اعداد : د. محمد تركي بني سلامه
مركز الرأي للدراسات
الملخص
يدرس هذا البحث أزمة دارفور كجزء من الازمة الكبرى التي يعاني منها المجتمع والدولة في السودان وذلك عبر دراسة المفاهيم الاساسية المرتبطة بالدراسة اولاً،ثم يتناول البحث ابرز المشاكل التي عانى منها السودان منذ الأستقلال عام 1956 حتى الوقت الحاضر ثانياً. وأخيرا يتناول البحث أسباب الأزمة في دارفور ومجرياتها وآثارها وأفاق الحل والمصالحة الوطنية.
ويخلص البحث الى نتيجة اساسية مفادها ان اسلوب الحكومة السودانية في إدارة الازمة ادى الى تفاقمها، فالقوة العسكرية ليست الأسلوب الأمثل للحل وإنما الحوار والديمقراطية التوافقية، وهذا يتطلب إيمان النخبة الحاكمة في الخرطوم بحق الاطراف سواء في دارفور او في الجنوب بالمشاركة في السلطة والثروة.
مقدمة
تعتبر أزمة إقليم دارفور غرب السودان والتي انفجرت عام 2003 وما تزال مستمرة حتى هذا اليوم، جزءا من الأزمة الكبرى التي يعاني منها السودان كدولة أو نظام سياسي ومجتمع بشري أو إنساني في آن واحد. فعلى مدى القرن الماضي وحتى الوقت الحاضر عانى النظام السياسي أو الدولة والمجتمع في السودان من سلسلة من الأزمات والتقلبات والصراعات باهظة التكاليف بشرياً ومادياً. وقد لا نبالغ إذا قلنا أن السودان ومنذ ما يزيد عن مئة عام لم يكن مكاناً مباركاً أو مستقراً أو مزدهراً، فقد عانى السودانيون طوال تاريخهم السياسي الحديث من الهيمنة الأجنبية أو الاستعمار والسياسيات الاستعمارية التي فاقمت من مشاكله وعمقت الفجوة بين شماله وجنوبه وشرقه وغربه، وعزّزت الاختلاف والفرقة بين أبنائه لدرجة أنه يمكن الاستنتاج ان جزءا كبيرا من مشاكل السودان الحالية ومنها مشكلة دارفور موضوع الدراسة هي من آثار التركة الاستعمارية (Colonial Legacy) وبعد رحيل الاستعمار البريطاني وتحقيق الاستقلال عام 1956 فقد عانى السودان من الحرب الأهلية في الجنوب والتي استمرت ما يقارب أربعين عاماً لتصبح أطول الحروب الأهلية عمراً في القارة الأفريقية وما خلفته من دمار للبنى التحتية وصعوبات اقتصادية إضافة إلى المعاناة الإنسانية لمئات الآلاف من الضحايا ما بين قتلى وجرحى ومشردين داخل السودان وخارجه. كما عانى النظام السياسي من الفوضى وعدم الاستقرار والانقلابات العسكرية، فمنذ الاستقلال حتى الوقت الحاضر عرف السودان 42 عاما من الحكم العسكري الذي تميز بالفساد والاستبداد والقمع وتمتع الشعب السوداني بالحرية والديمقراطية 9 سنوات فقط. وهكذا حرم الشعب السوداني معظم سنوات ما بعد الاستقلال من الحكم الصالح والاستقرار والتطور الاقتصادي في ظل الأنظمة السلطوية أو الحكومات العسكرية. وأخيراً تضاعفت معاناة السودانيين نتيجة قسوة الطبيعة حيث مرَّ على السودان سنوات عجاف ساد فيها الجفاف والجوع والقحط وانتشرت الأوبئة والأمراض في ظل تجاهل أو غياب عربي ودولي أو إنساني.
وإذا كانت هذه الصورة المأساوية قد طغت على المشهد السياسي السوداني معظم سنوات ما بعد الاستقلال، فإن هذا لا يلغي حقيقة أن السودان قد شهد بعض فترات الهدوء والاستقرار عندما أدركت القيادة السياسية أن الحرب الأهلية لا يمكن أن تحسم بالأدوات العسكرية وحدها وانه لابد من حل سياسي يستند إلى رؤية ثاقبة أو بصيرة نافذة تستوعب طبيعة تكوين المجتمع السوداني المتنوع في تعدد الانتماءات العرقية والممارسات الثقافية والدينية والأحوال البيئية والموارد الاقتصادية. إلا أن شهر العسل السوداني كان قصيراً جداً بعد تراجع القيادة السياسية عن الرؤية السابقة التي أخذت بعين الاعتبار الخصوصية العرقية والثقافية واللغوية والدينية للمجتمع السوداني، فانعدم التسامح واستمر الاحتكار للسلطة والموارد، الأمر الذي أدى إلى التمرد واستئناف الحرب الأهلية في الجنوب، والآن في الغرب في إقليم دارفور.
