مركز الرأي للدراسات
اعداد : م. مهنـد النـابلسي
شباط 2014
تسعى بعض الشركات العربية للتميز وتبذل جهوداً كبيرة لمحاكاة نماذج التميز العالمية، وقد لاحظت قصوراً واضحاً في مراحل تطبيق هذه النماذج، وحيث تبدو الجهود المبذولة وكأنها ورقية استعراضية! وربما يعزى السبب لصعوبة الالتزام بالنماذج النظرية للجودة مثل الجودة الشاملة والحيود السداسي.....الخ، وبهدف تبسيط هذه المهمة لشركاتنا الرائدة وإعطاء المجال للتطبيق العملي الواقعي فسوف أتطرق في هذه العجالة لمفهوم إدارة العمليات ، ومن منطلق عصري متكامل بعيداً عن النظم والأساليب القديمة البالية!
تطور مفهوم إدارة العمليات أصلاً من منهجية إدارة الجودة الشاملة والتي انتشرت في الثمانينات في العالم الغربي المتقدم، وفي بداية تسعينات القرن الماضي بدأت الجودة الشاملة في التراجع فيما حافظت «إدارة العمليات المتواصلة» على حيويتها التطبيقية، وبعدها بسنوات دخل مفهوم الهندرة لسوق الأعمال، وتم اعتماد الهندره كبديل تطبيقي لمفهموم ادارة العمليات، ثم حدث تطور ملحوظ دراميتيكي أدى لظهور مفهوم الحيود السداسي(والذي طبقته موتورولا وجنرال اليكتريك بنجاح)، ولكن شيوعه اقتصر على الشركات الراغبة بالتقنيات الإحصائية، ومن ثم دخل مفهوم الجودة الرشيقة وأندمج مع الحيود السداسي ليكون منهجية عملية بديلة لكافة الشركات الصناعية والخدمية وحتى للمؤسسات الحكومية! وهكذا يمكن أن نقول باختصار أن الموجتين الأوليتين لإدارة العمليات حققتا التميز التشغيلي بينما استطاعت الموجة الثالثة والأخيرة تحقيق ما يسمى «ديمومة التميز»! لا أهدف من هذه المقالة المبسطة الخوض في التقنيات المعقدة لهذا العلم التطبيقي العصري، إنما أسعى ببساطة لإلقاء الضوء باختصار على مكونات هذه المنهجية والتي تعتمد في معظمها على أدوات وتقنيات قل ما نلجأ إليها وإن تم اعتمادها في بعض المؤسسات لأهداف «تجميلية بحته»! نبدأ بأدوات ارضاء الزبائن والعمليات وتهدف لتوضيح قيم الزبائن، وننتقل لأدوات التصميم والسيطرة الهادفة لتأسيس توجها عملياتياً مؤسسياً، ثم ننتقل للرزمة الثالثة من الأدوات المكونة من خرائط العمليات ونماذجها وتهدف لتوثيق واكتشاف المراحل المنطقية لإنجاز العمل، ومن ثم للمرحلة الرابعة المكونة من تحليل العمليات وإعادة تصميمها والهادفة لتوليد حلول تحسينية، وأخيراً للمرحلة الأخيرة التي تحتوي على أدوات استراتيجية تهدف لإدارة الأداء بهدف رفع سوية التأثير التنافسي للأداء التشغيلي.
