أزمة الدولة العربية

مركز الرأي للدراسات

مازن الساكت

آذار 2015

 

كان نشوء الدولة العربية الوطنية الحديثة ثمرة حركة النهضة العربية في بداية القرن العشرين من اجل الاستقلال عن الدولة العثمانية التي استمرت بحكم المنطقة لأربعمائة عام.

وساهمت سياسة التتريك التي انتهجتها في اواخر عهدها والاطماع الاوروبية الاستعمارية والحرب العالمية الاولى ونتائجها ونشوء حركات الاستقلال العربي وقيام الثورة العربية الكبرى، والفكر التنويري الاصلاحي الاسلامي والقومي العربي في تحقيق هزيمة الدولة العثمانية الضعيفة وتحقيق المرحلة الاولى من الاستقلال.

غير ان هذه المرحلة تبعها اشكال جديدة من الاستعمار الاوروبي وتم تقاسم الوطن العربي وفق ما عُرف باتفاقية سايكس بيكو التي شكلت فيما بعد الحدود السياسية للدولة العربية الوطنية الحديثة.

واستمرت حركات الاستقلال العربي بأشكالها المتعددة والمختلفة منذ ذلك الحين وتحقيق الاستقلال بشكل متتابع مروراً بالحرب العالمية الثانية ونتائجها وانتشار الفكر الثوري والصراع بين معسكر التحرر والمعسكر الغربي الاستعماري.

هذا السباق التاريخي لنشوء الدولة العربية الوطنية الحديثة اسس في عديد ظروفه ونتائجه اهم حقائق فهم ازمة الدولة العربية الحديثة.

1- لقد ادت الاحداث التاريخية المتمثلة في الاطماع الاستعمارية الغربية واتفاقية سايكس بيكو من جهة وقيام الثورة البلشفية والاتحاد السوفيتي من جهة اخرى الى ضعف وتوقف تتطور حركة الاصلاح الديني التنويرية في الوطن العربي والتي نشهد نتائج تلك الحقيقة اليوم في الاصولية والتطرف كما اسهمت في انحسار وانتهاء دور الاحزاب الوطنية الليبرالية والديمقراطية وتوقف تطور التجربة البرلمانية وقيام الانظمة السياسية الشمولية التي تستند الى حكم الحزب الواحد وانواع الملكية الجمهورية مقابل انظمة الاحكام العرفية في دول الاخرى.

2- خضعت عملية تشكيل الدولة العربية الحديثة لمعادلات قوى الاستعمار الجديد ولاحقاً لتطور اتجاهات المجتمعات السياسية والطبقية وقواها وثوراتها وانقلاباتها كل ذلك شكل حدود الدولة العربية الوطنية وطبيعة انظمتها السياسية والفئات المالكة فيها ونهجها السياسي والاقتصادي وتحالفاتها الدولية.

3- ان انتماء شعوب المنطقة الى مرجعية قومية واحدة هي القومية العربية ووحدة الطموحات والاهداف في مراحل الاستقلال ادى الى تداخل المواقف والخلافات وامتداد التنظيمات الحزبية الواحدة داخل اكثر من قطر عربي وهو احد عوامل المخاوف الامنية في العلاقات العربية البينية وأحد أسباب ضعف وتعطيل العمل العربي المشترك. بل ان تلك الحقيقة ادت الى ضعف استقرار المعادلة بين الشخصية الوطنية والانتماء العربي، وبدل ان تكون هذه العلاقة نقطة قوة تحولت الى نقطة ضعف.

4- طبيعة التطور التاريخي للواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي في المجتمعات العربية والذي بقيت فيه مؤسسات العشائرية والجهوية والطائفية والعرقية، مؤسسات قوية ورئيسية كانت تبرز في العديد من المنعطفات كما شهدنا في طبيعة انظمة الحكم وهيمنة فئات محدودة عليها، وبروز تلك الحقيقة اثر انتفاضات الربيع العربي الشعبية والتي اظهرت ضعف القانون والمؤسسات في معظم الدول العربية، بل لعل تلك المؤسسات شكلت الادوات الرئيسية التي هدمت الدولة وفتتت المجتمعات في عدد منها.

ان استيعاب هذه الحقائق والعوامل في عملية نشوء الدولة العربية وتطورها هو ما يمكن من فهم واقع أزمة الدولة العربية المعاصرة، بل هو ضرورة لوضع الحلول والمعالجات مع اهمية التأكيد هنا على وجود تباينات عددية في دور تلك العوامل وتأثيرها من بلد الى آخر، ومن نظام سياسي الى آخر ومن تشكيل لواقع الشخصية الوطنية من قطر عربي الى آخر.

