موضوعة القمع في الرواية العربية

اعداد : فــاروق وادي

مركز الرأي للدراسات

8/2010

القمع بقعة داكنة تمتد لتغطي محيطنا الشاسع. تنتشر لتقتحم تفاصيل حياتنا اليومية، تعبُر لحظاتنا، تسكننا من الداخل، تستقر فينا منذ اللثغة الأولى وخطوات البداية. تتسرب في جزيئيات التكوين السيكولوجي الفردي والجمعي، وتُشكِّل سنداً لتركيبة المؤسسات الإجتماعيّة والسياسيّة والثقافيّة السائدة.

 

آثارها لا تحملها، فحسب، الأجساد التي تذوقت عذابات السجون في الزنازين، فخرجت – إن قُدِّر لها أن تخرج – حاملة الأورام والتقيحات والأمراض المزمنة، وشارات الدم المتخثِّر محفورة على خريطة الجسد.. شهادة ممهورة بالأختام الرسمية. بل نلمحها في وجه طفل مستكين يُتقن تنكيس الرأس، ولا يجرؤ على طرح الأسئلة حول تجليات الثالوث المُحرّم من حوله.

فعن أية تجربة تحدّث طفل الأمس، مبدع اليوم؟ عن أيّة تجارب شخصيّة وجماعيّة سيتحدث طفل اليوم، مبدع الغد؟. إنه يتنفس داخل دائرة مسمومة، دائرة مشحونة برائحة القمع. فهل يروي أم يصرخ؟ هل يحلم، أم يحاول كسر جدران تلك الدائرة ليملأ رئتيه بالهواء النظيف المُغاير لتلك الرائحة؟!

***

الحديث عن أية تجربة داخل الإطار الإجتماعي العام، في مجتمع الإستلاب، تبقى تمسّ موضوعة القمع من قريب أو بعيد، أراد الكاتب أو لم يُرِد.

ربما لم يضع نجيب محفوظ، على سبيل المثال، ضمن أهدافه، وهو يكتب ثلاثيته الشهيرة، رسم صورة من صور القمع. لقد أراد أن يرصد، برؤيته الفنيّة، الحياة السياسية والإجتماعية المصريّة في حقبة مُحدّدة، من خلال أسرة تنتمي إلى البورجوازية الصغيرة، بعلاقاتها الداخلية، وهيمنتها الذكوريّة البطريركيّة، وجدلية علاقتها في الإطار الاجتماعي الأوسع.

لكن الثلاثية ("بين القصرين"، "قصر الشوق"، "السكرية")، تبقى، حتى الآن، الأنموذج الأوضح للقمع "الأسري ـ الأبويّ" في الرواية العربية. ويظلّ السيد أحمد عبد الجواد، سيد الأسرة، حاضرا فينا، كنموذجٍ لحالة أكثر اتساعا، ما زالت سائدة بيننا بشكلٍ أو بآخر: "لم يكن غريبا أن يقطع السيِّد الفترة القصيرة التي تسبق مجيء الأم بصينية الطعام في تفحص أبنائه بعين نافذة، حتى إذا عثر على خلل ولو تافه في هيئة أحدهم أو بقعة في ثوبه إنهال عليه نهراً أو تأنيبا، وربما سأل كمالاً بغلطة:

ـ غسلت يديك؟

فإذا أجاب بالإيجاب، قال له أمراً:

ـ أرنيهما.

فيبسط الغلام كفيه وهو يزدرد ريقه فرقا، وبدلاً من أن يشجعه على نظافته يقول له مُهددا:

ـ إذا نسيت مرة أخرى أن تغسلهما قبل الأكل قطعتهما وأرحتك منهما!".

كأنما الطفل العربي يفتح عينيه، أول ما يفتحهما، على صورة من صور القمع. لا يرى الضوء الساطع فوق وجهه، بل البقعة السوداء الداكنة ذاتها. هكذا تصبح المعادلة: وعي العالم = وعي القمع في هذا العالم.

صورة أخرى للوالد القمعي ترتسم في وعي "عربي" منذ البداية، في رواية تيسير سبول " أنت منذ اليوم"، وتتشكل على امتداد سطورها. صورة أخرى للسيد الرّاعب، لها ملامحها الفنيّة الخاصّة وأسلوبها في القمع، ولكنها تبقى تُعبِّر عن عمومية الحالة الإجتماعية للقمع الأبوي داخل مؤسسة الأسرة.