وهكذا فإن أزمة دارفور لا تكشف عن أية مفاجآت، فالسودان الذي يعتبر صورة مصغرة لأفريقيا ويتميز بتعدد وتعقد الانتماءات، وفي ظل غياب قيادة حكيمة تحترم التنوع والاختلاف وتحقق العدالة في توزيع السلطة والثروة فإن "هذا الموزاييك" أو الفسيفساء أصبح أشبه بمستودع أو منجم غني بالأزمات. وهكذا اخذ السودان يترنح بين أزمة وأخرى وينتقل من حرب إلى حرب، وقد ترتب على ذلك الكثير من المتاعب والخسائر: فقد تعثرت مسيرة التنمية والتحديث، وفشلت مشاريع البناء والتطوير، واستنفذت الحروب والأزمات الكثير من الطاقات والموارد المادية والبشرية وحرم الشعب من نعمة الأمن والاستقرار. وفي الخارج واجه النظام علاقات صعبة مع العالم الغربي وعدائية مع الولايات المتحدة الأمريكية ولاسيما أن أزماته وحروبه الأهلية قد فتحت الباب على مصراعيه نحو التدخل الأجنبي بدوافع التدخل الإنساني. هذا التدخل الأجنبي لا يمس السيادة الوطنية فقط وإنما يمثل تهديدا مباشرا يمهد الطريق نحو التفكك والإنفصال، وبالتالي تهديد وحدة السودان التي تم الحفاظ عليها طوال الفترة الماضية ولم يتخل عنها أبناء السودان رغم الحروب والمحن والنكبات.
وهكذا فإنه يمكن القول ان أزمة إقليم درافورهي تحدٍ مباشر وحقيقي لكل من المجتمع ونخبة السياسية والثقافية والاقتصادية والدولة ومؤسساتها، وتؤكد هذه الأزمة الحقيقة المرة في فشل الجميع في بناء ثقافة سياسية واعـــية أو إجمـــاع وطــني حـــــول مفهــــــوم الهوية الوطنية (National Identity) وتبنَّي الديمقراطية التوافقية وما يترتب على هذا المفهوم من قيم وسلوكيات ومؤسسات، لعل أبرزها حقوق المواطنة والتداول السلمي للسلطة والحوار وقبول الآخر المختلف والعدالة والمساواة وسيادة القانون، الأمر الذي يسهل بناء نظام سياسي مستقر يحظى بالشرعية والقبول في مجتمع غير متجانس عرقياً وثقافياً وحضاريا. وكذلك يعزز القناعة لدى السودانيين بإعادة النظر بمواقفهم وترتيب حساباتهم على أساس أنهم مواطنون سودانيون بالدرجة الأولى وضرورة الحفاظ على وحدة السودان واستقراره كوطن نهائي لجميع أبنائه، ذلك أن تنوعهم الثقافي والحضاري هو مصدر قوة وغنى لهم وليس مصدر ضعف أو منبعاً للفرقة والاختلاف.
وكما للسودانيين مصلحة في الحفاظ على أمن واستقرار ووحدة التراب الوطني السوداني، فإن لدى العالم العربي مصلحة أكيدة في الحفاظ على وحدة السودان ولاسيما أن تفكك الدولة والمجتمع سوف يفضي إلى قيام دويلات صغيرة متناحرة على الحدود والموارد وقد تصبح هذه الدويلات أشبه بدمى بأيدي القوى الإقليمية الكبرى ولاسيما أثيوبيا. كما أن انقسام السودان قد يعزز التوجهات الانفصالية للأقليات في دول أخرى في إفريقيا الأمر الذي سوف يكون له أثار كارثية على معظم الدول الأفريقية. فهل يتنبهه السودانيون قيادة وشعباً إلى هذه الحقائق، نأمل ذلك.
نشأة الدولة السودانية الحديثة وابرز المشاكل التي واجهتها منذ الاستقلال:
إنفصل السودان عن مصر ونال الاستقلال التام في مطلع عام 1956، ومنذ البداية كان الصراع على السلطة بين أفراد النخبة السياسية الحاكمة في الخرطوم هو السمة الملازمة لمختلف أنظمة الحكم في السودان. وكان من أبرز نتائج هذا الصراع على السلطة إهمال جنوب السودان وبالتالي نشوء مشكلة الجنوب. هذه المشكلة تعود في جذورها إلى العهد الاستعماري البريطاني الذي إتبعَّ سياسة فصل الجنوب عن الشمال ثقافياً وسياسياً واقتصادياً. وعند رحيل الاستعمار فقد شعر أبناء الجنوب بخيبة الأمل من أشقائهم في الشمال الذين احتكروا السلطة والثروة لدرجة أنه ساد بين أبناء الجنوب شعور بأن الاستعمار البريطاني قد حل محله الاستعمار العربي- الإسلامي ولاسيما في ضوء التهميش السياسي والحرمان الاقتصادي الذي عانى منه الجنوب بعد الاستقلال. الأمر الذي أدى في النهاية إلى التمرد وبدء الحرب الأهلية في الجنوب.
