينية الانخراط بالمفاوضات واعتبرت ذلك هو الأسلوب الأنجع والمنفذ الوحيد لإنهاء الاحتلال، فقد ساد الاعتقاد لدى غالبية القيادات الفلسطينية في منظمة التحرير بأن هذا الأسلوب أثبت نجاعته لحل الصراعات الإقليمية والقومية في العالم وخاصة بعد انهيار الاتحاد السوفيتي ودول المنظومة الاشتراكية وانتهاء الحرب الباردة وإنفراد الولايات المتحدة كقوة عظمى وحيدة، فلا بأس الدخول من هذه البوابة بعد أن حققت الولايات المتحدة نجاحا بتجنيد العالم في العملية السياسية وفي المقابل كان العرب يعلنون أن السلام خيار إستراتيجي لاعتقادهم أن الخيار العسكري لم يعد مطروحا وشائكا سواء لجهة المناخ الدولي، أو عدم قدرة العرب الوصول إلى توازنات مع الجانب الإسرائيلي فأنساق الجميع للتناغم مع الموقف الأمريكي على أساس التعهد الذي أعلنته واشنطن والدول الأوروبية بتحقيق السلام استنادا إلى مبدأ الأرض مقابل السلام والقرارات الدولية ذات الصلة، وذلك وفق رسالة التطمينات التي بعثت بها الإدارة الأمريكية في رسالة الدعوة الموجهة للأطراف العربية عشية مؤتمر مدريد 1991، إضافة للتعهد المنفصل للجانب الفلسطيني تعترف فيه الولايات المتحدة بالحقوق السياسية المشروعة للشعب الفلسطيني والوعد بأن تحقق المفاوضات أهدافهم وتؤمن بضرورة إنهاء الاحتلال الإسرائيلي الذي يمكن أن يتم عبر المفاوضات (يلاحظ أن أمريكا لا تؤمن بهذا الأسلوب في الموضوعين العراقي والأفغاني وربما الإيراني)، وكان الطرفان الروسي والأمريكي ومعهما الأوروبيين أكدوا بأن الفرصة مواتية لإيجاد حل دائم وعادل للصراع الفلسطيني - الإسرائيلي، وإزاء هذه التأكيدات وجد الفلسطينيون أن عليهم منح هذه الأطراف الفرصة واختبار هذه الوعود والتأكيدات والتعهدات، في الوقت الذي كان فيه، أي الفلسطينيون، يدركون مساعي واشنطن لخلق شرق أوسط جديد، تكون فيه إسرائيل دولة مقبولة وفاعلة بما يخدم المصالح الأمريكية في المنطقة وهذا أساس تفكير الأمريكان بإيجاد حل للصراع في المنطقة، ولا يمكن تحقيق هذا الهدف دون إنهاء الاحتلال الإسرائيلي وحل للقضية الفلسطينية يقبل به الشعب الفلسطيني، وهو ما حاولته الإدارة الأمريكية الاهتمام به طوال ما بعد حرب الخليج. وقد وجد اصحاب مدرسة المفاوضات أن موضوع الحل السياسي ، الذي لم يعد له معنى وفارغ من المضمون، على حد تعبير الكاتب الإسرائيلي جدعون سامت في صحيفة معاريف، خرج إلى حد ما عن معادلة ومفهوم ميزان القوى، ليدخل معادلة ومفهوم المساومة والمقايضة بين الاستقرار المنشود أمريكيا وهدف إنهاء الاحتلال فلسطينيا وعربيا واندماج إسرائيل في المنطقة ضمن إطار شرق أوسطي جديد المستهدف إسرائيليا ، بل ذهب هذا الفريق إلى الاعتقاد بأن أهمية إسرائيل الإستراتجية بالنسبة للولايات المتحدة قد تراجع بعد أن أصبحت هي القطب الأوحد والمتحكم الوحيد بالنفط عبر السيطرة المباشرة على منابعه، وبعد زوال خطر المد الأحمر ولاعتقادهم بأن إسرائيل أصبحت تشكل عبئا على الاقتصاد الأمريكي وبذا يتسنى لأمريكا بتحويل الكلفة الاقتصادية إلى النظام الشرق الأوسطي الجديد بما يعني تغيرا في السياسة الإسرائيلية تجاه الأرض والاحتلال والحروب. ولقد وجدوا أن قضية احتلال الأرض الفلسطينية قضية خاسرة حيث كبدت الانتفاضة الأولى واستمرار احتلال الأرض أموالا طائلة وانعكس ذلك سلبا على المجتمع الإسرائيلي ونظرا لعدم توفر إمكانية اختفاء الشعب الفلسطيني أو نجاح الترانسفير لذا يصبح المخرج المنطقي الوحيد هو في اختفاء الاحتلال .

