مركز الرأي للدراسات
د. عبد الحميد خلف الحامد الأزايدة
آب 2014
وكذلك جعلناكم امة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً{ صدق الله العظيم على هدي هذه الآية الكريمة, وفق الله مجموعة من أبناء هذا الوطن قبل بضع سنين على تأسيس حزب الوسط الإسلامي, وكنت احدهم آنذاك لقناعتي أن وسطية الإسلام واعتداله هي الحل الأمثل لمشكلات البشرية في أي زمان ومكان، سيما وأنها منهج قائم بذاته يعتمد النظر العميق والبحث البصير, لإدراك الأمور وكشف جوهرها وسبر غورها للوقوف على خباياها وأسرارها, من خلال تفعيل العقل والفكر ثم الموازنة بين أطرافها وجوانبها واختيار الأفضل والأكمل منها طريقًا في الحياة وأسلوب في التعامل, وذلك بمنهج وسطي معتدل، وكونه الوسط في كل شيء فهو خيرها وخيارها, يُعْتقد فكرًا ويُجسد سلوكًا في المخاطبة والمجادلة والمعاملة والعلاقات العامة والخاصة, وعليه فلا بد من التروي وترشيد الرؤية السياسية بروح الواقعية في النهج, معزز بإطار متين من عبق الوسطية والاعتدال, فالواقعية المقصودة ليس في قبول الأمة للواقع, ولكن في كيفية تغيير هذا الواقع إلى ما يحقق مصالحها على أسس موضوعية, وهنا لابد من (الواقعية العملية) التي تضع الأمور في سياقها التاريخي الأبعد، وتربط ما هو قائم والهدف التالي ضمن مجموعة من الأهداف المرحلية وصولاً للهدف النهائي.
وعليه فلا بد من اخذ كافة المخاطر والاحتمالات المطروحة بعين الاعتبار, بحيث لا تقفز عن الواقع وتكون كالطوباويين الحالمين, وبنفس الوقت لا تخضع له وتكون من المستسلمين، وهذا لا يتأتى إلا بسياسة وسطية معتدلة لا تعرف الخضوع ولا التطرف أي أن يكون واقعي ومبدئي في آن, بحيث لا تحيد بوصلته عن مبادئه وأهدافه البعيدة, وبنفس الوقت يكون عقلاني يتفهم الواقع وموازينه وفقا لمقتضياته وشروطه الواقعية الفكرية, وهنا قد نضطر للقبول بالواقع والتعاطي معه (فن تحقيق الممكن) وفقًا لمقتضيات تلك الشروط، مع ملاحظة أن الإطار الإيديولوجي يفترض النتيجة سلفًا ومصادرة النهج، في حين أن الإطار النظري يضع الفكرة بمثابة نظرية قابلة للإثبات أو الرفض, وهذا هو النوع المقبول في الواقعية ومرغوبًا بها, وليس تلك التي تسمى واقعية التعامل مع العالم أو الواقع والرضوخ لشروطه وهيمنته، فهذا النوع من الواقعية مرفوض لأن العلاقة بين الضرورة الواقعية والضرورة الفكرية العقلية ستكون معقولة حسب هيجل. سيما وأن الشيء قبل أن يصبح حقيقة واقعية ملموسة في حياة البشر يجب أن يقره العقل, وأن يكون المنطق مكان ولادته, لأن المنطق هو الشيء الذي يحجب العقل من التفكير في الخطأ.
ولتحقيق ذلك لابد من مخاطبة الفرد بحيث توضع الأحداث أمامه لتعميق الرؤيا, استجلاء للماضي أملاً بفهم الحاضر, واستشراف المستقبل، الذي يرسم معالمه واقع الحاضر ومعطياته. وكل ذلك من خلال رسالة واضحة تكون أمام ناظريه, لها أهداف ورؤى وفلسفة أيديولوجية إلى جانب فكر استشرافي واستراتيجي, ولتوفير ذلك لابد من توفر عناصر أساسية, كالتنظيم, والتخطيط, والإرادة, وصدق الانتماء والإيمان بالفكرة وأيضا لابد للفرد الذي يتبنى هذه الأمور أن يضم بين جوانحه عزة الإسلام ويتوقد فؤاده بكبرياء الإيمان، وحزم المؤمن الواثق، فالفرد لابد أن يكون عنده القدرة على إدراك الأولويات، وحسن قراءة الظروف وتحديد الإمكانات، وحسن التخطيط والتنظيم والتوجيه والاتصال والرقابة، واتخاذ القرار في اللحظة الظرفية المواتية (أمس