منذ السطور الأولى يفجعنا سبول بالصُّورة. الوالد الفظ يُمزِّق جسد القطة بضربات عصاه، وتفاصيل اللوحة الدامية ترتسم في وعي الطفل:"عاجلها على الرأس بضربة أخرى، سمعتُ صوت تنفسها المختلط بسائل الدم. وانتفضتْ نفضات سريعة واستلقتْ وجنتها على الأرض. ونفض أنفها مزيداً من الدم، ثم سكنت.. عيناها ظلتا مفتوحتين".

 

سيتذكر "عربي" الشاب، تلك الصورة. ويظل يرى والده كما رآه في طفولته، متمنطقا حزامه العسكري العريض الذي يثنيه وهو يضرب زوجته. يستذكر ذلك وهو يعبُر عالما أكثر اتساعا، عالماً خاصيته الأولى القمع.

تلك مجرّد صورة من صور القمع الإجتماعي الذكوري البطريركي، الذي يمتد بشكلٍ خاص إلى قمع المرأة في المؤسسة الزوجيّة. وهو الذي تجلى بكثافة في رواية سحر خليفة "يوميات إمرأة غير مبالية" التي تحفر عميقاً في سيكولوجيا المرأة المقموعة وتفاصيل حياتها اليوميّة مع كائنٍ وحيد يرافقها في لحظات الوحشة، قطتها الأليفة، دون أن تُفلح في نزع الشعور العارم بالإحباط عنها: " "منذ زمنٍ طويل اكتشفتُ موقعي في هذا العالم. منذ زمنٍ طويل مللتُ المقاومة وألقيت السلاح. وأيّ سلاح؟".

وإذ تحتل مؤسسة العائلة حيزاً في الدائرة الواسعة التي تغرقها البقعة السوداء، إلاّ أنها لا تستأثر بها كلِّيّة، فتحتل المؤسسات الأخرى حيزها المتعاظم فيها.

وإن اختلف "منصور" عن "عربي" في المؤسسة التي نشأ فيها، فإنه يلتقي معه في معاناة القمع، وفي التأكيد على المعادلة الفاجعة: وعي العالم = وعي القمع في العالم.

فوعي "منصور"، طفل الياس خوري في روايته "عن علاقات الدائرة"، يتفتح على مؤسسة من مؤسسات القمع أيضاً، وإن كان خارج مؤسسة الأسرة، فإنه يظل داخل المؤسسات الإجتماعية القائمة.

داخل الدير، الميتم، يجد الطفل نفسه. عالم يتشيأ فيه البشر في عيني الطفل. جاؤوا به من الرصيف ومنحوه إسماً: "ساسميك منصور يا ولد". لم يكن له خيار. والمكان الذي أوهموه أنه بيت الأطفال الحلوين يعيشون فيه بمحبة، كشف عن وجهه بعد لحظة كمؤسسة من مؤسسات القمع: "نقصّ لك شعرك حتى لا يصير مكاناً للحشرات، أين تعتقد نفسك، أنت في ميتم، المتيم ليس فندقاً سياحياً، إنه مكان للعمل، لا تقل ما ذنبي، ذنبك هو الرصيف، ضربَتك الراهبة، ستكسر رأسك في المرة الثانية، أين تعتقد نفسك، لن تذهب. ستذهب غصباً عنك، يجب أن تعمل غصبا عنك، الميِّت خشبة".

يخرج الطفل هارباً من الدائرة الضيقة. يكبر فيجد نفسه واقعا في الدائرة الأوسع.. فيحمل معوله ويحاول كسرها واختراقها من أجل أن ينفذ إليها هواء آخر جديد!

***

الحيِّز الأكبر من دائرة القمع، تحتله الدولة، سلطة القمع الأقوى، الهيئة التي تمثل، في التحليل الماركسي، سيادة وظلم واستثمار طبقة لطبقة أخرى، مستندة في قوتها على أجهزتها الأمنيّة وأدواتها القمعية، الجيش والشرطة، المباحث والمخابرات، السجون والمعتقلات وأدوات التعذيب، تسندها مؤسسات التصنيع والترويج الأيدولوجي.

