قراءة سوسيولوجية في سيرة الأستاذ الدكتور كامل أبو جابر

مركز الرأي للدراسات

د. صبري ربيحات

تشرين أول 2014

ليس من السهل عليّ أو على أحد منّا أن يجري قراءة في سيرة شخصية مثل الدكتور أبوجابر، فهو مثل كل الكواكب التي وجدت منذ بدء التكوين وتأثرت بشعاع النجوم وندبات العواصف والزلازل والبراكين لكنها بقيت حاضرة نلمحها ونتلمّس معالمها، فكامل أبو جابر ظاهرة أردنية مثل الكواكب في مجراتها.

كامل ابو جابر.. في الاردن البدو هم البدو لكنهم يأتون على لونين أسود مثل الليل وأبيض مثل النهار وهكذا يكتمل الزمان. من بين كل أفراد جيله من العمّانيين في الثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضي ينفرد ابو جابر بعمق تجربة البداوة والإحساس بها وملكيتة الفريدة للشخصية والوجدان البدوي وشغفه بقصص وحكايات البدو.. وكأنه شاعر جاهلي..أو أمير غساني.

عند ملاقاتك له يحييك بدفء غامر وبكرم عزَّ نظيره هذه الأيام ويشعرك بأنه قريب لك أو من بقايا أهلك فقد جُبل كامل من طين جيئ به من كل زوايا وأعماق وألوان البلاد الأردنية.. يعرف الطفيلة وعائلاتها وتاريخها ورجالاتها وقصصهم كما يعرف الخليل والرملة وبيسان ومأدبا والسلط كما يتحدث عن الغساسنة والأنباط والأدوميين وأبطال الفتوحات الاسلامية

حديث العارف الذي استخلص العبر من سيرهم أو كأحد عاش معهم.

في داخله شيخ من شيوخ الصحراء وحرّاسها، فهو يعرف كل المعاني التي يحرص الشيوخ على تمريرها للأبناء، ويطفو على صوته ونظراته شذرات من عبقرية تسكن تحت أسماله، فيبدو لك وكأنه أحد شيوخ قبائل البادية الأردنية الذين أحبو قومهم واحترفوا حل مشكلاتها وبث روح التفاؤل والإقدام بين أبنائها.

منذ ولادته في مطلع الثلاثينيات على ربوة اليادودة المطلة على السهول الخصبة التي يقوم على فلاحتها ورعايتها أكثر من مائة من عمال الإقطاع (المرابعية) يحرثون ويعشبون ويحصدون ويدرسون تحت إشراف جدّه ووالده وأعمامه الذين سكنوا السرايا التي يحيط بها الخان..قبل أن يتحول الى مَعلم سياحي تحت مسمى «كان زمان» وهو يعمل كباحث

انثربولوجي يحاول أن يجري حفرياته المعرفية في عقول وقلوب وضمائر الناس.. مما جعله عارفا بالشخصية الأردنية وخباياها وتطلعاتها وهمومها.. فقد ساسها قبل ان يدخل عالم السياسة.

وساعده على ذلك الوفرة النسبية التي لوّنت تاريخ عائلته وإنفتاحها على محيطها ومكانتها الأخلاقية بن البدو والحضر والفلاحين وحتى السلطات التي حكمت البلاد في العهدين العثماني والإنجليزي حالها مثل حال كل العائلات التي تملك القدرة والإستعداد لإستضافة الخُطّار والرحّالة وممثلي السلطات الحاكمة من الجباة والفرسان.

فالخان في تاريخ المشرق وعالم ما قبل الصناعة يشبه المطار أو محطات النقل المركزية حيث أن ملكية الخان تعني القدرة والنفوذ وتعني أن صاحبه لديه من الفائض والوفرة الإقتصادية والمكانة الإجتماعية والسياسية ما يُمَكّنه من إستضافة الضيوف والخُطّار( والنْزاله والحْوالة) من خارج حدود المكان حيث أن الخان مثل المطار يوفر الوقود والراحة والعناية

للرواحل والحفاظ على أمتعة أصحابها.. في شرق الأردن وعلى طول الطريق السلطاني كان هناك أعداد من الخانات التي تُشكّل محطات ومراكز للراحة وبيوت للكرم.. الشريّدة. والتلول.. والعزام.. والكايد.. والداود.. وأبو جابر.. والبشارات.. وغيرهم وغيرهم.