ولعل من ابرز تلك الفروقات ان هناك دولاً عربية يمتد تشكيل الدولة فيها الى مئات السنين ودول اخرى حديثة التكوين.

عن اي ازمة نتحدث اليوم...

بداية قد نختلف على تعريف الازمة عندما ترتبط بالدولة، فهناك العديد من التحديات التي يطلق عليها تعبير الازمة.

فهناك ازمة المياه وازمة الطاقة وازمة اسعار النفط وازمة التنمية الاقتصادية وازمة المديونية وازمة العلاقات بدولة ما.. الخ.

واعتقد اننا اليوم وفي هذه الندوة وفي ظل هذه المرحلة وتحدياتها ومخاطرها نتحدث عن ازمة الدولة العربية بمفهومها الشامل والعميق، ازمة نشأتها وكيانها وشخصيتها الوطنية وانتمائها ونظامها السياسي ومؤسساتها وواقعها وتطور مجتمعاتها، اي انها أزمة تتعلق بوجودها، وبما يحدث من هدم للدولة ومنجزاتها، وتفتيت مجتمعاتها، ومخاطر التقسيم لمكوناتها السكانية والجغرافية، ولا نبالغ اذا قلنا انها ازمة اعادتنا الى مجتمعات ما قبل الدولة.

تلك هي الازمة الرئيسية والعميقة في الدولة العربية، التي اظهرت احداث الربيع العربي في السنوات الاخيرة هشاشتها وتخلف واقعها الاجتماعي وضعف مؤسساتها ومدى الاختراقات في امنها الوطني والقومي.

التفرد بالسلطة وضعف وغياب المشاركة

في اغلب الدول العربية وفي معظم المراحل السابقة ساد نموذج التفرد بالسلطة في الانظمة السياسية على اختلافها، وحتى مع تبني نهج الانفتاح السياسي والديمقراطية وتجاربها اثر ازمة النظام الشمولي والحزب الواحد والقائد وسقوط تجاربه وانظمته، فقد بقي هذا الخيار محدوداً وشكليا، في معظم التجارب واظهر حقيقة ان الديمقراطية هي نتاج تطور سياسي اقتصادي اجتماعي يحتاج الى ادوات سياسية ونضال سلمي وعملية بناء تراكمي مستندة الى ايمان عميق وثابت بالخيار الديمقراطي.

ازمة مؤسسات المجتمع المدني والشخصية الوطنية الموحدة

أدت مرحلة الاستقلال وتقسيمات سايكس بيكو الى نشوء الدولة العربية الحديثة والى تشكل الشخصيات الوطنية في مجتمعاتها مع بقاء حقيقة الانتماء للهوية العربية، والتي هوجمت وضعفت واخفقت تجاربها الوحدوية، كما تبنت قواها النهج الشمولي الذي كشفت نتائج تجاربه وفشلها اشكالياته ومأزقه التاريخي واسهم ذلك في نجاح مخططات اضعاف الروابط العربية الجامعة وبروز الانتماءات الفرعية في المجتمعات، والتي اظهرت التطورات والاحداث الاخيرة مدى تراجع وضعف مؤسسات المجتمع المدني والقوى والاتجاهات السياسية وتنظيماتها فيها خاصة بعد سقوط منظومة الفكر التحرري والمعسكر الاشتراكي وتجاربه، والفراغ الذي عادت لتملأه المؤسسات التقليدية العشائرية والجهوية والطائفية والاقليمية والعرقية، وتحولها من مؤسسات اجتماعية الى مؤسسات سياسية شكلت حاضنات التمرد على الدولة والقانون واستخدام العنف الى جانب معظم قوى الاسلام السياسي والقوى الدينية المذهبية التي بما تمثله من تمثيل يجزئ المجتمعات، وشكلت بفكرها الشمولي والتكفيري والظلامي احد العوامل الرئيسية في تفتيت المجتمعات وممارسة العنف والحروب الاهلية.

السياسات الاقتصادية وازمات التنمية والتطور غير المتجانس للمجتمعات

اعتقد ان معظم الدول العربية الوطنية المعاصرة قد حققت في عملية بناء دولها الحديثة نمواً وحققت انجازات اوجدت تطوراً مهما في البنى التحتية والقطاعات الاقتصادية المختلفة، تغيراً ملحوظاً في واقع المجتمعات وفي ثقافة وانماط وسلوك الحياة المعاصرة، ولكن تلك السياسات والبرامج والجهود بقيت في معظمها حالة نمو، ولم تتمكن من ان تكون تنمية شاملة وعميقة، الامر الذي ادى الى ضعف نتائج التنمية الاقتصادية والاجتماعية وبروز ظاهرة التطور غير المتجانس في المجتمعات (من المجتمع البدوي وثقافته الى المجتمع الغربي وثقافته وما بينهما).

كما ادت الى التباينات الحادة بين المركز والاطراف.

ولا بد هنا من ابراز دور العولمة وتأثيرها بسياستها وقوانينها وبرامجها الذي فرضه النظام العالمي الحديد وغياب موازين القوى في العلاقات الدولية، وبأشكال متفاوتة على معظم الدول العربية تلك السياسات وان كانت تهدف في عدد من برامجه الى اعادة تأهيل وتحديث الدولة واعادة النظر في ادوارها، واعادة هيكلة اقتصادها، فان التطبيقات الالزامية وعدم مراعاة الظروف الموضوعية والواقعية، والاهم قيادة فئات جديدة لهذا النهج، واضعاف دور الطبقة الوسطى التي قادت وبنت الدولة الحديثة ادى الى تواضع نتائج التنمية الاقتصادية، والى اضعاف دور الدولة ومؤسساتها والى تزايد المديونيات والعجوزات في الموازنات العامة، وتقلص فرص العمل، وارتفاع مستويات المعيشة وتركيز الثروة في ايدي فئات محددة تزايدت معها الفروقات الطبقية والشعور بالتهميش.

الادارة العامة ومؤسساتها وادوارها واشكالية التطوير

بنيت معظم مؤسسات الدولة واداراتها وتطورت في الدول العربية بعد الاستقلال باستناد الى موروث الدول المستعمرة وسلطات الانتداب البريطانية والفرنسية، واسهم ذلك في انشاء ادارات منظمة وحديثة وبنسب متفاوتة بين دولة واخرى، ومع تطور وتوسع الانشطة الاقتصادية والخدمات العامة في الدولة توسعت تلك المؤسسات وتنوعت وتزايدت مهامها ولكن خلال هذا التطور عانت من مشكلتين اساسيتين:

الاولى/ تزايد دور الدولة ومؤسساتها الاقتصادية والاجتماعية بحيث باتت الموظف الاكبر للأيدي العاملة وما نتج عن ذلك من ترهل اداري واعباء على الموازنات العامة.

والثانية/ قصور التشريعات والتحديث في اجراءات وانظمة العمل التي لم تتمكن من مجاراة سرعة التطور والتوسع في الانشطة ومؤسساتها.

وكغيرها من المجالات فقد اخضعت الادارة العامة لسياسات وبرامج التطوير التي طرحتها العولمة وقواها، وشهدنا تطبيقات مشوهة وبعيدة عن الواقعية والتدرج والملائمة لسياق تطور الادارات العربية باسم اعادة الهيكلة واعادة تنظيم مؤسسات الدولة وادوارها في المجتمع.

وفقدت الدولة في الكثير من الاحيان دورها في التخطيط والتوجيه والرقابة، وسادت حالة من تنازع الصلاحيات غير المنظم ومن غياب العدالة في التعيين والرواتب والامتيازات، وشهدنا نتائج عكسية للأهداف التي رفعها برنامج التطوير والاصلاح.

تلك في اعتقادنا اهم مظاهر ازمة الدولة العربية العامة والتي رافقها تحدي الصراع العربي الاسرائيلي وتأثيراته والالتزامات القومية على الدولة العربية ومخططات حرمان المنطقة من مصادر المياه، والعودة الى قبول القواعد العسكرية الاجنبية، واضعاف الجامعة العربية وطرح المشاريع الاقليمية مثل الشرق اوسطية.

ان مواجهة ازمة الدولة العربية تنطلق بالتأكيد من التعامل مع مظاهرها وتحدياتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والادارية ولعل المرحلة تفرض على الجميع اعادة بناء المنظومة العربية القومية كأداة اقليمية للتعامل مع التحديات وحل مشكلات الصراعات والحروب الاهلية كما ان التمسك بالخيار الديمقراطي وتطوير النظام البرلماني والمشاركة الشعبية وانهاء حالة التفرد والتشويه التي مورست باسم الديمقراطية، والانتخابات البرلمانية، والتمسك بتعزيز الاستقلال الوطني في مواجهة مظاهر التبعية والهيمنة، واعادة بناء النسيج الوطني في الدولة العربية وتعزيز ثقافة المواطنة والجامع الوطني والقومي في مواجهة الانتماءات العصبوية ومحاربة التطرف والفكر التكفيري وممارسة العنف، واعادة احترام القانون والمؤسسات هي مهمات اساسية في مواجهة ازمة الدولة العربية وضرورة لنجاح برنامج التحديث والتطوير لبناء الدولة العصرية.