وفي ظل هذه الفوضى تدخل الجيش وشهد السودان أول انقلاب عسكري حيث قام الجنرال إبراهيم عبود بالاستيلاء على السلطة في عام 1958. ولم يتمكن الجنرال عبود من إحداث تغييرات جذرية في بيئة المجتمع أو الدولة السودانية أو تحقيق الاستقرار أو التنمية الاقتصادية، كما فشل في قمع حركة التمرد الشعبي في الجنوب، والتي أصبحت أكثر عنفاً وشراسة في مواجهة القوات العسكرية الحكومية السودانية بعد تشكيل حركة تحرير الجنوب التي عرفت باسم الانايا ناي (The Anya Nya ).
أدى استمرار الحرب الأهلية في الجنوب إلى قيام انتفاضة شعبية وضعت حداً لحكم العسكر أو الجنرال عبود في عام 1964 وعودة الحكم المدني، ومنذ العام 1964 وحتى عام 1969 شهد السودان تشكيل عدد من الحكومات المدنية الضعيفة التي إتسم حكمها بكثرة الانقسامات وتغيير التحالفات بين الأحزاب والنخب السياسية ولم تتمكن النخبة الحاكمة طوال 5 سنوات في الحكم من تحقيق أية منجزات سياسية، إذ لم تتمكن من وضع حد لحالة الفوضى السياسية أو إنهاء الحرب في الجنوب أو حتى الاتفاق على تبني دستور للبلاد. الأمر الذي أدى إلى تدخل الجيش مرة أخرى، حيث قام العقيد جعفر النميري بثاني انقلاب عسكري في تاريخ البلاد في منتصف عام 1969. وقد تحالف النميري في بداية حكمه مع الحزب الشيوعي السوداني وأقام علاقات وثيقة مع الاتحاد السوفياتي وبقية الدول الاشتراكية. إلا أن شهر العسل بين النميري والشيوعيين كان قصيراً جدا إذ تدهورت العلاقات بعد محاولة الشيوعيين الإطاحة بنظام حكم النميري، وبعد ذلك عانى نظام حكم النميري من عزلة دولية، وأمام هذا الواقع لم يجد النميري حلاً لمشكلة جنوب السودان سوى اللجوء إلى الحوار والبحث عن حل سياسي للحرب بعد فشل الحل العسكري، وهكذا تم توقيع اتفاقية سلام في أديس ابابا عام 1972 حيث تم منح الجنوب وضعا خاصا داخل السودان اقرب إلى الحكم الذاتي. وشهد السودان بعد ذلك حالة من الاستقرار السياسي استمرت ما يقارب عشر سنوات.
إلا أن النميري عانى من عزلة داخلية ولم يتمكن من إجراء مصالحة وطنية شاملة ولاسيما مع الزعامات السودانية التقليدية وأبرزها قيادات عائلتي الميرغني والمهدي واللتين سيطرتا على المشهد السياسي السوداني لسنوات طويلة، فلجأ إلى التحالف مع الإخوان المسلمين بقيادة حسن الترابي الذي أنشأ الجبهة الوطنية الإسلامية. وتحت تأثير الترابي قام النميري بنقض بنود اتفاقية اديس ابابا وتم فرض الشريعة الإسلامية أو ما عرف بقوانين سبتمبر على كافة أبناء السودان الأمر الذي أدى إلى تجدد الحرب الأهلية في الجنوب حيث نشأت حركة تحرير السودان بزعامة جون جارانج، وتلقت الحركة الدعم والتمويل من مناوئي النميري في كل من إثيوبيا وليبيا وكوبا وإسرائيل. وفي تلك الفترة حاولت الولايات المتحدة تقديم المساعدة للنميري باعتباره حليفا لها في مواجهة الحكم الشيوعي في اثيوبيا ونظام القذافي المتطرف في ليبيا، إلا أن نظام النميري لم يصمد أمام الضغوط الدولية والحرب الأهلية في الجنوب فسقط في انتفاضة شعبية في عام 1985 مشابهة لسقوط نظام الجنرال عبود في عام 1964. وشهد السودان بعد ذلك مرحلة انتقالية حيث سلم الجنرال سوار الذهب السلطة للمدنيين بعد إجراء انتخابات في عام 1986. وفي الثمانينيات تكرر المشهد السياسي في مرحلة الحكم المدني بعد الإطاحة بالجنرال عبود في الستينات حيث سادت الفوضى والانقسامات السياسية فضلاً عن استمرار الحرب الأهلية في الجنوب.