لا أظن أن من بيننا من هو مِثل البدوي الأبيض «كامل أبو جابر».. ما أن تبدأ الحديث معة حتى تُطِلّ بداوته من كل النوافذ..وتشعر بأن الرجل لم يغادر اليادودة ولا سهولها التي فاضت على البلاد قمحاً وخبزاً وحباً وكرماً.. عشرات القصص عن الضيوف الذين حلوا على قلعة أبو جابر وروايات تطال عمته فَضيه ووالدته وتجار الجديان القادمين من حائل

وتبوك تشعر أنك مع يعقوب العودات أو عودة القسوس أو ركس بن زائد العزيزي وهم يُعَبّرون بصيغ مختلفة عن علاقتهم الأزلية مع المكان.. فهم أساتذة في التعبير عن كيف تفاعل الإنسان مع المكان وتأثر كل منهما بالآخر.

مع احتدام الحرب العالمية الثانية انتقلت أسرته الى عمان ليلتحق بمدارس المطران ويبقى حتى 1954 .. مع كل ما حمله أبو جابر من وعي حسِّي بالمكان ومفرداته وتعلق بتفاصيله.

يشكل إنتقاله الى البلدة التي كانت لا تزال بِكرا كما يقول الشاعر علي عبيد الساعي حيث كانت مدينة النهر والتوت والأسماك.. وعائلات تسكن اطراف النهر وبعض سفوح الجبال التي لا تبتعد كثيراً عن مركزها الذي تقيم فيه الدولة بكل مكوناتها ونخبها واسرها الشبعانة كما كان يقال.

جلوب باشا الذي جاور آل أبو جابر وتبادلت أسرته الزيارات معه وتَشبّعه بالبداوة وإعجابه بالبدو والدفاع عنهم ربما أثّر في رؤية الدكتور أبو جابر وحتى خياراته التعليمية والمهنية.

في عام 1942 شهدت عمان تحولاً إستثنائيا أسهم في نهضة الأردن الإقتصادية تمثّل في قرارين الاول بإتخاذ الإنجليز قراراً بأن يُموِّنوا جيوشهم في المنطقة وخلال الحرب التي كانت على أشدّها من إنتاج المنطقة.. والثاني البدء بمنح كوتات للتجار للإستيراد مما دفع بالزراعة لتنشط بعد أن إرتفع سعر صاع القمح الى سبعين قرشاً من سبعة قروش وأخذ التجّار

العَمّانيون يستوردون كميات أكبر مما سمح لبعضهم أن يصبحوا وكلاء إستيراد على نطاق أوسع في الإقليم والمنطقة.

الدكتور أبو جابر كان واعياً لكل هذه التغيّرات وأكثر وعياً من أقرانه الذين جاءوا من خلفيات غير تلك التي جاء منها. واكسبته معرفة عميقة بتاريخ المنطقة واحداثها وشخوصها ومقاصد الافعال فيها.الامر الذي عمق حسّه التاريخي وتطلعاته الى آفاق المستقبل..

لذا جاءت دراسته لتشكل فصلا جديدا في بناء شخصيته السياسية النقدية العابرة للمراحل والعصور فاجتمعت فيه البداوة مع الفلاحة والتمدن ليصقل التجربة بإطّلاعه على عالم آخر من خلال دراسته في جامعة ساركيوز الامريكية وعمله في مهن كثيرة ليموّل تعليمه.

في الستينيات عاد ابو جابر الى الاردن ليستانف رحلة البحث والعطاء وليتولى عمادة كلية الإقتصاد والتجارة في جامعتنا الوطنية الاولى بعد اعوام وفي مطلع السبعينيات دخلنا الجامعة الاردنية ماخوذين بسحرها وكبر الاحلام التي تولدت في صدورنا.

