التدخل العسكري الروسي في شبه جزيرة القرم

مركز الرأي للدراسات

اعداد :عارف عادل مرشد

آذار 2014

اولا: لمحة موجزة عن أزمة شبه جزيرة القرم:

تقع شبه جزيرة القرم في جنوب جمهورية أوكرانيا ويحيط بها البحر الأسود من الجنوب والغرب، ولاتتصل بالبر القاري الا من خلال شريط ضيق من جهة الشمال. ويمتد من جهتها الشرقية شريط أرضي يكاد يتصل بالأراضي الروسية، ومساحتها سبعة وعشرين الف 27000كم مربع، وهي جمهورية ذات حكم ذاتي داخل الأراضي الأوكرانية بحكم اتفاقية مع الاتحاد السوفياتي عام 1991 بعد انفصال أوكرانيا عنه. يقارب عدد سكانها المليونين من عدد سكان أوكرانيا البالغ نحو 46 مليون نسمة، أغلبهم روس بمقدار يزيد على الخمسين في المئة، يليهم قرابة خمسة وعشرين في المئة اوكرانيون، أرضها غنية بالمعادن لاسيما الحديد والنفط، وتربطها مع روسيا علاقات تاريخية ولغوية وثقافية قوية.

والقرم هي كلمة تتارية تعنى القلعة، وقد أقام التتار بالجزيرة منذ القرن الثالث عشر الميلادي، وخضعت لحكم الإمبراطورية العثمانية في القرن الخامس عشر واتخذ العثمانيون من مدينة «بخش سراي» عاصمة لها، وفى عام 1774 استولت عليها روسيا القيصرية وأعلنت ضمها رسميا في 1783، وبعد قيام الثورة البلشفية عام 1917 في روسيا ثار سكان الجزيرة وأعلنوا الاستقلال ولكن استمرت الاضطرابات بالجزيرة حتى سيطر الشيوعيين عليها وتم انضمامها كجمهورية لها استقلال ذاتي الى روسيا باسم «جمهورية القرم الاشتراكية السوفيتية» في عام 1920، وبعد نهاية الحرب العالمية ألغي الحكم الذاتي للجزيرة وأعلن ضمّها بشكل كامل الى الاتحادالسوفييتي، وفي سنة 1954 قرر الحزب الشيوعي السوفييتي بقيادة نيكيتا خروتشيف «الأوكراني الأصل» نقل تبعية الجزيرة الى «جمهورية أوكرانيا الاشتراكيةالسوفيتية»، وبعد انهيار الاتحاد السوفييتي عادت شبه جزيرة القرم الى الحكم الذات في إطار الجمهورية الأوكرانية.

واشتهرت شبه جزيرة القرم في نهاية الحرب العالمية الثانية بعقد مؤتمر للحلفاء في منتجع يالطا في نوفمبر 1945جمع كل من ستالين وروزفلت وتشرشل لترتيب أوضاع العالم بعد الحرب ووقع المؤتمرون اتفاقيةيالطا.

في يوم 27 فبراير 2014 استولت القوات الروسية على معظم شبه جزيرة القرم وسط تصاعد احداث العنف التي عصفت بأوكرانيا منذ 18 فبراير من نفس العام، عندما اشتبك المتظاهرون مع الشرطة، وقتل 82 شخصا على الاقل من بينهم 13 من رجال الشرطة، وأكثر من 1،100 جريح، وقد تصاعد الصراع بسرعة، مما ادى في غضون أيام قليلة الى سقوط الرئيس الأوكرانيفيكتور يانوكوفيتش الموالي لموسكو، وإقامة حكومة جديدة حلت محل حكومته.

هذا التغيير في كييف لم يرق لسكان العديد من المناطق في جنوب وشرق البلاد. وفي يوم 23 فبراير وكجزء من نتائج الثورة الأوكرانية ألغي قانون اللغة للأقليات (والذي يشمل الروسية) وتم إعلان اللغة الأوكرانية لغة رسمية وحيدة للبلاد. فجاء هذا القرار ليصب الزيت على النار في لتلك الأقاليم المستاءة أصلا من التغييرات الحاصلة في عاصمتهم. وقد رأت تلك الاقاليم وخاصة شبه جزيرة القرم أن خطوة إلغاء قانون اللغات هي دليل على أن المحتجين في كييف يحملون اجندة معادية لروسيا ولهم توجه عنصري.

