البحث العلمي والإبداع في الأردن

مركز الرأي للدراسات

اعداد : د. فراس علعالي

30 آب 2014

بالعلم تنهض الأمم وترتقي، ولا مكان لأمة تصبو الازدهار والرخاء دون العلم. والبحث العلمي هو أداة العلم الأولى، وسبيل فهمه، والمساهمة في صنعه ونشره. أما الإبداع فهو ناموس العلم، ومقصود البحث العلمي، ونتاجه المنشود، وكنزه الوفير.

 

مازالت الدول العربية إجمالاً، غير مدركة لأهمية البحث العلمي، والدور الذي يلعبه في تطوير اقتصاد الدول، وتقدمها. يظهر هذا جلياً عند مقارنة معدل استثمار الدول العربية في البحث العلمي، والذي لا يتجاوز 0.2%. في حين تستثمر إسرائيل ما يقارب 8% من دخلها القومي في البحث العلمي، وهذا ما يجعلها من أقوى الدول، وأكثرها تطوراً ونمواً في منطقة

الشرق الأوسط.

 

مازالت مسيرة البحث والتطوير العلمي على الساحة الأردنية متعثرة وتائهة، دون منظومة أو إستراتيجية شاملة وواقعية، وتعاني الكثير من المشاكل التي تقف في طريقها وتعيق تقدمها. فهي تفتقر للإيمان الحكومي بجدوى البحث العلمي، وللمؤسسية، وللتخطيط السليم، والجدية، والاستثمار الحقيقي، والتوجيه البناء، لإيجاد حلول مجدية وخلاقة لأهم القضايا والمشاكل

المحلية، بما يعزز التقدم والتطور على كافة المستويات الاقتصادية والاجتماعية والتكنولوجية. كما أن الدعم الملموس والإنفاق المالي في الأردن على البحث العلمي منخفض جداً. فقد وصل، حسب الإحصائيات الأخيرة، إلى ما نسبته 0.45% من الناتج الإجمالي. كما أن المرتبة التي يحتلها الأردن، وفقا للمؤشرات التنافسية، من أصل 139 دولة في مجال إنفاق

منشآت الأعمال، تكشف عن واقع مرير، يجب الوقوف عليه ومعالجته. ففي مجال البحث والتطوير، يحتل الأردن المرتبة 116، وفي مجال نوعية البحث العلمي 98، وبراءة الاختراع لكل مليون 76، وحماية الملكية الفكرية 38، والاستثمار الأجنبي ونقل التكنولوجيا 36، وتوافر المهندسين والعلماء 26.

 

تنحصر جل البحوث العلمية في الأردن على الأساتذة في الجامعات، حيث يلعب أعضاء الهيئة التدريسية في الجامعات الأردنية الدور الرئيس في المسيرة البحثية. ولكن المعظم يهدف من أبحاثه إلى الحصول على الجوائز والحوافز والترقيات. وما أن يحصل الأستاذ الجامعي على درجة الأستاذية، حتى تضعف همته، وتتوقف مساعيه البحثية. ولهذا نرى الأستاذ

الجامعي، على وجه العموم، يهتم بكمية الأبحاث التي يقدمها، دون النظر إلى نوعيتها ومدى الفائدة التي تضفيها. فمعظم البحوث الأردنية عبارة عن بحوث نظرية، لا تتداخل مع مجالات حياتنا اليومية، ولم تصل لمرحلة التطبيق. كما وأنها بالمجمل دون جدوى اقتصادية، ولا تساهم بشكل جاد في خلق آفاق جديدة في العلوم، وتحقيق طفرات نوعية، هذا بالإضافة إلى

افتقارها للإبداع.