ولأن المُبدع العربي ينتمي إلى موقع سياسي وأيدولوجي متناقض مع التوجهات الأيدولوجيّة للدولة - مُطلق دولة تحمل هذه الشروط – وممارساتها القمعيّة، فإن معاناته القمع تجد أرضها، مثلما يجد تعبيرها الفني عن القمع السياسي صورته في كتابته. ومهما اختلفت رؤية مبدعٍ عن أخر، فإن رواية القمع العربية، تلتقي كلها - من أية رؤية وتجربة انطلقت - في أنها تقف في مواجهة القمع.

"شرق المتوسط"، رواية عبد الرحمن منيف، صوت أخر ينضاف إلى صوت الإحتجاج الذي أطلقه الكاتب ضد القمع قي روايته الأولى "الأشجار واغتيال مرزوق". بل صرخة احتجاج أخرى تحاول اختراق قشرة الأرض، لتنقش الإدانة فوق الصخر ضد القمع السائد في منطقة شرق البحر الأبيض المتوسط، الرّحبة.. والأكثر ضيقاً، معاً.

"رجب" بطل منيف، الزاحف ببطء يجر ثقل الهزيمة وعبء إحساسها (بعد أن وقّّع نهاية حياته السياسية مقابل وضع حد لحياة قاسية عاناها داخل السجن وامتدت سنوات خمس)، يفرُّ حاملاً إحباطاته، باحثا في العالم عن بقعة أخرى خارج هذه الغبراء، الممتدة على الشاطيء الشرقي للبحر المتوسط. أرض أخرى تظللها الديمقراطيّة وليس للقمع فيها مكان يُذكر. وفي العالم الرّحب، يكتشف أن ذاكرته مازالت أسيرة الزنازين وسنوات الرعب. كل التفاصيل اليومية تظل قابلة لاحتمالات الإنحناء لترتد إلى الماضي.. إلى السجن. فكأنه لم يخرج من السجن إلاّ إلى سجنٍ داخليّ يلاقى فيه نهايته.

"شرق المتوسط"، رواية القهر السياسي العربيّة بامتياز. فموضوعة القمع لا تُشكّل فرعاً من سياقها العام، ولكنها تحتل السياق كلّه. إنها تطمح إلى تكثيف التجربة القاسية، تسحق بطلها المقموع وتدين سلطة القمع. غير أنها تظل رواية مقموعة. لكنها تتنصل، تحسباً وحذراً، من التحديدات المكانية والزمانية الدقيقة، وإن حرصت على تأطير رقعة أحداثها في فضاء هلاميّ أوسع يشمل المساحة التاريخيّة والجغرافيّة المترامية شرق المتوسط!

في روايته "الهؤلاء"، يلتقي مجيد طوبيا مع عبد الرحمن منيف في تجنُّب التحديد الزمكاني، وفق تعبير باختين (المكاني والزماني في اندماجهما معاً). لكنه ينأى أكثر، فيخلق زمناً ضائعا ومكاناً باهتاً، يصنع "يوتوبيا" القمع، إن جاز التعبير، ويرسم لوحة قاتمة يعمل على تمزيقها أمام عيوننا.

وإن ظل عبد الرحمن منيف حريصا على الإمساك بخيوط الواقع، بشخوصه وأحداثه، رغم اتساع المكان واستيعابه بقعة شاسعة لا تنحصر ضمن خطوط سياسيّة وجغرافيّة محدّدة، ويظل مُحافظاً – في الوقت نفسه - على الإمساك بالخريطة وتسميتها، فإن مجيد طوبيا يخوض بنا في عالمٍ من التجريدات العقلية التي تُعرّي الفكرة من واقعيتها – رغم ارتباطها بواقعها -، ليرسم بها عالم القمع المجرَّد والمضخّم وينحته بقسوة ورهبة.

ففي ديار "أيبوط" (وهو إسم رمزي. فالرواية "لا أساس لها من الصحة"، كما يذكر الكاتب في عنوانها الفرعي)، يكتشف أحد رعايا تلك الديار، أن الأرض تدور عكس عقارب الساعة. وهذا الوعي يقوده إلى السقوط في أيدي "الهؤلاء".. رجال المباحث الذين يشكِّلون نسبة النصف من أبناء تلك الديار، والذين يملكون القدرة على قراءة أفكار المرء قبل أن يتلفظ بها!

وتتوالى الأحداث، حلقات كابوسية تبدو بلا نهاية، مفتقرة إلى منطق الأشياء، غير أنها تبقى منسجمة مع منطق القمع.