وفي عام 1989 هندس السيد حسن الترابي انقلاباً عسكرياً بقيادة الفريق عمر البشير الذي انقلب عليه لاحقاً وزج به في السجن إلا أن نظام البشير عانى من عزلة دولية ولا سيما بعد إقامة علاقات وثيقة مع إيران، وفي ظل فشل الحل العسكري لمشكلة الجنوب أضطر البشير إلى توقيع اتفاقية للصلح لوضع حد للحرب الأهلية في الجنوب، إلا انه بعد حل مشكلة الجنوب برزت مشكلة دار فور والتي تمثل تهديدا جديدا لاستقرار ووحدة السودان ولاسيما ان الأزمة أخذت بعدا دولياً في ظل المعاناة الإنسانية التي يعاني منها سكان الإقليم.
أزمة دار فور:الأسباب والمجريات والآثار وأفاق الحل والمصالحة الوطنية.
1- أسباب الأزمة:
يقع إقليم دار فور في غرب السودان ويحده من الشمال ليبيا ومن الغرب تشاد ومن الجنوب جمهورية أفريقيا المركزية، وجميع هذه الدول تميزت بعلاقة مضطربة مع نظام الحكم في السودان منذ أيام النميري وحتى الوقت الحاضر، ويقدر عدد سكان الإقليم حوال أربعة ملايين نسمة، وتعتمد الغالبية الساحقة من السكان على الزراعة والثروة الحيوانية، أما فيما يتعلق بالتوزيع الاثني فإن الغالبية الساحقة من سكان الإقليم هم مسلمون منقسمون إلى عرب مسلمين وأفارقة مسلمين هم قبائل الفور الذي اشتق اسم دار فور منهم إضافة إلى أقلية افريقية- غير إسلامية.
إن النزاع الدائر حالياً في إقليم دار فور له عدد من الأسباب والعوامل المتداخلة، فبينما تعود جذور النزاع إلى عدم المساواة في توزيع السلطة والموارد بين الإقليم والحكومة المركزية في الخرطوم، إلا أن حدة التوتر قد تصاعدت في السنوات القليلة الماضية نتيجة خليط من العوامل لعل أبرزها:
العوامل السياسية:
منذ أيام الحكم البريطاني- المصري المشترك للسودان، فقد كان هناك تركيز واضح واهتمام بالشمال أو المركز في منطقة الخرطوم أو محافظة النيل الأزرق على حساب المحيط أو الأطراف أو باقي أنحاء السودان سواء في الشرق أو في الجنوب أو في الغرب.
وتم توجيه كافة موارد البلاد لخدمة منطقة النيل الأزرق وتركزت السلطة السياسية بيد أبناء الإقليم فيما عانت بقية أجزاء البلاد من التهميش السياسي أو عدم التمثيل وكذلك التخلف الاقتصادي والحرمان الاجتماعي. وبلغة أخرى يمكن القول أن السياسات التي إنتهجتها النخبة الحاكمة في السودان والتي تمثلت في إهمال وحرمان بقية أجزاء البلاد من نصيبها في السلطة والموارد وقد لعبت دوراً هاماً في الحروب الأهلية وعدم الاستقرار الذي عانى منه السودان سواء في الجنوب أو في دار فور في الغرب.
وهكذا يمكن القول أن جذور النزاع الدائر حالياً في دار فور تكمن في غياب العدالة في توزيع الثروة وانعدام المشاركة في السلطة الأمر الذي ولدَّ شعوراً لدى سكان الإقليم بأنهم مهمشون ومحرومون وسياسياً واقتصادياً واجتماعياً، وبالتالي التشكيك بشرعية نظام الحكم القائم أو الدولة ككيان سياسي الأمر الذي قد يؤدي في نهاية المطاف إلى إعلان الثورة ومحاولة الانفصال من أجل الاستقلال السياسي وما يترتب على ذلك من استئثار بالسلطة والموارد في ذلك الإقليم من قبل سكانه.
