في الكرامة البشرية.. ومصير الإنسان

مركز الرأي للدراسات

ياسين الجيلاني

نيسان 2015

 

في كل عصر-تكلف بعض النفوس المطبوعة على حب التأمل، بالتفكير في مصير الإنسان وكرامته البشرية ومآلها، وفي مراقبة تطورات المجتمع ودراسة أحواله، ولكن؛ في أوقات الأزمات الإنسانية المستعصية، يتسع نطاق هذا اللون من التفكير، يعم وينتشر حتى يحظى باهتمام الناس كافة، على اختلاف مستوياتهم الفكرية والثقافية والدينية والسياسية.

 

وهؤلاء المفكرون المطبوعون على حب التأمل، غالباً ما يكونون مؤرخين أو كتاباً متميزين، جعلوا همهم نشر المعرفة في الآخرين، بعد أن أحسّوا أنهم المسؤولون قبل غيرهم، عن تغيير المجتمع، ذلك لأن للضرورة سيطرة في سير التاريخ والحياة البشرية لا شك فيها. كذلك للإنسان العادي نصيب من القدرة على التفريق، بين الخير والشر، وللبشر من الكفاية العقلية، ما يجعلهم جديرين باحتمال تبعة أعمالهم وصنُع تاريخهم.

 

إن قدرة الإنسان على التمييز بين الخير والشر، هي مصدر تطوره وتقدمه، وباعثه؛ سعادة البشر، والإنسان الذي لا يقدر في نفسه الصفات العقلية الإنسانية، يفقد كثيراً من الإحساس بالكرامة، التي يتميز بها على سائر الكائنات الأخرى، حتى في الثقافة البدائية، إنه يكاد يفقد كل إحساس بذاته، وكل شعوره بنفسه كوحدة فريدة من نوعها لا تتكرر. فالأشياء ليس لها صفات الأفراد، الذين يتحولون إلى أشياء، لا يمكن أن تكون لديهم ذوات بشرية، ولا يمكن أن يكون الفرد فيها، أن يحس بهذا العالم احساساً مباشراً، كلما ارتفعت الأمة في سلم الحضارة بمقياسها المادي.

 

في زماننا... يعيش الانسان وسط عالم لا يحظى بتقديره، وكل ما يراه من صراعات ومحن وآلام، يفوق حواسه وإدراكه، فهو يعيش القوانين النسبية المتغيرة، ويعيش تنازع البقاء للأقوى، المتمثلة في القوى العسكرية والمادية معاً. أنه يعيش كالحيوان، أو هكذا يخال نفسه، فهو لم يكتف في البعد عن قيمه الروحية والخلقية، ولم يعُد يكتف بأن يشبع كل شهوة من شهواته العدوانية، ولكنه مع ذلك، نراه يعيش الفراغ والخوف، ساخطاً حائراً.

 

يوصف الإنسان في زمانناً، بأنه كالجواد الجامح، الذي يثور على الشكيمة، غير أنه يختلف عن الجواد، في أنه نفسه الذي يفرض على نفسه وضع هذه الشكيمة!، وهو حر في أن يلبسها أو يلقيها جانباً... ذلك لأن السيطرة على غرائزه، قائمة على حرية الاختيار. وهذه الحرية هي التي تضفي عليه كرامته البشرية، وتحد سير طريقه في الحياة الكريمة.

 

وإذا أدركنا معنى تلك الكرامة البشرية... لوجدنا تعريفاً موضوعياً للخير والشر، فالخير ما تماشى معها، والشر ما احتقرها، مع الشر لم يعد باستطاعة الإنسان عصيان غرائزه وميوله الحيوانية، ولم يعد قادراً على دفع عجلة التطور البشري إلى الأمام، رغم أن هذا الإنسان استطاع أن يغزو الفضاء في سنوات قليلة، ويتطلع باستمرار إلى آمال أوسع أفقاً، فهو بفضل ذكائه اتسعت مجالات حواسه إتساعاً مثيراً، حتى أصبحت حواسه ترى المتناهي في الصغر، والمتناهي في البعد، تحس بالمرئي وبغير المرئي، تقيسه وتحلله وتعرف مساراته. المسافات بين الشعوب تم له اختصارها إختصاراً كبيراً، ونجح في قهر الزمن نجاحاً ملحوظاً.

 

لكن؛ هذه الزيادة في قوة الإنسان الفكرية، وما يستتبعها من انجازات صناعية وعلمية وتكنولوجية وغيرها، لم تجعله حراً في أن يسلك الطريق الذي يعجبه أو يختاره. مثله في ذلك مثل الطيور المهاجره أو طوائف النحل، وهي تنتقل من مكان إلى مكان، بحثاً عن الدفء أو الأمان، وجميعاً؛ تعيش وهي محكومة بقوة تملي على كل كائن عمله وسلوكه...