بطل تخيُّلي، يعيش أحداثا تخيُّلية في ديار لا تعرف إلا القمع. عالم رهيب أشبه بعوالم "كافكا" الكابوسية.

ومرة أخرى، نجد أنفسنا أمام رواية عربية حول القمع، لكنها هي الأخرى تعاني القمع ذاته. تهرب من قمع السلطة لتلوذ بقمع كاتبها. وها هو صوت الكاتب، مُحترساً، يؤكد على أن هذه الرواية "لم تقع هنا، لم تحدث الآن، وإنما حدثت أحداثها إبّان زمن غير مؤكد وفي بقاع غير معروفة (...) كذلك فإن شخصية الراوي – الذي هو أنا – تخيلية غير موجودة"!

***

تهرب رواية القمع العربية، في معظم حالاتها، من المواجهة الحادة. يهرب كاتبها مرتين: مرة لأنه التجأ إلى الفن وسيلة للتعبير، وهي وسيلة تسعفه على التخفي تحت ضباب الكلمة والصورة القابلة لأكثر من احتمال أو تأويل. ومرة أخرى لأنه يتنصل من التحديد ويلوذ إلى التعميم والتجريد. فالقمع الذي تفضحه الرواية يظل يلاحقها، إن لم يلاحق كاتبها، لأنها إذا كانت أكثر صراحة.. أكثر صرامة ووضوحا وصداميّة، تكون عرضة للمصادرة، إن لم يتعرض كاتبها نفسه للمصادرة.

إنها التعبير الموضوعي عن المعنى الذي تحدث عنه "بريخت" حول خبث العقل، والعمل بدهاء من أجل نشر الحقيقة بين البشر في مجتمعات القمع، حتى لا يتمكن العدو من اكتشاف عملية التوصيل بيسرٍ وسهولة. فالمصاعب تبقى جسيمة للذين يكتبون تحت سيطرة النازية – يضيف بريخت –، وهي تشمل الملاحَقين والفارِّين وأولئك الذين يكتبون في البلاد التي تسودها الحريّات البورجوازية. وعلى هؤلاء أن يمتلكوا الدهاء من أجل نشر الحقيقة بين البشر، الذين تتحوّل الحقيقة بين أيديهم إلى فعالية كفاحيّة.

هكذا، يُسقِط جمال الغيطاني في "الزيني بركات" الواقع الراهن على لحظة قمعيّة من لحظات التاريخ، أو يستحضراللحظة التاريخية من أجل التعبير عن آلية قمع تمارسها السلطة القائمة. فترتدي مباحث أمن الدولة، في زمن الكتابة ومكانها، ملابس "البصاصين" في قاهرة القرن السادس عشر. وهي، كما أسلفنا، وسيلة من وسائل الدهاء الذي تحدث عنه بريخت، من أجل نشر الحقيقة بين الجماهير، ومواربةً فنيّة في حديث القمع.

***

تمارس الرواية القمع الذاتي ضدّ تهوُّرها السياسي، فتتجنّب الأمور التي تدفع بها إلى هاوية المباشرة (أن تعمل بدهاء فني، بتعبير آخر)، وإلاّ فإنها ستكون عرضة لقمع السلطة لها. فالشرط الأساس لكتابة القمع تكمن في أن يجد الكاتب معادلته الصّعبة بين شكل وموضوع خطابه حول القمع. وإلا، فليس أمام الكاتب سوى الإقلاع عن محاولة زجّ نفسه في الحديث حول التابو الكبير الذي تمثِّله السياسة، وجانبها الأخطر التصدي لموضوعة القمع.

"تلك الرائحة"، رواية صنع الله إبراهيم الأولي، لم تخضع للإبتزاز، فدفعت الضريبة، التي تمثّل في بتر الرقابة أجزاء منها، ذلك أنها رأت قضبان السجن تمتد إلى ما وراء جدران الزانزنة.. تلاحق السجين إلى الخارج، تعترض طريقه في البيت وشوارع المدينة، فكأنما العالم كله (عالم أنا السارد، بتعبير محمود أمين العالِم في "ثلاثيّة الرفض والهزيمة" التي قرأ فيه أعمال صنع الله إبراهيم) أصبح قضبان سجن ليس أقلّ رحمة. ولم ترحم مجلّة ثقافيّة ليبراليّة مثل "شعر"، الرواية، فبترت أجزاء أخرى منها عند إعادة نشرها.