إن هذه الأوهام وهذا التحليل قاد إلى اعتبار المقاومة الداخلية ذات الطابع المطلبي تنسجم مع طبيعة النظام الرأسمالي الذي يقابل هذه المقاومة بتقديم التنازلات.. وأن تحقيق المطالب الوطنية أو جزء منها عبر الوضع الدولي الجديد يشكل المدخل لتوظيف الطاقة الذاتية لتحقيق الأهداف الفلسطينية مما دفع بالفلسطينيين الانخراط في محادثات سرية مع الإسرائيليين أفضت إلى اتفاقية اوسلو 1993 وإلى مسلسل التفاوضات المتشعبة والمتعددة وصولا إلى أنابولس والرباعية وخارطة الطريق، في المقابل كان للإسرائيليين مشروعهم الذي يتعارض مع كل ما ذهب إليه أصحاب الواقعية المتفائلة الذين انخدعوا بوهم أن المسعى الأمريكي والدولي جادان في الوصول إلى تسوية تستند على مبدأ الأرض مقابل السلام وأن قضايا القدس واللاجئين والحدود والمياه قضايا مؤجلة إلى المرحلة النهائية غير المدركة وإلى ماذا تفضي أمريكيا وإسرائيليا، في حين كان دور الإسرائيليين منذ بن غوريون، أول رئيس وزراء لإسرائيل، وحتى الآن يمارسون لعبة خفض السقف وإضعاف وخلخلة الوضع الفلسطيني وتجريد المفاوض الفلسطيني من الأسلحة التي يمكن أن يستخدمها لتحسين شروطه واستمرار التفاوض إلى ما لانهاية وقطع الطريق على أي محاولة لتجسيد الكيان الفلسطيني على الأرض، وقد أدت هذه الجرجرة إلى الدخول في مرحلة مضطربة وبوصلة بدون مؤشر، لغاية اعتبار وقف الاستيطان أو تجميده لفترة مؤقتة سيحل كل شيء، في حين أن تصريحات المسئولين والقادة الإسرائيليين تؤكد على أن موضوع الدولة الفلسطينية ليست ضمن أولوياتهم بل ليست على جدول أعمالهم وأنها باتت من الأحلام التي ولى زمنها على حد تعبير أحدهم، في حين أن الإدارة الأمريكية والنظام العربي يبدوان عاجزين (غير راغبين) عن ممارسة أي ضغط على الجانب الإسرائيلي، في وقت يعاني فيه الأمريكيون من أوضاع صعبة في أفغانستان والعراق وباكستان، إضافة إلى تعقيدات ملفي إيران وكوريا الشمالية النوويين، ناهيك عن الأزمة الاقتصادية والمالية التي تعاني منها الولايات المتحدة.

وفي ظروف يسجل الوضع العربي المزيد من التداعي والانحدار نحو الهاوية، ومشلول وكل رهاناتهم على اوباما الذي ألهب حماسة الحاضرين في قاعة جامعة القاهرة وخارج أسوارها ليأتي لهم بالترياق ويعفيهم من مسؤولياتهم، إلا أنه سرعان ما تراجعت الإدارة الأمريكية عن موقفها فأسقط بيد النظام العربي وبخاصة دول الاعتدال، فوجد أبو مازن، وقد تورط بالتمسك بشرط وقف الاستيطان الذي أوحى به اوباما، وأمام هذا التراجع الأمريكي وتشدد الموقف اليمني الإسرائيلي، والموافقة المصرية على التصور الأمريكي بعد اللقاء الذي تم بين أبو الغيط وزير خارجية مصر وهيلاري كلنتون سكرتيرة الخارجية الأمريكية، في ساحة نفسه محاصرا دون أن يعود حتى بالخفين، الأمر الذي دفع به لإعلان عدم رغبته في الترشيح لانتخابات الرئاسة القادمة في كانون الثاني 2010 كرد فعل على حالة الإحباط وخيبة الأمل بعد أن قاتل وراهن لأكثر من عقدين من الزمن من أجل التوصل إلى تسوية سلمية، من خلال المفاوضات، للصراع الدائر منذ أكثر من ستة عقود.

