في الحوار الوطني الفاعل

مركز الرأي للدراسات

ياسين الجيلاني

آذار 2015

 

الحوار الوطني منهج حياة لكل أفراد المجتمع، وطريقة علمية في إستقراء وإستدلال المتغيرات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وفقاً لمتطلبات الحياة وصورها المتلاحقة، فهو يأتي من باب الضرورة الوطنية، وليس فقط نتيجة الظروف الصعبة التي سرعان ما تزول بزوال الأسباب والموجبات.

 

يعتبر الحوار من أقوى مكونات الشخصية الناضجة، يحقق لصاحبه التعقل والإتزان فالإنسان حين يسخر عقله دون عاطفته هو الموجود المفكر الذي لا يقنع إلاَّ أن يأتي فكره مدموغاً بطابع العصر الذي يعيش فيه، لهذا نراه محاوراً باحثاً وليس حائراً متقلباً أو عابثاً متمرداً، فالمواطن حين يلمس طريق الصواب وحين يجعل من نفسه جزءاً من الحوار الوطني، فهو يؤكد الحقيقة الصلبة في الحوار وهي وجود المتحاورين وجوداً تنعدم فيه المسافات الفاصلة بين مصالح الدولة وأهدافها من جهة، ومصالحه وأهدافه الخاصة من جهة أخرى.

 

فالحوار الوطني هو إرادة قائد الوطن، القائم على المؤسسية، الخالي من أي تعصب، لأسباب عنصرية أو دينية أو حزبية أو حتى عقائدية، وفي كل الأحوال ينبغي أن يمتاز بالديمومة والصيرورة، لأنه منهاج ديمقراطي دائم، مع ضمان إستمرارية النقد البناء، حتى لا يضار به مواطن، لأي سبب مع الأطراف المعارضة سياسياً أو فكرياً أو دينياً.

في الحوار الوطني الفاعل ينبغي أن يندمج المواطن بصميم الواقع -في أحداثه وتفصيله وقضاياه، فإذا كانت الدولة هي إنعكاس لواقع المجتمع، فإن الحوار الوطني انعكاس لسياسة الدولة الديمقراطية، بمعنى أننا لا يمكن أن نتصور حواراً وطنياً شاملاً، منفصلاً عن ظروف المجتمع أو الصفات الفكرية السائدة فيه.

 

هذا الحوار الشامل، لا يتحقق إلا بالإنتماء الصادق للوطن، والذي نعاني قضاياه وهمومه في الوقت نفسه، أما الحوار غير الفاعل فهو عنوانٍ للبلادة الفكرية، التي يسير بها بعضنا حول قضايا الوطن الساخنة، وفقاً للمصالح الشخصية أو الجهوية أو الفئوية، فليس من شك، في أن هذه البلادة قائمة بين بعض أفراد الأحزاب في مجتمعنا، فمنهم من لا يفعلشيئاً قط، أو قل أنه يفعل قليلاً، لكنه يخلع على نفسه وقاراً، يوهم بأنه ذو حكمة وقدرة على إدراك بواطن الأمور، لكن حساسية الموقف تفرض عليه أسلوب التلميحات أو الغموض في التعبير وإبداء الرأي. فينخدع الناس به، وكثيراً ما ينساقون خلفه مهللين ومكبرين!؟

 

والأسوأ من هؤلاء... من يسخرون من إنجازات الوطن في أي مجال، فنراهم يسخطون حين يرضى الكل ويوافقون... حياتهم كلها مقاومة وصدٌّ ورفض، لا بل يجعلون من أنفسهم حكماء بالمواعظ والخطب الرنانة، لا يسهمون عملياً في حل أو مساندة القضايا الأساسية التي يعاني منها المواطن كالفقر والبطالة، هؤلاء غالباً ما يعالجون الأمور بألفاظ منمقة وعبارات فضفاضة، لا فائدة منها ولا طائل تحتها.

 

فالأصل في الحوار - سواء أكان سياسياً أم اقتصادياً أم اجتماعياً، أن يتميز بالصدق والموضوعية، وأن يولد في المجتمع لغة جديدة، تقول دائماً: «أنت ولست أنا» و«نحن ولست أنت» لغة ليس فيها توكيدات ذاتية، فكل ما فيها يقدم «الأنت على الأنا» ويقدم الـ «نحن» على هذا وذاك... حوار يأتي عن ترحيب واقتناع، دون مواربة أو مزايدة أو خداع أو تطاول على الوطن، حتى نتوصل إلى إدراك ما بين القضايا المطروحة من «علاقات موضوعية» لا تكون مجرد تجسيداً للأهواء أو الميول النفعية.