مثلها تعرضت "الخماسين" لغالب هلسا. صدرت الرواية باديء الأمر مبتورة، خاضعة لقمع الرقابة، ذلك أنها لم تخضع للإبتزاز، مثلها مثل كاتبها، الذي اختار في حياته النفي الإختياري لائذاً إلى مكانٍ آخر، فلقيه القمع مرة أخرى في تلك البقاع.. بعد أكثر من عشرين عاما عاش فيها منفياً.

وفي مصر، صدرت رواية يوسف القعيد "يحدث في مصر الآن" بعد أن أعاقت الرقابة الرسميّة صدورها لأكثر من عامين، إلى أن تسرّبت، في لحظة من لحظات البحبوحة الديمقراطية الطارئة في المرحلة الساداتيّة، لتُقدِّم شهادة فضائحية ضد القمع وسلطته. لكن الرواية صدرت مُغرقة في تقشُّفها، مثل منشور سري، وكان صدورها لا يطمح إلى أكثر من القول وتقديم شهادة. أو كما أشار الكاتب نفسه، على الغلاف الأخير لتلك الطبعة، إنه يخشى "أن يقال إننا شاهدنا وعاصرنا وأدركنا، ولزِمنا الصّمت"!

أما روايته التالية "الحرب في بر مصر"، فقد هجرت موطنها هربا من القمع، مثلما هجرته من قبلها ثلاثية شريف حتاته "العين ذات الجفن المعدنية"، لتصدر خارج بلدها، أي خارج المكان الذي تجرى أحداثها فيه، وفي سجونه.

***

في مقدِّمة روايته "تلك الرائحة"، استعار صنع الله إبراهيم صوتاً من أحد أعمال "جميس جويس" يقول: "أنا نتائج هذا الجنس وهذه البلاد وهذه الحياة.. ولسوف أعبر عن نفسي كما أنا".

كان التعبير عن النّفس، في الرواية، تعبيرا عن القمع في المجتمع، حيث تمتلك الذات، في التحامها الصادق والحار بالموضوع، قدرة التعبير عن جوهر هذا الموضوع.

فعندما طُرح السؤال حول اكتساب تجربة القمع السياسي أهمية أساسية في أعماله، قال صنع الله إبراهيم: "عندما تناولتُ تجربة القمع السياسي، لم يكن الأمر نابعاً من رغبة في التعبير عن واقع نظام ما، لم تكن عندي هذه الرغبة أبدا (...) كان الأمر مجرّد تعبير عن تجربتي الذاتية".

فمن التجربة الذاتية الحارة والصادقة، نَفَذَ الكاتب إلى جوهر الموضوع، وكان القمع محورا يلتف حوله نسيج الكلمات.

ليس صدقا مع النفس فحسب، حينما تُصبح موضوعة القمع نقطة جوهرية، أو جزءاً أساسياً في العمل الإبداعي الطامح إلى التعبير عن الذات المستلبة في مجتمع يحيا تحت حراب القمع، بل استيعابا للشرط الموضوعي السائد.

كل هذا الروايات، وأخرى غيرها، ظلّت تستوعب هذا الشرط الأساس: "القلعة الخامسة" لفاضل العزاوي، "الوشم" لعبد الرحمن الربيعي، "الكرنك" لنجيب محفوظ، "المتردون" و"القطار" لصلاح حافظ، "الثلج يأتي من النافذة" لحنا مينة، "نجمة أغسطس" لصنع الله إبراهيم، "كانت السماء زرقاء" و"الحبل" لإسماعيل فهد، "الغرف الأخرى" لجبرا إبراهيم جبرا، و"مذكرات كاتم صوت" لمؤنس الرزاز.. وغيرها الكثير من روايات القمع.

رواية القمع العربية، في أي شكل حلّت، ومن أيّة بقعة جاءت، تظل صادقة وجريئة، تقارع، تصرخ، تفضح، تعرِّي، توارب، تلتزم الدهاء، فتبقى صادقة. ذلك أنها لم تستتكف ولم تخن شرطها الإجتماعي والتاريخي. إنها تحيا في ظل سلطات تشعل نارها التي تلتهم الأوراق والأجساد معا، ولكنها تحيا. وبوسائلها الفنيّة، تقاوم القهر والبطش والقمع.. بكلّ أشكاله وتجلياته.

wadi49@hotmail.com