الكوارث البيئية:
عانى السودان بشكل عام وإقليم دار فور بشكل خاص لسنوات متعددة في القرن الماضي وأوائل هذا القرن من الجفاف وانحباس المطر الأمر الذي أدى إلى المجاعات وانتشار الأمراض وقد وصل عدد ضحايا هذه النكبات البيئية إلى ما يزيد عن 100 ألف إنسان قضوا نتيجة الجوع والمرض في وقت كان فيه السودان يخوض حرباً أهلية ضارية وباهظة التكاليف مادياً وبشرياً مع حركة تحرير جنوب السودان، ومن الواضح انه كان هناك تجاهل أو عدم اهتمام من قبل الحكومة المركزية في الخرطوم تجاه هذا الإقليم وكان لمثل هذه السياسة دور بارز في تغذية مشاعر التمرد والانفصال ولاسيما في أوقات النكبات أو الكوارث الطبيعية. وفي ظل مثل هذه الظروف فإن السكان عادة ما يلجأون إلى الهجرة والتنقل بحثا عن مصادر الحياة من مياه وأراض زراعية أو مراعي الأمر الذي يزيد من حدة التنافس بين سكان الإقليم من عرب وأفارقة مسلمين وغير مسلمين، وبلغة أخرى يمكن القول أن قسوة الطبيعة في ظل غياب السلطة المركزية تؤدي إلى مزيد من التوتر والنزاع بين سكان الإقليم وتغذي نزعة التمرد والانفصال.
العوامل الخارجية:
لا يمكن التعرف على أسباب الأزمة الحالية في دار فور بمعزل عن ما يجري في القرن الأفريقي والشرق الأوسط بشكل عام. ففي المجال الأفريقي فإن العلاقة المضطربة بين نظام الحكم في السودان وليبيا قد دفعت الأخيرة إلى تقديم الدعم لكافة الحركات الانفصالية في السودان سواء في الجنوب أو في دار فور، كما أن ليبيا لديها أطماع في ذلك الإقليم. ولا يختلف واقع الحال بالنسبة لعلاقات السودان مع تشاد أو جمهورية أفريقيا المركزية عن العلاقات مع نظام معمر القذافي حيث تدعم هذه الدول التوجهات الانفصالية في الإقليم فضلاً عن محاولة البعض منها مثل تشاد محاربة العروبة في أفريقيا حيث تتعرض القبائل العربية )عرب المحاميد(في ذلك البلد إلى أشبه ما يسمى بعملية إبادة.
كما أن السودان يعتبر بوابة العرب إلى أفريقيا ولا يزال يتمسك بهويته العربية وان ما يحدث في دار فور أو في جنوب السودان يدل على أن هناك أطرافا دولية و إقليمية تسعى إلى نزع الهوية العربية عن هذا البلد وتقسيمه بإثارة النزعات العرقية فيه. ولا شك ان الولايات المتحدة الأمريكية التي تحاول إعادة رسم خريطة الشرق الأوسط و إنشاء دول جديدة تأتي على رأس قائمة الأطراف الخارجية التي تستخدم معاناة السكان في دار فور ذريعة لممارسة الضغط على السودان والتمهيد لتجزئته وتقسيمه.
وهكذا يمكن القول أن النزاع في دار فور متعدد الأسباب والدوافع ولا يمكن تبسيطه في انه صراع عرقي بين العرب المسلمين والأفارقة غير العرب سواء مسلمين أو غير مسلمين
مجريات الأزمة
تعود بدايات الأزمة الحالية في دارفور إلى منتصف عام 2001 عندما التقى مجموعة من قادة قبائل الفور والزغاواة وهم (أفارقة مسلمون) في إحدى قرى الإقليم واتفقوا على التحالف لمواجهة الغزوات التي تتعرض لها قراهم من قبل جماعات أخرى مدعومة من قبل الحكومة المركزية في الخرطوم، واقسموا على ذلك على القران الكريم وفي أوائل عام 2002 قام المتمردون الناقمون على حكومة الخرطوم بأول هجوم عسكري على الثكنات العسكرية في جبال دارفور. وفي منتصف ذلك العام تم أيضا الهجوم على مركز للشرطة في الإقليم. إلا أن الأزمة الحالية قد بدأت بشكل فعلي تمثل تهديدا حقيقيا لسلطة الدولة بظهور حركة سياسية منظمة ذات نزعة انفصالية تسمى جبهة تحرير دارفور في مطلع عام 2003 والتي قادت مجموعة من الهجمات العسكرية المباغتة والمنظمة على عدد من الدوائر الحكومية والثكنات العسكرية ولاسيما على الحدود مع تشاد. ولم يكن يوسع الحكومة المركزية في ذلك الوقت عمل الكثير ولاسيما إن معظم القوات العسكرية السودانية كانت منشغلة في الحرب الأهلية في الجنوب وجزء آخر منها كان منتشراً في الشرق لحماية خط أنابيب البترول الذي ينقل النفط إلى ميناء بورسودان، والذي تعرض للهجوم والتخريب أكثر من مرة من قبل متمردين مدعومين من أرتيريا وشهد عام 2003 نشوء حركة سياسية انفصالية تسمى حركة العدالة والمساواة مدعومة من دولة تشاد، وقد تحالفت الحركة مع جيش تحرير السودان الذي يعتبر الذراع العسكري لحركة تحرير جنوب السودان حيث قامت حركة العدالة والمساواة بالتعاون مع جيش تحرير جنوب السودان بتنظيم هجوم عسكري كبير على القيادة العسكرية السودانية في عاصمة الإقليم في مدينة الفاشر حيث تم تدمير عدد كبير من الآليات العسكرية ومن ضمنها طائرات مروحية إضافة الى قتل واسر ما يزيد عن 100 من أفراد وضباط الجيش السوداني من بينهم قائد عسكري كبير .