 

فنحن اليوم، إذا دققنا النظر في الحوار القائم حول قضايا الوطن، وما يتعرض له من الفواجع والأحداث المؤلمة، وما يحيط به من الإرهاب والتطرف، يتبين لنا: أن وحدة التفكير الوطني في الحوار، لا تتحقق إلا بوحدة الهدف، وبه تتكامل شخصياتنا الفريدة، التي تميزنا عن سائر الأفراد، وتتكامل للأمة خصائصها، التي تفردها بين سائر الأمم - وبوحدة التفكير هذه- يصبح الكل في الواحد، والواحد في الكل.

 

لكن العجيب في الحوار الجاري، أن بعض الأفراد لا يأخذون فكراً، ولا يعطون فكراً، بعضهم لا يتصف بصفة الهدوء العقلي، التي تتيح لصاحبها النظر إلى الأمور نظرة المنطق الصارم، وبعضهم من تلفحه نيران الإنفعال والتعصب والجحود، فتسوقه هنا وهناك، دون أن يدري إلى أي خاتمة يرمي، في مثل هذا الحوار العقيم، لا نجد فيه نقطة إلتقاء لخطوط فكرية إيجابية.

 

وأخلص من هذا كله بنتيجة مفادها: « أننا بحاجة شديدة إلى احتكاك الآراء العملية، في قضايا الوطن وتحدياته، لكي تتبلور في أذهاننا صورة متجانسة عن تلك القضايا، وما ينبغي أن تكون عليه قيمنا الجديدة، في الحوار بالمرحلة الراهنة والمستقبلية.

 

لا شك؛ أن الحلقة المهمة في نجاح الحوار الوطني، هي وسائل الإعلام المسموعة والمقروءة والمرئية، إذ تعتبر من مقوماته الأساسية، فهي تحقق إتصالاً جماهيرياً كبيراً، يجعل من قضايا الحوار، محور إهتمام على مستوى الغالبية العظمى من الجماهير، تعمق فهمهم بشكل أفضل لمشكلات الوطن، التي أصبحت أوسع من كونها مشكلات أفراد أو هيئات أو مؤسسات، بل تشمل المجتمع كله. هذه المشكلات اتسعت لتضم مشكلات معقدة لا نعلم منها إلاَّ قلة.

 

وهذه المشكلات المعقدة جداً، التي تتجاوز الحدود الفردية أو الجماعية، ينبغي أن تتناولها الأجهزة الإعلامية، بوعي واضح ومحدد لمفاهيم الحوار الأساسية، حتى تكون الرسالة الإعلامية ذات صدق علمي، مع الأخذ في الاعتبار مدى التأثير النفسي لها، حتى تضمن الاستجابة المرجوة عن قناعة وإيمان.

 

فالأجهزة الإعلامية، ينبغي أن تستمر في التصدي لكل قضايا الوطن بحزم وفاعلية، لا أن تحصر جهودها فقط في محاربة الارهاب والشر، فهناك مشكلات مستعصية كالفقر والبطالة والفساد، والتي لا تقل أهميتها عن مواجهة الإرهاب وشرورة، وأن ينظر الإعلام إلى نفسه باعتباره خلية فاعلة في الجسم الوطني، لأنه جزء من كل، والكل لا يتجزأ، حتى يبلغ درجة كبيرة من الحكمة والتعقل في معالجة القضايا كافة، وفي ضوء الواقع والإمكانات المتوافرة، بعيداً عن الأماني غير القابلة للممكن والتنفيذ.

 

في الجملة إن الحوار الوطني القائم على المؤسسية، هو الحوار النزيه البناء، والمنطق السديد الذي يبرأ من هوج الانفعال، ولا يبتغي سوى الحق. أما الحوار الذي يخرج عن الإطار القومي، خاصة حين يكون للدولة أعداء، يتربصون بها في الداخل والخارج، ينشرون الإشاعات والأكاذيب المضللة حولها وحول الوطن، فهذا حوار لا يتناسب مع مشكلاتنا الخاصة وتحدياتنا العامة.

 

وفي الحوار الوطني الفاعل ينبغي أن نرفض التفكير بعقول غيرنا، سواء أكانت هي عقول الغربيين، أم كانت عقول المتربصين الأعداء، ففي كلتا الحالتين نكون أبواقاً لا تنبض بالحياة... فثمة عروة وثقى في الحوار بين حب الذات وحب الوطن، لأنه الحب الأغلى على أنفسنا، وبه ننهض بالتزاماتنا الوطنية، ليست خشية من عقاب، بل احتراماً لسلطة الدولة، وتطبيقاً لقانونها العام.