في 1 مارس، وافق مجلس الاتحاد الروسي بالإجماع على طلب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين استخدام القوات الروسية في أوكرانيا.و في 2 مارس، استدعى مجلس الأمن القومي الأوكراني كامل قوات احتياط القوات المسلحة.و تصاعد التوتر في القرم بين الأطراف المؤيدة لروسيا والمؤيدة لأوكرانيا وتوالت ردود فعل حلفاء أوكرانيا الغربيين، فوزير الخارجية الأمريكي وصف التصرفات الروسية بأنها عمل عدائي لا يصدق، ومفوضة الشؤون الخارجية في الاتحاد الأوروبي دعت روسيا إلى التعبير عن وجهة نظرها بسلمية.

وبتاريخ 3 مارس، أفادت الأنباء بأن رئيس أسطول البحر الأسود أعطى الحكومة الأوكرانية مُهلة حتى الساعة الرابعة فجرًا لتسليم القرم إلى روسيا، أو الاستعداد لهجوم القوات الروسية لاحتلال المنطقة. ومع ذلك، نفى المتحدث باسم الأسطول عن إصدار أي إنذار من قبل وكالة انترفاكس الروسية للأنباء

وكانت أوكرانيا عاشت منذ نوفمبر 2013، اضطرابات انطلقت شرارتها مع إلغاء يانوكوفيتش اتّفاق الشراكة مع الاتّـحاد الأوروبي والتوجّه الى روسيا، حيث أبرم اتّفاقاً تعهّد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بموجبه بدعم أوكرانيا بـ15 مليار دولار، أي ما يفوق كثيراً ما كانت ستحصل عليه البلاد جرّاء اتّفاق الشراكة مع الاتّـحاد الأوروبي. لكن تلك الخطوة لم تكن سوى الشرارة التي أشعلت النيران في حقل البارود الأوكراني. وهذا دليل على وجود احتقان شعبي من سياسات يانوكوفيتش. وبدت الأمور وكأن أوكرانيا باتت حقلاً للمساومة بين الولايات المتحدة وأوروبا من جهة وروسيا من جهة أخرى. واتّهمت موسكو الاتّـحاد الأوروبي بمحاولة إقامة «منطقة نفوذ» في أوكرانيا. وربط كثير من المحلّلين الأزمة الأوكرانية بالأزمة السورية، وقالوا إن الغرب يحاول ابتزاز روسيا في أوكرانيا حتى يقبل بوتين بالتخلّي عن بشار الأسد، خصوصاً مع انطلاق مؤتمر جنيف ـ2، الرامي الى إيجاد حلّ سياسي للأزمة السورية.

وعلى وقع هذه الأيام الدامية التي انتهت بإسقاط الرئيس فيكتور يانوكوفيتش، وبصعود نجم المؤيّدين للاتّـجاه الأوروبي، بزعامة رئيسة الوزراء السابقة يوليا تيموشنكو، التي أخرجتها الثورة الجديدة من السجن، لتكون هي المرشّح الأبرز لقيادة البلاد واستعادة أمجاد «الثورة البرتقالية» التي كانت هي بطلتها في العام 2004 وعلى رغم أن الأحداث لم تستقرّ بعد في البلاد، فإنه يمكن القول إن حقبة يانوكوفيتش قد انتهت، مع ما يعنيه ذلك من تقليص للنفوذ الروسي في أوكرانيا.

ثانيا) دوافع التدخل العسكري الروسي :

1- الأهمية الاستراتيجية: كانت لشبه جزيرة القرم دائما أهمية بالغة بالنسبة إلى روسيا الإمبراطورية والسوفيتية وروسيا المعاصرة لأن امتلاكها كان يعني السيطرة على البحر الأسود والمناطق المطلة عليه.

ولم تصبح روسيا دولة عظمى إلا بعد ضمها للأراضي المتاخمة للبحر الأسود، بما فيها شبه جزيرة القرم خلال النصف الثاني من القرن الثامن عشر.