وقد أعتبرت عملية الفاشر نقطة تحول هامة في تاريخ الصراع إذ تعرض الجيش السوداني الى الإذلال أو الهزيمة العسكرية وثارت الشكوك حول مدى ولاء عدد كبير من أفراد وضباط الجيش السوداني ممن هم من إقليم دارفور.
وقد تكمن متمردو دارفور خلال عام 2003 من السيطرة على جزء كبير من أراضي الإقليم وكسبوا ما يعادل 34 من 38 هجوما على القوات الحكومية الأمر الذي دفع الحكومة إلى إعادة صياغة الإستراتيجية العسكرية لقمع حركة التمرد حيث تم تبني إستراتيجية جديدة تقوم على 3 أسس:
الاعتماد على الإستخبارات العسكرية لجمع المعلومات والتقارير عن قادة وتحركات ومصادر تمويل حركة التمرد ومحاولة تصفيتها.
الاستخدام المكثف لسلاح الجو حيث تقوم الطائرات بقصف مراكز التمرد وتدمير المحاصيل الزراعية والثروة الحيوانية (سياسة الأرض المحروقة) استخدام عرب الجن جويد بتسليحهم وتشجعيهم على مهاجمة قرى وأماكن تجمع قبائل الفر والاعتداء على ممتلكاتهم .
ووفق الإستراتيجية الجديدة فقد تمكن عرب الجن جويد من فرض هيمنتهم على معظم أنحاء الإقليم وكان ثمن النصر مكلفاً جدا إذ أنه بحلول ربيع عام 2004 فقد شرد ما يزيد عن مليون مواطن إضافة الى عشرات الآلاف من القتلى. وقد لأحظ مندوب للأمم المتحدة قام بزيارة الإقليم ان قرى الفر كانت في بعض مناطق الإقليم خالية تماماً من أثار الحياة الإنسانية بينما كانت القرى العربية تعج بالنشاط والحياة وفي بعض الحالات لم تكن المسافة التي تفصل قرية عربية عن قرية افريقية تزيد عن 500 متر، الأمر الذي يؤكد أن الحكومة كانت تميز بين سكان هذه القرى وهكذا يفند إدعاءات الحكومة السودانية بأن النزاع في الإقليم ذو طابع قبلي يدفعه التنافس على المياه والأراضي والمراعي إذ يؤكد أفراد قبائل الفر وأعضاء حركة العدل والمساواة أن الحكومة تدعم الجن جويد وتصر على إنتهاج سياسة عنصرية تهدف إلى تغيير الطابع الديمغرافي في الإقليم بتمكين العرب وتهميش الآخرين .
وفي عام 2004 رعت تشاد اتفاقية لوقف إطلاق النار بين القوات الحكومية والمتمردين وشكل الاتحاد الأفريقي لجنة لمراقبة وقف إطلاق النار بين الجانبين وكانت الهدنة تهدف إلى إعطاء فرصة لمنظمات الإغاثة الدولية من أجل تقديم المساعدات لضحايا الأزمة. وعندما بدأت الحكومة السودانية بإجراء مفاوضات سلام في كينيا مع حركة تحرير جنوب السودان لإنهاء الحرب الأهلية، فقد شعر أهالي دارفور أن حكومة السودان مستعدة للتفاوض واقتسام النفوذ والثروة مع أهل الجنوب بينما تدير ظهرها لمطالب أهالي دارفور الأمر الذي أدى إلى تجدد النزاع لاسيما بعد إعلان عبد الواحد نور قائد حركة تحرير دارفور أن حركته سوف تستأنف القتال وتوسع ساحة الصراع لتشمل الخرطوم وشرق السودان وهكذا تجدد النزاع طوال الفترة اللاحقة.
وفي منتصف عام 2005 وقعت إحدى فصائل التمرد في دارفور اتفاقية سلام مع الحكومة السودانية تتضمن نزع سلاح الجن جويد والمتمردين وتجنيدهم في الجيش السوداني إلا أن معظم حركات التمرد في دارفور وعلى رأسها حركة العدل والمساواة رفضت اتفاقية السلام المذكورة الأمر الذي أدى إلى تجدد النزاع مرة أخرى.