هذه النتيجة التي وصل إليها عباس، وبصرف النظر إن كانت تكتيكا يراد به ممارسة ضغوط على الإدارة الأمريكية أو الحكومة الإسرائيلية أو موقفا قاطعا، فقد جاءت ردة الفعل الإسرائيلية والأمريكية لتزيد الرجل إحباطا ويأسا، فمن جانبها قالت كلينتون سنتعامل مع الرئيس محمود عباس بأي صفة أو موقع سيكون عليه لاحقا ، أما الإسرائيليون فقد جاء ردهم على لسان شاؤول موفاز (كاديما) الذي هدد بالتوجه للتفاوض مع حماس إذا لم تقتنع فتح بالدولة ذات الحدود المؤقتة التي يرفضها أبو مازن، أو في ما ورد في بعض المقالات لمعلقين إسرائيليين من الحديث عن مشروع سلام فياض، رئيس الوزراء الفلسطيني، الذي يقترح إعلان قيام الدولة الفلسطينية بدون حدود نهائية والتي تركز على بناء المؤسسات إلى جانب المفاوضات مع إسرائيل، وهو ما يقصد منه المزيد من الضغط على عباس، وعلى الطرف الآخر،وجدت حماس الفرصة لإظهار تداعي وانهيار النهج التفاوضي الذي أثبت عجزه وتهالكه ولم يفض إلا إلى كوارث لحقت بالقضية الفلسطينية، محاولة استثمار الحالة للتأكيد على صحة نهجها وتوجهاتها وسياساتها دون أن تبدي خطوة إيجابية نحو المصالحة الوطنية الفلسطينية والتوجه نحو وضع إمكانياتها في إطار العمل الفلسطيني السياسي وإبداع أساليب من النضال تجذب تعاطف العالم وترغم القوى الدولية على الاعتراف بالدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس وحل المسائل العالقة (اللاجئين والحدود والمياه والأسرى) بما يحقق العدالة للشعب الفلسطيني.

إن التحدي الأساسي الذي يواجهه الفلسطينيون وما يقوم به الاحتلال من سياسات وإجراءات، تبدأ بالعدوان العسكري بكل أشكاله، وتمر بمصادرة الأراضي واستيطانها وبناء جدار الفصل العنصري، ولا تنتهي بالحصار والإغلاق وتقطيع الأوصال وفصل القدس وعزلها عن بقية الأراضي المحتلة عام 1967 وخنق غزة وتحويلها إلى أكبر وأطول سجن في التاريخ. بهدف خلق أمر واقع يساعده على تصفية القضية الفلسطينية بكل أبعادها، ويقطع الطريق على إقامة دولة فلسطينية حقيقية وذات سيادة على الأراضي المحتلة عام 1967، وعلى حل قضية اللاجئين حلا عادلا وفق القرار 194.

وإزاء هذا التحدي، تختلف الاجتهادات الفلسطينية.

فهناك رأي تعبر عنه بدرجات متفاوتة القيادة الفلسطينية وحركة فتح وغالبية فصائل م.ت.ف، يرى بأن إحياء عملية السلام واستئناف المفاوضات والسعي لتطبيق الاتفاقات الموقعة من جهة، والتفاوض على القضايا الأساسية من اجل التوصل إلى اتفاق سلام نهائي من جهة أخرى،هو الطريق الوحيد أو الرئيس الذي يجب على الشعب الفلسطيني السير فيه. .

وعندما يقال لأصحاب هذا الرأي بأن أتفاق أوسلو وملحقاته، بغض النظر عن المسؤول وعن الأسباب، قد تجاوزته إسرائيل وأسقطت الحل المتفاوض عليه،وأخذت تعمل منذ سنوات طويلة على فرض حلها هي، يسارعون للقول ما هو البديل ؟ ويرددون أن البديل عن فشل المفاوضات هو المزيد من المفاوضات. وفي هذا السياق تم ويتم تجاهل وتجاوز المرجعيات السياسية والقانونية لعملية السلام، التي كانت تعتمد على القانون الدولي وقرارات الشرعية الدولية المتعلقة بالقضية الفلسطينية، ومبدأ الأرض مقابل السلام، والفتوى القانونية لمحكمة لاهاي. وتـتم محاولة فرض مرجعيات جديدة تارة بحصر المرجعية بما يتفق عليه، وهذا يعطي النقض لإسرائيل، وتارة أخرى يتم حصر المرجعية بخارطة الطريق، وهي خارطة جوهرها ومدخلها أمني، وتتضمن عدة مراحل، تجمع مابين الحلول الانتقالية والنهائية. ولكن أبرز ما فيها مرحلتها الثانية التي تنص على إقامة دولة فلسطينية ذات حدود مؤقتة، يخشى إذا قامت، أن تصبح حدودا دائمة وبديلا عن التفاوض والاتفاق على القضايا الأساسية،التي لا تريد إسرائيل التفاوض حولها ولا إعطاء الشعب الفلسطيني حقوقه فيها.