يهدف هذا المقال لطرح صورة شاملة لمنهجيات وأدوات إدارة العمليات، بحيث يلفت انتباه أصحاب القرار والمدراء التنفيذيين للمباشرة بحملات تدريب وتوعية شاملة للبدء بتبني بعض هذه المفاهيم والتقنيات والأدوات والتي مازالت مغيبة عن معظم ممارساتنا التشغيلية في المؤسسات الخدمية والصناعية والحكومية، وساحاول بهدف التبسيط طرح مصفوفة تبدأ من حاجتنا للتوثيق والمطابقة، ومن ثم التحسين والتركيز على الدورة الزمنية للإنتاج والخدمات، وننتقل تلقائياً للتحسين، ومن ثم للهندرة وإعادة التصميم، ومروراً بحل المشاكل ومن ثم للإدارة الإستراتيجية والاتمته..الخ. وإذا ما حاولنا اللجوء لعرض سريع للأدوات المستخدمة في كافة هذه المراحل فسنجد أن معظم شركاتنا تفتقر للتدريب والممارسة وتبتعد كثيراً عن الإبداع في الاستخدام، والذي يقود تلقائياً للفشل والإحباط ( والبعد عن التميز!) ، وكثيراً ما ينزعج المدراء والعاملون من هذه الملاحظات ويريدون حلولا سريعة تجميلية (مسلوقة)، بحجة ضعف الكفاءات وقلة الموارد وضيق الوقت، وربما يعزى السبب الأساسي لعدم إلمام الكثير من المرشدين والموجهين والمستشارين أساساً للمعرفة العملية المحدثة بهذه التقنيات، ففاقد الشيء لا يعطيه! حيث تتطلب هذه المعرفة رغبة جامحة ومثابرة عنيدة لاكتساب الخبرة والاطلاع على تجارب نقل المعرفة وقراءة العديد من المقالات وقصص النجاح وكل هذا لا ينسجم أساساً مع ثقافة القراءة في عالمنا العربي البائس والتي تشمل النخبة أيضاً، فحسب احصائيات اليونسكو لعام 2003 فالمواطن العربي لا يطالع في المعدل الا حوالي صفحة واحدة (في كتاب) سنوياً، أي ما يستغرق حوالي الست دقائق، بينما يطالع الأوروبي أو الامريكي حوالي ثمانية كتب سنوياً لمدة 12000دقيقة أي حوالي ألفي ضعف المواطن العربي!! وهذه الحقائق تفسر ببساطة أسرار تخلف العرب في ميادين كثيرة ومنها هذا الميدان الحساس!
وحتى لا أظهر كشخص يبالغ فإني أطرح سؤالاً عاماً طويلاً: كم من الشركات تطبق بمهارة التقنيات والأدوات التالية: التفكير النظمي وخرائط العمليات المعرفية، نموذج كانو، مصفوفة قيم المستهلكين، التناغم الهيكلي ، مخططات تحليل الأعطال والتأثيرات، مصفوفة الأولويات، القياسات، الدورة الزمنية، مخططات الانسياب المتداخلة، مخططات «راسي»، النمذجة العملياتية، استراتيجية التحسين، مخططات السمكة (السبب والتأثير) وباريتو و القرابة، خرائط التفكير الذهنية، خرائط الاستراتيجية، بطاقات التوازن الرقمي، اتقان العمليات، الغطاء الاستراتيجي، الخ.... وأنا على ثقة ويقين من أن معظم مؤسساتنا لم تستخدم الكثير من هذه الأدوات والتقنيات وأن استخدمت بعضها فبشكل تجريبي غير متكامل وغير فعال!! في عصر التنافس والتميز حري بنا أن نسأل أنفسنا هل نبذل جهوداً كافية لتحقيق التميز بشكل جوهري شامل؟! وهل نسعى لديمومة ذلك؟
كذلك فمن الضروري أن نضع المفاهيم والأدوات في سياقها الصحيح وأن لا نبالغ في استخدامها على حساب الصورة الشاملة بحيث تؤدي أحياناً لنتائج معاكسة، كما لاحظت تحديداً في الاستخدام والانتشار الغير مفهوم لأداة «بطاقة التوازن الرقمي» لتصبح منهجاً شاملاً وبدون تحضيرات كافية مما أدى في حالات كثيرة لإخفاق وتخبط تماماً كما حدث في التسعينات لاستخدام مفهوم الهندرة!