وفي عام 2006 فإن تجدد النزاع قد أدى إلى التهديد بوقف اكبر عملية إغاثة إنسانية حيث هددت المنظمات الإنسانية الدولية بالإنسحاب من الإقليم بعد الهجمات التي تعرض لها العاملون في هذه المنظمات، ودعا الأمين العام للأمم المتحدة كوفي عنان إلى ضرورة وضع حد للمأساة الإنسانية في دارفور واقترح إرسال قوات قوامها 17 ألف جندي تابعة للأمم المتحدة لحفظ السلام في الإقليم المضطرب وكبديل لقوات الاتحاد الأفريقي المكونة من 7 آلاف جندي والتي تفتقر الى المعدات اللازمة لمراقبة وقف إطلاق النار وحماية المدنيين، الا أن الحكومة السودانية رفضت اقتراح الأمين العام واعتبرت ذلك نوعا من التدخل الأجنبي في الشؤون الداخلية للسودان.
ثم اتخذ مجلس الأمن القرار رقم (1706) والذي نص على إرسال بعثه دولية إلى دار فور لتقصي الحقائق وإعداد تقرير عن الأوضاع في دار فور إلا أن الحكومة السودانية رفضت استقبال بعثه مجلس الأمن وشككت بحيادية أو موضوعية اللجنة ولاسيما أن تقارير سابقة للممثلين للأمم المتحدة أكدت أن الحكومة السودانية لم تفي بالتزاماتها باحترام حقوق الإنسان في دارفور.
وفي عام 2007 استمرت الضغوط الدولية على الحكومة السودانية وشدد الأمين العام الجديد للأمم المتحدة على أهمية الحلول الدبلوماسية إلا أنه رفض رؤية الحكومة السودانية بإعادة النظر بالاتفاقية السابقة التي تقضي بإرسال قوات افريقية دولية مشتركة إلى الإقليم المضطرب.
وهكذا نجد أن الحل العسكري هو الأسلوب الذي ركزت عليه الحكومة السودانية في التعامل مع الأزمة والذي يثبت لحد الآن عدم نجاحه في إيجاد حل لأزمة دارفور التي زادت تعقيدا بدخول إطراف خارجية في النزاع ولاسيما المحكمة الجنائية الدولية التي طلب منها مجلس الأمن التحقيق في أحداث دارفور نتيجة ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية فيم رفضت الحكومة السودانية تلك المحكمة.
وفي غضون ذلك يظل مئات الآلاف من نازحي دارفور ينتظرون حلا مجهولا لا يعرف اتجاهات تحقيقه أحد في غمرة اتهامات متبادلة بين مختلف أطراف النزاع محليا وعريبا ودوليا، وهكذا فإن اختلاف الفرقاء في كل شيء يسقط كل نية حسنة في ميادين النزاع مما يؤدي إلى المزيد من العنف والدمار والمعاناة الإنسانية.
آثار الأزمة
شأن كل الحروب والنزاعات الأهلية فإن الخاسر الأكبر في حرب دارفور هو المواطن السوداني الذي يدفع ثمن هذه الحرب على أكثر من صعيد. فعلى الصعيد السياسي فقد أدت الحرب إلى التدخل الأجنبي المباشر في الشؤون السودانية سواء كان ذلك من قبل دول الجوار وعلى رأسها تشاد وجمهورية إفريقيا الوسطى أو من قبل الاتحاد الأفريقي والأمم المتحدة وأثار هذا التدخل على سيادة السودان واستقلاله ولعل الخطورة في الموضوع تكمن في تشكيل المحكمة الجنائية الدولية للتحقيق في الانتهاكات التي ارتكبت في دارفور والتي توجه عناصر الاتهام فيها إلى مسؤولين سودانيين كبار.
وفي الجانب السياسي أيضاً فإن الحرب حرمت الشعب السوداني بشكل عام من نعمة الأمن والاستقرار التي طال انتظارها التي أوشكت على التحقيق بعد إنهاء الحرب الأهلية في الجنوب. كما أن أحداث دارفور أوقفت مسيرة الانفتاح السياسي التي شهدها السودان بعد توقيع اتفاقية السلام مع الجنوب والتي كان يمكن أن تهيئ الإجراء نحو عملية التحول الديمقراطي والتداول السلمي للسلطة ولاسيما أن رياح التغير والتحولات الديمقراطية قد هبت على كافة أقطار أفريقيا، فأحداث دارفور أدت إلى استمرار نظام حكم البشير غير الديمقراطي وزيادة نفوذ الجيش وبالتالي فإنه من غير المحتمل أن يشهد السودان في السنوات اللاحقة أي نوع من الإنفراج السياسي أو التحول نحو الديمقراطية كأسلوب في الحكم أو منهج في التفكير والحياة.