واختارت بريطانيا وفرنسا بالتعاون مع العثمانيين شبه الجزيرة بالذات لإجراء أول عملية إنزال بحري واسع النطاق في العالم في عامي 1856 - 1857 (ابان حرب القرم) و كان الهدف طرد روسيا وقاعدتها البحرية ومنعها بذلك من حق امتلاك أي أسطول بحري قوي في البحر الأسود الا ان الحلفاء لم يعتزموا آنذاك التقدم إلى عمق روسيا ومع ذلك توقف نشاط روسيا هناك.

روسيا لم تستعد عظمتها إلا بعد استعادتها السيطرة على القرم عامي 1877 - 1878 لفرض السيطرة على مضيقي البوسفور والدردنيل بغية ضمان الخروج الآمن لأسطول البحر الأسود الروسي إلى المتوسط.

وما زال الروس يشكلون غالبية سكان القرم وخاصة بعد ترحيل جوزيف ستالين سكانها الأصليين التتار من موطنهم إلى كازاخستان في شرق الاتحاد السوفيتي عام 1944 بمبرر دعمهم للألمان وبلغت نسبة الروس في شبه الجزيرة آنذاك 75%.

فيما شكلت نسبة الأوكرانيين عام 1944 في القرم 21% فقط. وبعد تفكك الاتحاد السوفيتي عام 1991 بقيت القرم أوتوماتيكيا في قوام أوكرانيا بصفتها دولة مستقلة.

واضطرت روسيا طوال أكثر من عقدين للقيام بمناورات سياسية لإبقاء أسطولها بالبحر الأسود في القرم، عن طريق عقد الاتفاقيات مع الحكومات الأوكرانية التي كانت تتغير من وقت إلى آخر. وكان اخر هذه الاتفاقيات في نيسان عام 2010 وكانت تقضي ببقاء الأسطول البحري الروسي في القرم لغاية عام 2042 مقابل دفع روسيا مبلغ 100 مليون دولار سنويا وتنزيل سعر الغاز المصدر إلى أوكرانيا بنسبة 30%.

وتولي روسيا أهمية كبرى لمدينة (سيفسيستوبل) ضمن شبه جزيرة القرم لأنها تضم ميناء استراتيجي عاى البحر الاسود، كان خلال حقبة الاتحاد السوفياتي السابق، يستخدم لتمركز اسطول بحري ضخم للقوات السوفياتية، لتكون جاهزة للتدخل ضد اي تحرك ضد الاتحاد من جانب اي دولة اوروبية.

2- الأهمية الاقتصادية: أهم الصناعات في القرم تشمل صناعة الأغذية، ومجالات الهندسة الكيميائية والميكانيكية والمعدنية، وصناعات إنتاج الوقود. كما تشمل الفروع الرئيسية للإنتاج النباتي في المنطقة الحبوب والخضروات، وصناعة النبيذ.

كما تشكل شبه جزيرة القرم أهمية كبرى لجهة توفر ثروات طبيعية كبيرة فيها،منها مثلا النفط والغاز والفحم اضافة الى المعادن والنحاس, كما انها تضم منتجعات بحرية فاخرة هي محط جذب سياحي كبير.

ثالثا) مالات الأزمة:

ان من المتوقع ان يكون حجم التدخل العسكري الروسي قالا للزيادة او النقصان، تبعا للتطورات السياسية والعسكرية، لجهة جدية السلطات التي استولت على السلطة في اوكرانيا على المواجهة عسكريا، وجدية الدول الغربية في ممارسة ضغوط على روسيا،خاصة ان السلطات الاوكرانية اعتمدت حتى الان سياسة عدم الرد خوفا من استدراج مواجهة عسكرية غير متكافئة مع الجيش الروسي قد تجر الى مزيد من التدخل العسكري الروسي. وبالتالي من المتوقع ان لا تلجا السلطات في اوكرانيا حاليا الى الخيار العسكري، الا في حال عدم اكتفاء الجيش الروسي بالسيطرة على شبه جزيرة القرم، ومحاولة التمدد الى مناطق أخرى شرقي البلاد.

فعندها لن يكون للأوكرانيين ما يخسرونه خاصة وان القوميين الأوكرانيين عازمون على مواجهة اي سيطرة للروس على أوكرانيا بالقوة باستثناء منطقة القرم التي يفضلون ان تحل ازمتها الحالية عن طريق التفاوض غير المباشر بمساعدة الدول الغربية.