يومها كنا نتفحص وجوه أساتذتنا نحن الذين تفحمت وجوهنا تحت لهيب شمس الجنوب.. وقد لفت نظري وزملائي الشعاع الذي كان ينبعث من جباه بعض الأساتذة مثل الدكتور أبو جابر والدكتور زكي غوشه والمرحوم عبد الكريم الغرايبة.. وكنا يومها نظن أن تلك الصورة هي الاقرب الى الصورة التي ترسمها ابيات جبران في قصيدة أعطني الناي وغني

خصوصاً المقطع الذي يقول( وتحممت بعطر وتنشفت بنور ) التي كانت تغنيها فيروز وتعلّق عليها وعلى غيرها من روائع الأعمال المذيعة الرائعه سلوى حداد التي كانت تقدم بعد الثانية عشرة برنامجها همس الليل.

وفي ثرثرة غير سياسية قيل لنا يومها أن العميد أبو جابر كان وزيراً للإقتصاد لكنه آثر التعليم على الإستمرار في العمل الوزاري.. لقد زاد وجود أبو جابر الحرم الجامعي مهابة ورزانة افتقَدَتها العديد من مؤسساتنا هذه الأيام

وفي عام 1992 وبعد استقالة وزير الخارجية الأردني آنذاك الذي لم يُردْ أن يتأثر تاريخه النضالي بالمفاوضات كنت أجلس مع أحد الأصدقاء نعايش طقوس التحليل والتخمين حيث كنا نتابع التغيّرات في بلادنا كهواية وليس كواجب.

يومها سألني الصديق مصطفى الحمارنة آنذاك ماذا تعتقد أن يحصل بعد الإستقالة التي قدمها وزير الخارجية؟ فكانت اجابتي ربما أن ذلك سيعطي فرصة لأن يقود دبلوماسيتنا شخصية من طراز مختلف.. قال مثل من؟ قلت له يومها كامل ابو جابر.. فقال مستغربا كامل! ولماذا؟ فأجبت بعفوية ودون عناء من في الأردن أنسب لدخول المرحلة من أستاذ علوم سياسية

دَمِث ويتكلم الإنجليزية بطلاقة ورئيس جمعية شؤون دولية ومتزوج من أمريكية وديانته الرسمية المسيحية

وما هي إلاّ أيام حتى جاء كامل وزيراً للخارجية ورئيساً للوفد الأردني الفلسطيني.. وأضفى على الوفد والمفاوضات أجواءً فيها من خفة الظل والمرونة ما بعث على تفاؤل المراقبين بنجاحها.

كان أداء وزير خارجيتنا ورئيس وفدنا المفاوض مغايراً لتوقعات ثقافة التجهم الأردني المصطنع السائدة فقد ظلت الصحافة العالمية تستذكر بطرافة إجابته على السؤال الذي وجِّه له حول عدم مصافحة وتقبيل رئيس الوزراء الإسرائيلي شامير كعادة العرب عندما يتلاقون.. يومها قال بفصاحة الشيوخ وحضور ذهن وعفوية البدو لو كانت أمامي فتاة إسبانية جميلة

لقبّلتها لكن من يقبّل شامير.

في السنوات العشر الأخيرة إلتقيت الدكتور أبوجابر كثيراً فقد فاض عليّ وعلى العديد من الأصدقاء بكرمه الدائم فكنا ضيوفا مكرّمين على مائدته التي يحرص على أن يخدمها بنفسه.. لكن الأهم أن هذا الرجل المشاكس المحب كان يعلمنا دروساً في الخلق والحب والكرامة والجرأة ومشروعية السؤال.

في كل مرة تلتقي الدكتور أبو جابر تتعلم كيف تتمازج البداوة مع الحداثة في شخصية تجعلها لا أغنى ولا أعذب.. الدكتور أبو جابر.. نبيل وودود لكنه صلب وعنيد.. له رأي في كل ما حوله قلق على أمّته ومصيرها.. وهومسلم في ثوب نصراني، تحادثت معه قبل أيّام فقال لي شو بدكو تسووا فينا احنا الاقليات ؟فاجبته من كان هرقل جده ليس أقلية.