أما على الصعيد الإنساني فإن آثار الحرب تبدو أكثر مأساوية ذلك انه وفقاً لإحصاءات الأمم المتحدة فإن عدد القتلى نتيجة الصراع قد تجاوز 400 ألف فيما زاد عدد المشردين عن 2 مليون وتتضاعف معاناة النساء والأطفال بين المشردين الذين يعيشون في ظروف مأساوية. ولعل معاناة النساء تبدو أكثر وضوحاً لدى اللواتي يتعرضن للاغتصاب أو الاعتداءات الجنسية حيث يستخدم الاغتصاب كسلاح في النزاع الدائر بين الفرقاء في الإقليم. فالتقارير تشير إلى تعرض مئات النساء إلى الاغتصاب، وتزداد معاناة مثل هذه الضحايا في المجتمع الذي ينبذهن. وهكذا فإن النظرة الاجتماعية السلبية للنساء المغتصبات تدفع عددا كبيرا منهن إلى الامتناع عن الاعتراف بوقوعهن ضحايا للاغتصاب .
وأخيراً على الصعيد الاقتصادي فإنه ما من شك بأن النزاع قد الحق اضرارا ً اقتصادية بالغة بجميع الأطراف ولاسيما المواطنين في دارفور والذين تعرضت ممتلكاتهم للمصادرة والنهب واضطروا إلى هجرة أماكن إقامتهم والإقامة في مخيمات للاجئين تقيمها المنظمات الدولية.
أفاق الحل المصالحة الوطنية:
لا شك أن هناك علاقة بين طبيعة النزاع وفرص وأفاق الحل والمصالحة الوطنية، فالمعلوم أن الحروب والنزاعات الأهلية عادة ما تكون نتيجة اختلافات في المصالح أو الأهداف أو القيم أو الأيدلوجيات أو الدين والمعتقدات أو التركيبة العرقية أو الاجتماعية. وكلما زادت أسباب ودوافع النزاع كلما إزدادت صعوبة الحل والمصالحة.
وفي هذا المجال يمكن القول أن الأزمة الحالية في إقليم دارفور في السودان هي صراع مصالح بالدرجة الأولى
( (Conflict of Iinterestsصراع على الثروة والسلطة أو على الموارد والمكاسب السياسية، فالنخبة السياسية الحاكمة في الخرطوم استأثرت بالنفوذ واستثمرت موارد الدولة لخدمتها منذ الاستقلال حتى الوقت الحاضر، الأمر الذي دفع أهل الجنوب في الماضي وأهل دارفور في الوقت الحاضر إلى محاولة التمرد والانفصال لتغيير هذه المعادلة السياسية غير المنصفة وغير المنطقية في نفس الوقت. أما ردة فعل الحكومة السودانية فقد كانت دوماً تحاول فرض الأمر الواقع واستخدام القوة العسكرية كوسيلة لحسم النزاع. ولقد ثبت بالتجربة العملية فشل هذا الأسلوب سواء في الجنوب حيث استمرت الحرب الأهلية بعد تجددها في بداية الثمانينات من القرن الماضي ما يقارب 25 عاماً وأيضا فإنه من المستبعد ان ينجح الخيار العسكري في دارفور.
وهكذا نجد أن الحوار والمفاوضات ومحاولة التعرف على وجهة نظر الطرف الآخر ومعاناته كانت دوما غائبة عن أهل الحل والعقد في الخرطوم والتي صمت أذانها عن الأصوات التي تنادي بالمشاركة والحوار الوطني الجاد لدراسة واقع دارفور وتطلعات أهله والوصول إلى توافق في إطار سودان موحد وديمقراطي يعلي قيم المواطنة والمشاركة بعيدا عن التعصب والعنف. ولا شك أن الديمقراطية التوافقية حيث يكسب جميع أطراف اللعبة السياسية قد تكون البديل الأمثل لانتهاء أزمة دارفور.
إن الأساليب والوسائل التي استخدمتها النخبة السياسية الحاكمة في السودان سواء مع مشكله الجنوب أو في أزمة دارفور لم تؤد في يوم من الأيام الى حل جذري للنزاع الدائر، وإن كانت تؤدي أحياناً إلى تجميد النزاع مؤقتاً إلا أنها لم تفلح في الوصول الى الحل النهائي، وهكذا فإن الأخوة في السودان على رأسهم القيادة السياسية بحاجة الى رؤية جديدة وأفق أوسع يعترف بالأخر المختلف ويحرص على احترام رأيه ويحترم حقوقه ومصالحه ويسعى للتوافق لا للإقصاء هو الطريق نحو الحل والمصالحة الوطنية.
4030