وبالنسبة الى احتمال حصول اي مواجهة عسكرية بين القوات الروسية واي قوات أمريكية او أوروبية، فهو غير وارد وفق الظروف الراهنة. ولا إمكانية لأي تدخل عسكري من قبل الولايات المتحدة الأمريكية لانتفاء الصفة، او من قبل الدول الأوروبية الغربية ولا حتى من حلف شمال الأطلسي، بحكم عدم الرغبة اولاً، وخطورة اي مواجهة مباشرة مع الروس ثانيا،والصعوبة اللوجستية للتحرك السريع ثالثاً.

وبالتالي، ان اكثر ما يمكن حصوله حالياً هو اجراءات على المستوى الدبلوماسي، مثل مقاطعة قمة مجموعة الثماني، واخرى على المستوى الاقتصادي مثل فرض عقوبات على شركات روسية والتسبب بمزيد من الضغوط على العملة الروسية.

وعلى اية حال، يبقى من الصعب التكهن بما ستؤول اليه الأمور، فوصول قادة متمسكين في المقام الأول بربط مستقبلهم بأوروبا وليس بروسيا، يعتبر مشكلة جدية للرئيس فلاديمير بوتين الذي يحلم بإبقاء أوكرانيا في فلك روسيا. وللتأثير على سياسة أوكرانيا تملك روسيا وسائل عدة بحكمالروابط القوية جدا بين اقتصادي البلدين.

وكانت روسيا هددت بأنها ستزيد الرسوم الجمركية على المنتجات الواردة من أوكرانيا إن اقتربت كييف من الاتحاد الأوروبي. كذلك أدانت موسكو التدابير المعادية لروسيا التي اتخذتها السلطات الجديدة في كييف، كما أدانت المنحى «الدكتاتوري والأساليب الإرهابية» في أوكرانيا. وأول نتيجة لتغيير الحكم في كييف ستكون على ما يبدو توقيع اتفاق مع الاتحاد الأوروبي والتخلي عن اتفاق التقارب مع موسكو الذي وقعه الرئيس المعزول فيكتور يانوكوفيتش.

أما الرئيس الأوكراني بالوكالة ألكسندر تورتشينوف فأعلن أن الاندماج الأوروبي يشكل «أولوية» لأوكرانيا ودعا موسكو إلى احترام «الخيار الأوروبي» لأوكرانيا.

والمعطيات الجديدة في أوكرانيا «البلد الشقيق لروسيا» حسب تعبير لفلاديمير بوتين، ينهي حلم الرئيس الروسي بتشكيل اتحاد اقتصادي للدول التي كانت في بوتقة الاتحاد السوفياتي السابق، لمنافسة ليس فقط الاتحاد الأوروبي بل والولايات المتحدة والصين.

المؤشرات تدل على أن الأزمة ذاهبة إلى مزيد من التعقيد، والحلول تبدو أكثر تعقيدا، خاصة أن العالم برمته الآن موجود في الملعب الأوكراني، ولا أحد يمكنه أن يدعي استحواذه على الكرة.

وفي آخر تطورات هذه الازمة، طلب برلمان القرم، الذي يهيمن عليه التيار الموالي لروسيا الخميس (6/مارس)، من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ضم الجمهورية لروسيا وتنظيم استفتاء في 16 / مارس حول مصير شبه الجزيرة الاوكرانية، كما افاد مسؤول في البرلمان.

وسيكون على الناخبين الاختيار بين الانضمام الى الاتحاد الروسي او تعزيز الحكم الذاتي لشبه جزيرة القرم، كما قال النائب غريغوري يوف. وكان برلمان القرم في السابق يعمل على تنظيم استفتاء حول الحكم الذاتي فقط في 30 اذار/ مارس.

لقد أشار هنري كيسنجر ذات مرة الى إنه «في نهاية المطاف، يمكن تحقيق السلام فقط بالهيمنة أو بخلق توازن في القوى». وأوكرانيا إما ستخضع للهيمنة الروسية، أو أنها ستقرر أخيراً مستقبلها الخاص في حال قامت أميركا بموازنة قوة روسيا.