مبكر وغداً متأخر واليوم هو الموعد) لينين عندما سؤل عن موعد الثورة البلشفية 1917، فالقرار الصحيح في التوقيت الصحيح، لذلك على الفرد أن يكون مشبعاً بمفهوم المؤسسية ومفهوم الرقابة الوقائية، ومتمكن من إدارة الحوار على أساس منهجي، وجدول أعمال واضح، محاوراً العقل بالحجة والمنطق والبرهان، من خلال إثارة كوامن التفكير في العقول وتحفيز دوافع الإبداع والتفاعل معها بالفعل لا بالألفاظ، ومن أراد أن ينجح في ذلك فلابد أن يربى على التفاؤل وعدم التطير، وأن يستبدل ثقافة الصمت والتفرج واللامبالاة بما يجري حوله إلى ثقافة المشاركة والتقرب من المشكلات والدخول فيها، سيما وأنه مشارك بالمسؤولية إن كان بالصمت أو الممارسة على حد سواء، لذلك لا بد من الخروج من إطار انتظار الحدث إلى صناعته، سيما وأن هناك عصف فكري في كل بيت وزاوية
وخلجات كل نفس أردنية في هذا الزمن الصعب، مع أن هناك كثير من الناس عازف عن المشاركة في أي نشاط متذرعاً بمقولة أن الصمت ذهب الفقراء، وهكذا يجد الإنسان نفسه اختيارياً في خانة التهميش والإقصاء، جنباً إلى جنب، مع من سبقه من المهمشين قسراً، المحرومين ظلمًا، من أن يكون لهم دور متقدم في خدمة وطنهم، سيما وأنهم أصحاب كفاءات تؤهلهم من ذلك. وجل هؤلاء من أبناء الريف والبادية والقرى والمخيمات بمكوناتها العشائرية الباسلة الماجدة، يجدون أنفسهم تحت رحمة دكتاتورية الأقلية الطبقية، التي زاوجت مابين السلطة والمال (قوى الشد العكسي) المرتدية لعباءة الديمقراطية الخداج في بلدنا الحبيب، نقول لهؤلاء كفاكم نرجسية، يا من تعتكفون في محراب القهر، وعقلية الأنا، وأدبيات القلاع، وثقافة إلغاء الآخر، يا من تتوارثون كل شيء، إِنزلوا من صياصيكم، توقفوا عن تقديم أرغال الرجال، إياكم والرويبضة، أَنزِلوا الناس منازلهم أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. (كانت مهمة أحد المسئولين السوفييت أيام الحرب الباردة، والذي يعمل لصالح المخابرات الأميركية هو إحلال العناصر الرديئة في المناصب بدلاً من أصحاب الكفاءات).
أما أنت أيها المواطن الكريم، يا من تكظم غيظك لا بد أن يكون لك رأي تبديه، سيما في المعارضة المتممة للتعدية، والتي تعتبر أهم المرتكزات السياسية للتنوع السياسي، القائم على مبدأ حرية الرأي والرأي الآخر، وتعدد الآراء والاجتهادات، مشروط باحترام قواعد العمل الديمقراطي، بين جميع الأطراف، ولكل طرف الحق بالإدلاء برأيه بحرية تحت مندوحة حرية التعبير ولكن لا بد من أن نقف بحذر عند هذه الحرية المتاحة، والتمييز مابين حرية الاعتقاد والفكر التي لا قيود عليها، وحرية التعبير والدعوة إليه، فإذا كان هناك حرية مطلقة في التعبير حسب قول فولتير (أني لا أوافقك على ما تقول ولكنني سأناضل حتى الموت في سبيل حقك أن تقول ما تريد) هنا يقع التعدي على المجتمع وثقافته وحقوق الجماعة، الذي يشكل هذا الشخص المعبر بحرية مطلقة عن رأيه اللبنة الأساسية في هذا المجتمع الذي تعدى عليه وعلى قيمه وهنا يقع التناقض، لذلك لابد من أن تكون حرية التعبير مقيدة، بحيث لا تتجاوز حرية الآخرين والاصطدام بقيمهم وخاصةً الدينية منها، مع إيماننا كمسلمين بحرية الحوار والنقاش وحق التفكير حتى في وجود الله عزّ وجل، وبالعبادات وحتى إن لم تقتنع بها فأنت حر في ذلك (لكم دينكم ولي دين). ولكنك مقيد، ولا يحق لك أن تدعو الناس إلى ما توصلت إليه من تفكير واعتقاد يتعارض مع قيمهم خاصةً الدينية.
وأيضاً على الفرد أن يتجمل بآداب الحوار وخلقه وأن لا يكون أبداً شخصية عنيفة جافة وعرة، بل طيع، لين العريكة، وفي أن يكون مهذباً حتى لو كان يقتل كما في الحروب، هكذا كان رد تشرشل الشهير على وزراءه عندما اعترضوا على صيغة رسالته التي بعثها إلى الحكومة اليابانية معلناً عليها الحرب، لأنها كانت بلغة دبلوماسية رفيعة راقية، تتعارض وظروف الحرب من قتل وتدمير ودماء. وأيضاً على المرء أن لا يكن فظاً قاسياً فيسهل كسره ولا ليناً فيعصر، بل وسطياً معتدلاً، فطناً كيساً، فالقدرة على التكيف من المختلف هي معيار التقدم الإنساني واللباقة الدبلوماسية، فهي فن استيعاب الخصم، مع الحذر من لعبة الغموض الإيجابي على غرار قرار مجلس الأمن رقم 242, عام 1967، وبنفس الوقت لا يكن ذا نزعة مكارثية مجرماً معارضيه، وعليه فلا أجمل من الحلول التوافقية، بحيث نعطي كما نأخذ منتهجين مبدأ الشراكة البرجماتية، وليس الانتهازية السياسية مع الطرف المقابل، فلا نضيع الممكن بالإصرار على طلب المستحيل، حتى لا يصبح الممكن مستحيلاً بعد فوات الأوان، ورفض العرب قرار تقسيم فلسطين 1948 أوضح مثل على ذلك، ولا أجمل من أن نقف على مفصل القراءة الموضوعية للواقع واستحقاقاته، والمستقبل واحتياجاته، والتعامل معه بإيجابية عندما لا يكون هناك خيرات وهوامش مناورة، ولا بد من التعاطي بالمتاح أو الانتظار لحدوث تغيير، مع مراعاة أن من آداب الحور أو النقاش في أي قضية كانت، أن يترك كل طرف لمحاورة سبيلاً للتراجع بكرامة وكبرياء، سيما في القضايا المفصلية التي قد يترتب عليها تبعات خطيرة، ومن أشهر تلك القضايا أزمة الصورايخ الكوبية في الحقبة السوفياتية ستينات القرن
الماضي، حيث تراجع كلا الرئيسين كندي وخرتشوف في الساعات الأخيرة عن بعض مواقفها منقذين البشرية من فناء كامل، هذا يؤكد أنه لا حرج على المرء أي كان موقعه إن تراجع خطوتين للخلف احتراماً لقناعاته، ولن يتجلى هذا بأبهى صورة إلا بمنهج وسطية الفكر وموضوعية الطرح، مقرونة بالعفو والتسامح (وأعفوا عنهم وأصفح إن الله يحب المحسنين).
ولا أدل على ذلك في وقتنا الحاضر من الأيقونة الإفريقية الذي ملك مفاتيح الذكاء، وقوة الشخصية، وهيبة الحضور، نيلسون منديلا، أشهر سجين في العالم حيث عرف ذاته وتشكلت شخصية في سجنه، وانتهج سياسة أذهلت العالم بالتسامح والغفران لجلاديه ومستعبدي شعبه (الهايتبارت). ولكن دون نسيان تلك المعاناة وهذه صفة العقلاء كما قال توماس (هذا وأذكر هنا أن منديلا احتفل بعيد ميلاده التسعين بحضور شخص واحد فقط ألا وهو سجانه).
ولتسهيل كل ذلك على المواطن فلا بد من تطوير الوعي السياسي عنده، وتمكينه من القيام بدوره بالحفاظ على السلم الاجتماعي، وصون الوحدة الوطنية، والعمل على بناء الوعي العام، وتحصين المجتمع بكل الوسائل، من خلال تبني الحوار وسيلة للتفاهم وتأطيره مع جميع فئات المواطنين لتنشئة الفرد تنشئة قويمة، مع الإحساس بالانتماء وشعوراً بالمسؤولية، وذلك لنتمكن من بناء الشخصية المثالية التي تربط بين الانتماء العقيدي، والانتماء الوطني القومي ألا شوفاني، وترفض أي نوع من التناقض بين العروبة والإسلام.
إن العروبـة لفظ إن هتفتُ بـه فالشرق والضاد والإسلام معناه و حتى لا نصبح بين غربتين من أرواحنا وأمتنا، لأنهما ركنا الهوية (اللسان والدين).
ولن يتم ذلك إلا بالحوار الهادف والأسلوب العلمي العقلي، معززاً بالمعلومات الدقيقة المرتكزة إلى التحليل المنطقي للأمور، ممتطين صهوة الوسطية والاعتدال، واختتم كل ما سبق بمقولة يجب أن يعييها كل مواطن ويجب أن تلقن لأبنائنا وأطفالنا منذ الروضة ألا وهي (أن بلادي دائماً على حق لأنها بلادي)، هذا هو شعارنا الوحيد، فيما إذا ما أدلهمت الخطوب وتاهت البوصلة، وأصبح المواطن مجازاً رهين المحبسين، والوطن أمام لحظة تاريخية فارقة، عندها يتعطل كل شيء، السياسة بفنونها وناسها، والديمقراطية بأشكالها ورأي أبن خلدون فيها وتفضيله لعصبة القبيلة عليها، والاستبداد العادل ورجالاته، والدكتاتورية (أنا الدولة والدولة أنا لويس الرابع عشر)، إنها اللحظة الحاسمة التي يتعطل فيها
كل شيء إلا شيء واحد لا بد أن يبقى راسخاً في وجداننا ألا وهو (أنّ بلادي دائماً على حق لأنها بلادي).... وللحديث بقية
دكتوراة في طب الأطفال