ولا يمكن أن نسقط من الحساب، أن السقف السياسي الذي تحاول إسرائيل، وبدعم أمريكي واضح، فرضه على المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية، هو ورقة الضمانات الأمريكية التي منحها بوش لشارون في حزيران عام 2004، والتي كرس فيها المواقف الإسرائيلية الرئيسية، مثل عدم العودة إلى حدود 1967، وعدم عودة اللاجئين إلى الأراضي المحتلة عام 1948، وأخذ الحقائق الجديدة التي أقامها الاحتلال منذ عام 1967 وأهمها المستوطنات في الحسبان، عند إقرار أي حل نهائي. ولعل التفاهمات المشتركة التي أتفق عليها في انابوليس، واكتفت بالإشارة إلى خارطة الطريق كمرجعية بدون إلزام إسرائيل بإزالة الاحتلال، ولا حتى بخارطة الطريق بصيغتها الدولية، وبدون إشارة إلى المرجعيات المعروفة في عملية السلام، وبدون تسمية، مجرد تسمية، للقضايا الجوهرية التي سيتم التفاوض حولها، ووضع الأولوية للأمن الإسرائيلي على حساب الوفاء بالالتزامات الإسرائيلية، ووضع شرط اجتثاث الإرهاب وتفكيك بنيته التحتية ونزع سلاحه واعتقال منفذيه والاعتراف الفلسطيني بيهودية الدولة العبرية.

على أن هناك رأيا أخذ يتسع يرى بأن عملية السلام والمفاوضات فشلت فشلا ذريعا في تحقيق الأهداف الفلسطينية حتى في حدود البرنامج الذي أقرته م.ت.ف وقامت على أساسه السلطة الوطنية الفلسطينية. ورغم النجاحات الكبيرة التي حققها أنصار هذا الرأي، في الانتخابات التشريعية الأخيرة حيث حصلت حماس على أغلبية مقاعد المجلس التشريعي، إلا أن التطورات اللاحقة والتي بدأت بتشكيل حماس للحكومة وحدها ثم تفردها بإدارة قطاع غزة، ثم العدوان العسكري الإسرائيلي الذي تصاعد بشكل كبير، وتشكيل حكومة الوحدة الوطنية بعد اتفاق مكة وسقوطها أيضا بعد ثلاثة اشهر على تشكيلها، لأنها لم تستطع أن تنهي الحصار الدولي على السلطة، ولم تستطع أن توحد الفلسطينيين لأنها قامت على برنامج سياسي غامض حمال أوجه، وعلى أساس محاصصة فصائلية(فتحوية حمساوية أساسا) بعيدا عن المشاركة الوطنية، ساهمت في وصول إلى حالة الاستقطاب وسلطة برأسين، والانقسام السياسي والجغرافي والذي يعبر عن نفسه بوجود سلطتين، مما أضعف الفلسطينيين جميعا، وأعطى أوراقا رابحة لإسرائيل.

فإسرائيل مهدت الأرض لحدوث هذا الانقسام وسعت إليه ودفعت نحوه وذلك عبر سياسة رفض السلام وإجهاض المبادرات لتحقيقه، وسياسة تقطيع الأوصال والمقاطعة والحصار وإغلاق المعابر، وعبر وضع شرط لاستئناف المفاوضات بعدم تحقيق المصالحة بين فتح وحماس، وشرط أخر للاتفاق هو اجتثات الإرهاب في قطاع غزة الذي لا تسيطر عليه السلطة رام الله وإنما تسيطر عليه سلطة حماس.

إن استمرار وتعميق الانقسام من شأنه أن يهدد القضية الفلسطينية على مختلف المستويات والأصعدة بما في ذلك ضرب مقومات الصمود والوجود البشري الفلسطيني على أراضي فلسطين، حيث تتزايد معدلات الهجرة والتفكير بالهجرة بصورة تنذر بالمخاطر القادمة على هذا الصعيد.