لماذا لا ينجح تطبيق «الحيود السداسي» بمؤسساتنا العربية؟
سمعنا كثيرا عن مفهوم «الحيود السداسي» واهميته العالمية البالغة بالمحافظة على مستويات رفيعة من الجودة للمنجات والخدمات على حد سواء، والحقائق التالية تبين بالأرقام المغزى العملي من تطبيقه وعلى كافة الأصعدة والفعاليات: تعني «السيجما ثلاثة» السائدة عادة الاحتمالات الرقمية التالية: 20 الف رسالة بريدية ضائعة في الساعة الواحدة، ومياه غير صالحة للشرب لمدة ربع ساعة يوميا، خمسة ألآف عملية جراحية خاطئة اسبوعيا، هبوطا قصيرا او طويلا للطائرات مرتين يوميا، 200ألف وصفة دوائية خاطئة سنويا، انقطاع الكهرباء لسبع ساعات شهريا ! بالمقابل أما «السيجما السادسة» المطلوبة (والصعبة التحقيق عمليا الا للمؤسسات العالمية الطموحة المتميزة) فتعني الأرقام «المدهشة» التالية: 7 رسائل ضائعة فقط بالساعة الواحدة، ماء غير صالح للشرب مرة واحدة فقط خلال سبعة اشهر، ولا يزيد عدد العمليات الجراحية الخاطئة عن عمليتين اسبوعيا، هبوط طويل اوقصير بالمطارات لمرة واحدة فقط كل خمس سنوات، 68 وصفة دوائية خاطئة سنويا، وانقطاع كهربائي واحد فقط كل 34 سنة! وقد تم استخدام هذه المفارقات الرقمية كوسيلة ببدايات التطبيق بتسعينات القرن الماضي لاقناع مدراء الشركات الأمريكية من قبل المستشارين والمتخصصين، وتقودنا هذه المقارنة ايضا لتفسير سبب عزوف معظم الشركات العربية عن السعي الجدي لتطبيق هذا المفهوم بحرفية وشمولية، حيث يمكن اعتبار ذلك كمؤشر عملي لضعف انتشار الثقافة الرقمية الاحصائية، ولعجز واضح عن استخدام ادوات الاحصاء المذكورة بهذه المقالة، كما لوحظ أن بعض المؤسسات العربية تدفع مبالغ طائلة لشراء برامج استشارية اجنبية باهظة التكاليف وغير قابلة للتطبيق العملي ومعقدة، فيما تتردد نفس المؤسسات بتطبيق أساسيات وأدوات الجودة الشاملة والكايزن السهلة التطبيق والتي تحتاج لتضافر الجهود والتدريب المركز وتعزيز ثقافة القياس والعمل الجماعي والتواصل الفعال.
اعداد القهوة ونموذج بوينغ!
وسأطرح في نهاية مقالتي هذه مثالاً معبراً لطريقة استخدام أداة «نموذج الاعطال وتحليل المؤثرات» يتعلق بإعداد فنجان القهوة حسب المواصفات، فالمدخلات هنا هي القهوة والماء والمضافات والتجهيزات، والعملية تتكون من الطحن والحفظ والتنظيف، والمخرجات هي التذوق والحرارة واللون والرائحة، ويتمثل نموذج العطل هنا في طعم القهوة (تذوقها)، بينما تتمثل المؤثرات في شكل ونظافة الفنجان وحجم المبيعات وقد تصل في حدها الأعلى لخطر المرض بفعل تقديم قهوة رديئة ملوثة! بينما تتمثل الأسباب في كل من القهوة الرديئة والماء الملوث(غير النقي) والإضافات الرديئة (السيئة الطعم والمكونات) ومن ثم في التجهيزات الرديئة، أما طرق الكشف فتتمثل في كل من فحص الشم، والفحص الكيماوي والفحص البصري للقهوة، وإذا ما اردنا قهوة لذيذة متميزة فعلينا مراعاة كل هذه العناصر مجتمعة ومحاولة قياسها بشكل رقمي للتمكن من رصد الخلل ومعالجته وحصر تأثيره! وربما يتساءل المرء عن مغزي تعقيد الأمور والحقيقة أن المقاربة العلمية لمعظم العمليات هي التي ستؤدي لتحسينها ورفع جودتها وبالتالي الإرتقاء بكافة مستويات الصناعة والخدمات في مجتمعاتنا العربية !
في الختام أرى أن مستقبل صناعاتنا وخدماتنا مرتبطة لحد كبير في قدرتنا على تطبيق منهجيات وأدوات ادارة العمليات بشكلها العصري، وهذا يتطلب حمله شاملة وتدريب متخصص وتطبيق تجريبي، وتقييم وتغذية راجعة وصبر ودقة مع مراعاة عنصر الوقت والزمن وحده التنافسية في سوق الأعمال والخدمات.
وحتى نقتنع بمجالات التطبيق العملي لإدارة العمليات، فيكفي طرح بعض الأمثلة المعبرة منها انجازات شركة بوينغ العالمية في تقليص زمن الانتاج للطائرة الواحدة من سبعة أسابيع ليصبح بفضل هذه التقنيات ثلاثة أيام فقط للطائرة الواحدة! كذلك تحقق السيكس سيجما(الحيود السداسي) إنجازات ملموسة في مجال الخدمات المالية للتركيز على توليد العوائد بدلاً من التركيز فقط على تقليص التكاليف. وفي الخلاصة فإن دمج مبادرات التحسين العصرية المختلفة ضمن إدارة العمليات يساعد المؤسسات على النجاح والتميز، بحيث تصبح هذه المفاهيم جزءاً من نسيج المؤسسة وموجوداتها ذات القيمة المضافة والتي تجعل العاملين يفتخرون بالانجازات المحققة والتي تعود عليهم بالحوافز والمكاسب المتنوعة.