 

فالله -سبحانه وتعالى- بعد أن خلق الإنسان حراً، واستخلفه في الأرض، وخصه بمزية العقل والخلق، إلا أن هذا المخلوق الوليد من طين لازب، تخلى عن صفاته الإنسانية، وعن المنحة الإلهية له، وأتبع خطوات الشيطان، بمحض إرادته واختياره. فضلّفيها ضلال أهل الجاهلية فيالعقل والخلق والسلوك، وابتعد عن طاعة الله وعبادته، دون أن يحقق كرامته البشرية، أو العمل على تمكينها، حتى يسمو ويترفع فيها!؟.

 

وربما كانت العلة الأولى في حياة الناس، هي أن التكنولوجيا بتفصيلاتها وتفريعاتها، ومحتمات الجبر فيها، تدعوهم للانغماس في تقنياتها، حتى تغرقهم أمواجها، فلا يجدون لأنفسهم من الفراغ، ما يمكنهم من الإنصراف إلى تناول المشكلات الحية المتفاقمة في حياتهم، بالتفكير المبتكر الأصيل لها، فالناس رغم أنهم غير متآخين كأجناس وعقائد وكتل اقليمية وعالمية فإنهم لا يعرفون مجرد أبجدية التفاهم فيما بينهم... مع هذا الانغماس التكنولوجي، أصبح الإنسان مسلوب الإرادة والحرية والفكر، وأصبح خادماً مطيعاً، يراد على شيء لا إرادة له فيه، يتلقى الأمر فلا يملك إلا أن يهرع صاغراً مطيعاً إلى تنفيذه، مما يعني أن كرامة الإنسان وإرادته في العالم التكنيكي، خليط من عدم القدرة، ومزيج من السلب، ومن ثم فهو متأثر غير مؤثر، ومنفعل وليس بفاعل!؟.

 

في حين أن جوهر الأديان الكبرى الثلاث، لا تتصادم مع حقائق الكون وكرامة الإنسان وإنما ينتج التصادم من محاولات المذهب المادي أو التصرف الديني أو الارهاب الدولي، الذين يستغلون الدين ضد طبيعته وروحه، وبافتعال تفسيرات له تتصادم مع حكمته الإلهية السامية. إن أول العقائد التي غرسها الإسلام في نفوس ابنائه: إن هذا الكون الكبير الذي يعيش الإنسان، فوق أرضه وسمائه، لا يسير جزافاً، أو يمشي على غير هدى، كما أنه لا يسير وفق هوى أحد من الخلق، أو الخضوع لمخترعات العلم الحديث، فإن أهواءهم - مع عماها وضلالها، متنافرة متضاربة، لقوله سبحانه: (وَلَوِ اتَّبَعَالْحَقُّأَهْوَاءَهُمْلَفَسَدَتِالسَّمَاوَاتُوَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ) سورة المؤمنون، آية: 71. لكن هذا الكون مربوط بقوانين وسنن مطردة وسنن ثابتة، لا تتبدل ولا تتحول، كما جاء في القرآن الكريم وفي أكثر من آية (فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا، وَلَن تَجِدَلِسُنَّة اللَّهِ تَحْوِيلًا) سورة فاطر، آية: 43.

 

من أخطر المشكلات التي يعانيها الإنسان المعاصر، أنه خلق عالماً تكنولوجيا ضاراً، من صنعه هو، لم يكن له وجود من قبل، حتى أصبح عبداً وخادماً لوثن صنعه بيده، وكلما إزدادت القوى التي يفكها من عقالها قوة وضخامة، إزداد شعوره بالعجز والغربة، بوصفه كائناً بشرياً، إنه المخلوق الذي تملكه مخلوقاته ولا يملك نفسه.

إن ذكاء الإنسان خطر على مستقبل البشرية، وهو وحده الذي اخترع القنبلة الذرية، والقنبلة النووية وغيرها من أسلحة الدمار الشامل، مما جعل البشرية تعاني حصراً،من مشكلة التوفيق بين ذكاء الإنسان، وبين مبادئه الروحية وقيمه الخلقية، وأصبحت هذه المشكلة للجميع، مسالة حياة أو موت.

 

فالعقل البشري، بما أوتي من قدرة وحكمة وموهبة، وما اكتسب من خيرة ودراية ومران، عجز أن يطوع التكنولوجيا الضارة بوسائلها المتعددة، في خدمة القيم الإنسانية، وعجز أن تكون غاية في ذاتها، ولم يعد الإنسان مع مخترعاته العلمية، سيداً للعالم، بل أمسى ذرة في مهب الريح. أو ترساً في الآلة يدور معها وجوداً وعدماً. تائهاً في فراغ الكون - لا يرتبط إرتباطاً محسوساً بأي شيء. ومع التكنولوجيا أصبحنا نتحدث عن قتل وتشريد الملايين من البشر، وعن إبادة نصف حضارات العالم وتدميرها، واصبحنا نتحدث عن إنفاق مليارات الدولارات لشراء الطائرات الحربية والسفن والغواصات النووية، وغيرها من أسلحة قتل الإنسان بيد أخيه الإنسان.