على السلطة الفلسطينية وكافة القوى في منظمة التحرير الفلسطينية وحماس والدول العربية التمسك بالقرارات الدولية ذات الصلة وفي المقدمة منها قرارا مجلس الأمن 181 الخاص بالاعتراف بالدولة الفلسطينية سيما وأن أمريكا والأمم المتحدة أقرت بها، والقرار 194 الذي يؤكد على عودة اللاجئين، فضلا عن المبادرات والاتفاقات. وعلى النظام العربي أن يعلن وبشكل جاد، ولو لمرة واحدة، عن سحبه لملف المبادرة العربية وقلب الطاولة والاستعاضة عنه بالأوراق التي بين أيديهم وهي كثيرة وفاعلة ومؤثرة، ولعل الظرف متاح لاستخدامها، وفي الجانب الفلسطيني المأزوم، فقد وصلت المسرحية الساخرة إلى إسدال الستار عن أحدى فصولها بمزيد من قضم الأرض والاستيطان وفشل نهج المفاوضات الذي تمسك به عباس واستغله الإسرائيليون لمزيد من شراء الوقت وإحداث تغييرات جوهرية على الأرض، مما دفع الأخير إلى إبداء عدم الرغبة في خوض تجربة أخرى في موقع الرئاسة الذي شلحه من رصيد لديه فلسطينيا وعربيا بل وأمريكيا، والتهديد بإجراءات أخرى لم يعلن عنها ! وحتى لو عاد عن الرغبة فليس هناك من ثمن سيقبضه لهذه العودة، بل سيدفع، تحت الضغط الأمريكي والاعتدال العربي، وإغراءات وعد والتزام من الرئيس الأمريكي بإقامة الدولة الفلسطينية في غضون عامين كما يقترح العرب، المزيد من التراجع أمام الموقف الإسرائيلي المتغطرس والمتعنت وسيجد عباس نفسه ودول الاعتدال وربما المجتمع الدولي أمام خلط للملفات والأوراق من خلال تأزيم الأوضاع الإقليمية وافتعال حروب سواء على الجبهة الشمالية مع حزب الله أو ضد إيران أو سوريا.

إن الرهان، والسير وراء مفاوضات من أجل المفاوضات، بلا جدوى وبدون مرجعية، وبدون ضمانات دولية، ولا آلية تطبيق ملزمة ولا جداول زمنية قصيرة، يمكن أن يعطي لإسرائيل الغطاء والوقت الذي تحتاجه لاستكمال مشاريعها الرامية لاستكمال بناء جدار الفصل العنصري وتعزيز الاستيطان ومصادرة الأراضي، وإقامة كانتونات منفصلة عن بعضها البعض، تجعل أمكانية قيام دولة فلسطينية تستحق هذا الاسم، مهمة مستحيلة.

لا مفر من اعتماد استراتيجية فلسطينية مزدوجة، من جهة تمد يدها للسلام، وتحاول الحصول على أقصى دعم من المجتمع الدولي، وتسعى لاستعادة البعد العربي والدولي السياسي والإنساني للقضية الفلسطينية، وعلى أساس عملية سلام جادة قادرة على إنهاء الاحتلال وتستند إلى القانون الدولي وقرارات الشرعية الدولية.

ومن جهة أخرى استراتيجية تسعى لتوفير مقومات الصمود وتجميع أوراق القوة والضغط، وعلى رأسها اعتماد المقاومة المثمرة، المقاومة الشعبية ومقاطعة الاستيطان عملا وتعاملا وتجارة، ومقاومة التطبيع، وتشجيع المقاطعة العربية والدولية لإسرائيل، وجعل مقاطعة الأكاديميين البريطانيين للأكاديميين والمؤسسات الأكاديمية الإسرائيلية مثلا يحتذى وقابلا للتعميم على امتداد العالم كله وفي مختلف الميادين السياسية والاقتصادية والثقافية.

في هذا السياق، وعلى أساس هذه الاستراتيجية، واستعادة الوحدة الوطنية يمكن حشد كل أو غالبية الإفراد والقوى الفلسطينية في مجرى واحد قادر على تحقيق الحرية والعودة والاستقلال، لان إسرائيل التي تجد الشعب الفلسطيني موحدا على أساس برنامج وطني واقعي قادر على الإقلاع فلسطينيا، عربيا ودوليا، ويعتمد على مقاومة ذات جدوى ستجد نفسها يوما بعد يوم تخسر من احتلالها أكثر مما تربح، مما يدفعها إلى الانسحاب والإقرار بالحد الأدنى من الحقوق الفلسطينية.