 

كما لوحظ مؤخراً انخفاض ملموس في نسبة إقبال الأساتذة الجامعيين على البحوث العلمية والنشر العلمي، وهذا يعني وجود نسبة كبيرة من أساتذة الجامعات ممن لا يساهمون في تحقيق رؤية الجامعة والوطن. وقد ساعد على ذلك شعور الأساتذة بالأمان الوظيفي، وعدم وجود تعليمات أو قوانين تلزمهم المشاركة في العملية البحثية. فمازالت الجامعات تفتقر لمبدأ

المساءلة، والتحقق، والمتابعة لما يجب أن ينجزه الأستاذ الجامعي سنوياً.

 

فعلى الرغم من وجود بعثات دراسية لغايات البحث العلمي مقدمة من صندوق دعم البحث العلمي، إلا أنه لم يتقدم لها في العام الماضي إلا ثلاثة باحثين، من أصل خمس منح. وتقدم في العام الحالي باحثان فقط!، من أصل عشرة مقاعد. كما واضطر مجلس إدارة الصندوق إلى حجب جائزة البحث المميز في مجال العلوم المالية والإدارية والاقتصادية والمصرفية،

وجائزة الباحث المتميز في قطاع الدراسات الإسلامية والقانونية، بسبب عدم تقدم أي باحث لها!، مما يشير إلى تقصير واضح من قبل الأساتذة الجامعين والباحثين في تطوير واستمرار المسيرة البحثية.

 

من ناحية أخرى، يعتبر الدعم المقدم للباحثين الأردنيين من قبل الجامعات والحكومة محدود ومشتت، مما يعيق تنفيذ العديد من الأبحاث الخلاقة والإبداعية. فبالرغم من الموازنات العالية للجامعات الرسمية والخاصة، إلا أن هناك نقص حاد في إنفاقها على البحث العلمي، فمتوسط ما تخصصه الجامعات الحكومية لأعضاء هيئة التدريس يصل إلى 1800 دينار سنوياً،

وفي الجامعات الخاصة إلى 1600 دينار سنوياً. وتحدد الجامعات الأردنية، سواء كانت حكومية أو خاصة، فقط ما نسبته 5% من ميزانياتها للبحث العلمي والايفاد، ولا يوجد إستراتيجية واضحة لاستثمار هذه الأموال بشكل فعال. كما أن الهدف من البحث العلمي في الجامعات الأردنية عموماً، تجميلي، والمغزى منه الحصول على ترتيب أفضل للجامعة، ضمن

التصنيفات العالمية، أو المحلية، وغير نابع عن إيمان حقيقي بدور البحث العلمي. فأصبح التركيز على الكم، بغض النظر عن النتائج والنوعية والجوهر. وتنظر إدارة الجامعات، عموماً، لمجال البحث العلمي على أنه مصدر لعبء مالي ومادي، هي مجبره عليه للحصول على مركز متقدم وسمعة مرموقة في الوسط العلمي. وفي حقيقة الأمر، تعد الأبحاث العلمية من

أفضل المشاريع الاستثمارية، التي يمكن أن تحقق عائداً مالياً كبيراً للجامعات والمراكز البحثية، وتمكنها من الحصول على مكانة جيدة ضمن التصنيفات العالمية، شريطة وجود إدارة حكيمة، تستطيع موازنة الأمور، وتضع الأولويات، وتوجه الأبحاث نحو المجالات التطبيقية، بما يتناسب مع احتياجات الدولة والمجتمع.

 

أما فيما يخص صندوق دعم البحث العلمي، التابع لوزارة التعليم العالي، والذي أنشئ عام 2005م، لدعم البحوث العلمية المقدمة من الباحثين الأردنيين، ولتشجيع المشاركة العلمية والبحثية في مؤسسات التعليم العالي. فإن غياب الرؤية الثاقبة، ووجود العديد من السياسات والشروط والإجراءات المطلوبة لمنح الدعم، يجعل عملية طلب الدعم البحثي، أشبه بعقد

مربوط بالنتائج. فالتعليمات تلزم الباحث على إعادة ما تم منحه، إذا لم يحقق البحث النتائج المطلوبة. مما يعيق خلق جو إبداعي، يؤصل للفكر الحر والإبداع، ويدفع الكثير من الباحثين إلى البعد وتجنب المخاطرة. كما أن الأصالة والإبداع في معظم الأبحاث التي يدعمها الصندوق معدومة، ولا تطرح قضايا تهم تنمية الوطن، ولا يوجد أولويات محددة ذات رؤية،

توضع بالشراكة مع مراكز البحث في الجامعات، والشركاء من القطاع الخاص، كما وتدخل فيها الواسطة والمحسوبية، دون وجود تقييم حقيقي للجدوى من الملايين التي تم انفاقها لتبرير إكمال المسير بنفس الاتجاه. من جهة أخرى، فإن قيمة الجوائز التي يقدمها الصندوق لتشجيع الباحثين لا ترتقي للمستوى المطلوب الذي من شأنه أن يدعم الباحث ويحفزه على

الإبداع والعطاء، حيث تبلغ قيمة جائزة البحث المميز 3 آلاف دينار، وجائزة الباحث المتميز 5 آلاف دينار فقط.

 

وفي شهر كانون الثاني لعام 2010م، خسر صندوق دعم البحث العلمي أحد مصادر دعمه المالي، بعد إقرار وقف دعم الصندوق باقتطاع 1% من أرباح الشركات لصالح الصندوق، والتي كان من شأنها أن تورد إليه ما لا يقل عن 4-5 ملايين دينار سنوياً. كما يواجه الصندوق مشاكل عديدة في تحصيل مستحقاته من فائض مخصصات البحث العلمي والتدريب

والنشر والإيفاد والابتعاث، التي لم تصرفها الجامعات الأردنية خلال آخر كل ثلاث سنوات، فإجمالي المبالغ المترتبة على الجامعات الرسمية للأعوام 2010 و2011م لصالح الصندوق من فوائض البحث العلمي والإيفاد تزيد عن (5.5) مليون دينار، بينما يترتب على الجامعات الخاصة لعام 2010م مبلغ (2.5) مليون دينار تقريباً. مما أثر بشكل سلبي على

مساهمة الصندوق في دعم المشاريع البحثية والبحوث العلمية الأردنية.

 

الإيمان الحقيقي من أعلى السلطات بالبحث العلمي كأداة للتقدم والازدهار، هو حجر الأساس لبناء إستراتيجية شاملة من خلال «مجلس أعلى للبحث العلمي»، مهمته الإشراف على البحث العلمي ومتطلبات تفعيله وإنجاحه ابتداءً من مراحل التعليم الأولى. بحيث ننمي مهارات التفكير الخلاق وحب العلم والشغف به عند أبنائنا منذ نعومة الأظفار، إلى المراحل

الجامعية، ليكون البحث والإبداع أسلوباً للتعليم وهدفاً له في آنِ واحد. الاستثمار في البحث العلمي هو استثمار مجدي ومثبت عالمياً، وهو الطريق الأمثل للنهوض، ومواكبة التطور، وتقليل الفارق العلمي والتكنولوجي، الذي يفصلنا عن العالم. ولكنه بحاجة لقيادة، تؤمن حق الإيمان، وتدعم حق الدعم، وتؤسس لمجتمع معرفي وتنمية مستدامة، باستغلال العقول

والمواهب. لذلك لابد من تكاتف الجهود، واستغلال الثروات الطبيعية، والقدرات البشرية، والعمل على ترسيخ ونشر ثقافة البحث العلمي في المجتمع، وتطوير المناهج والمقررات العلمية بما يضمن انطلاق جيل من المفكرين والمبدعين، وتوفير ما يلزم من إمكانيات مادية وتسهيلات، لتحفيز الباحثين على التطوير والاكتشاف. كل ذلك يجب أن يتم تحت إدارة موحدة،

ذات رؤية وسياسة واضحة، وأهداف محددة، تعمل بشفافية وموضوعية، وتشرف على إنشاء مراكز أبحاث متخصصة، يفرغ لها أكفأ الباحثين من الأردن والخارج، وبالتعاون مع كافة الجامعات والمؤسسات البحثية.

 

السبت 2014-08-30