 

وفي هذه العجالة، لعل سؤالاً يجول في الذهن، حين نتحدث عن التكنولوجيا والعلماء، هل التكنولوجيا نقمة على البشرية مهددة لمستقبلها ومصير الإنسان فيها؟ أم أنها نعمة تسهم في تطوير وحماية مصالح الدول المنتجة لها؟ لا شك؛ أن التكنولوجيا العسكرية مثلاً - تجعل الإنسان يعيش حالات الخوف والقلق الدائم، لا يجد ركناً يؤويه ويحميه من أخطارها المدمرة، وتنذر بخطر تفسخ العلاقات الإنسانية، «والأرض الخراب»، و»رجال الجوف».

فلئن كان هذا حال التكنولوجيا، فالأصل في علمائها وغيرهم من العلماء، أن يكونوا مؤمنين بالله وكتبه ورسله، لأن أغلبهم من أهل الكتاب، فالله -سبحانه وتعالى- قد خص العلماء بالخشية، لأنهم الأكثر إدراكاً لعظمته ودقائق مخلوقاته، حين قال في محكم كتابه: «إنما يخشى اللهَ من عباده العلماءُ». وكذلك ما ورد في الأحاديث النبوية الشريفة، وفي أي منزلة تضع العلماء، حين قال رسولنا الكريم محمد (ص) «العلماء أمناء الله على خلقه "ويقول: «العلماء مصابيح الأرض، وخلفاء الأنبياء، وورثتي وورثة الأنبياء".

 

وقديماً دعا الفيلسوف أفلاطون - قبل ميلاد السيد المسيح - بخمسة آلاف عام، دعا أن يتولى الفلاسفة شؤون المجتمع، حين اعتبرهم في كتابه «الجمهورية» مكان التوجيه والحكم. وإن صاحب الفكر يجيء أولاً، ثم يجيء صاحب التنفيذ. وماذا يكون التنفيذ، إلا تنفيذاً لفكرة، وماذا تكون الفكرة، إلا تخطيطاً لعمل ينفّذ، فيسعد البشر ولا يهلكه.

 

أما مفكرو هذا العصر، فكثيراً ما يحذرون من وخم العاقبة، لو ركب الإنسان التكنولوجي راسه، وقضى حياته ومخترعاته بالموت والهلاك. فبعد حربين عالميتين مدمرتين، حصدت أرواح الملايين من البشر... وبعد اعتداءات وحروب اسرائيلية طال أمدها على الأمة العربية، وحروب اقليمية قديمة وحديثة، في كل أقطار العالم، أهلكت الحرث والنسل. فهل نقول بعد هذا كله، أن الإنسان في زماننا، قد اقترب حقاً من الحرب التي تختتم الحروب؟ فلا حرب بعدها ولا محاربون؟ أم نقول أن يوم نصر الإنسان على ما في طبيعته من بوائق الشر والدمار لهو قادم؟

في الحق؛ أن إنسان الحاضر، يرقص فوق بركان ثائر، يقذف به إلى أتون صراع عالمي هائل، لا يبقي ولا يذر. وإنسان الحاضر، لا يختلف كثيراً عن الإنسان القديم، حين قتل قابيل أخاه هابيل، وحين وسوس له الشيطان سوء عمله. هذا الإنسان، ما زال يقتل ويسرق وينهب مقدرات غيره، يغتصب النساء، ثم ينام ملء الجفون وراحة البال... ولا همّ له في الحياة إلاَّ أن يعيش ويتناسل ويأكل؟!.

 

ترى لماذا أصبح الإنسان مسحوق العقل والوجدان، ولماذا انقلبت أوضاعه وقيمه ومعاييره؟ أما حان الوقت للإنسان، أن يطلق النفس من عقالها ومن مسكنها الجسدي، ويجعلها تسبّح لبدائع الخالق سبحانه وتعالى؟ ألا يكفي الإنسانية ما عانته من كثرة اللغو السياسي والعدوان العسكري، ومن التشريد والترويع والحرق والذبح للنفس البشرية، التي حرم الله قتلها إلا بالحق؟

 

وأخيراً... إلى متى سيظل إنسان الحاضر، سادراً في غيه، ليقال عنه.. أنه يواكب روح العصر ويعيش حياته... وهل للحياة معنى في ذلك؟! وصدق الله سبحانه حين قال: (وَالْعَصْرِ إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ),