مركز الرأي للدراسات
د.حسام العتوم
أيار 2015
تتصدر الفيدرالية الروسية وعاصمتها الجميلة والتاريخية موسكو في ساحتها الحمراء صبيحة هذا اليوم التاسع من أيار بلاد السوفييت ودول الحزام الاشتراكي السابقة وأصدقائها العديدين على خارطة العالم احتفال النصر المميز والنوعي والعرض العسكري المهيب بحضور رئيسها المحبوب وصاحب الكاريزما الخارقة فلاديمير فلاديميروفيج بوتين بمناسبة مرور 70 عاماً على تحقيق النصر الهام والتاريخي على أدولف هتلر وتحالفه وأيديولوجيته الفاشية الفاشلة التي أنهت حياته وزوجته ايفا براون انتحاراً بعد دحر قواته الغازية من قبل السوفييت بقيادة المارشال جوزيف ستالين وقائد جيشه المارشال جيورجي جوكوف إلى عمق برلين، وكذلك بعد إنهاء حياة حليفه النازي المارشال العسكري بينيتو موسوليني الإيطالي، وهي الحرب الوطنية العظمى والثانية عالمياً التي استمرت ألفين ومئة وخمس وتسعين يوماً (2195 يوماً) ولمدة 6 سنوات 1939/1945 وتسببت في استشهاد حوالي 27 مليون سوفيتي، و6 مليون بولندي، ونصف مليون أمريكي وغيرهم من الإنجليز والبريطانيين اليوغسلافيين، وفي مقتل 8 مليون ألماني، ونصف مليون إيطالي، وأكثر من 2 مليون ياباني وغيرهم، واستهدفت اجتياح العالم بطريقة هستيرية قصدت أن يتفوق العرق النازي على شعوب العالم فكان لها السراب في المرصاد، وحصدت الدمار والخراب وحطمت الإنسان ونكّلت به.
وبداية (VOV) أي الحرب الوطنية العظمى هذه في 22 حزيران 1941، لكن المصطلح كان له استخدام مماثلٌ في وصف المقاومة الروسية للغزو الفرنسي للإمبراطورية الروسية بقيادة نابليون الأول التي عرفت بالحرب الوطنية لعام 1812، والمصطلح نفسه عنى سابقاً ولاحقاً الحرب من أجل الوطن، وظهر هذا المصطلح أولاً في مجلة (المسرح والحياة) 1914 في مدينة ليننغراد (سانت بطرس بيرغ)، وفي صحيفة (البرافدا) 1941 في مقالة للكاتب يمليان يارسلافسكي، وهدفت المقالة وقتها لتحفيز شعوب الاتحادي السوفييتي للدفاع عن وطنهم المستهدف نازياً، ولقد كانت الجبهة الشرقية هي مسرح الحرب الرئيسي بين دول المحور وفنلندا من جهة، والاتحاد السوفيتي وبولندا والنرويج من جهة أخرى وانحصر الدور الأمريكي والفرنسي في رفد الجبهة الشرقية بالمؤن والسلاح، ومن وسطها هزمت ألمانيا، وتمت الإطاحة بالرايخ الثالث وتقسيم ألمانيا لنصف قرن، وسميت أيضاً بجبهة الاستمرار.
ويعتبر الأول من سبتمبر 1939 عندما اجتاحت ألمانيا بولندا البداية الفعلية للحرب المرعبة هذه، وبعدها توالت إعلانات الحرب على ألمانيا من قبل فرنسا والمملكة المتحدة، وسقطت باريس بيد الألمان، واستسلمت فرنسا، لكن أكثر اركان الحرب دموية كانت بحكم الغزو الألماني للاتحاد السوفييتي، وفي عام 1941 هاجمت اليابان أمريكا مما دفع الأخيرة لدخول الحرب مباشرة ولو بشكل متأخر، وشكلت معركة ستالينغراد مفصلاً أساسياً لإيقاف تقدم دول المحور بقيادة ألمانيا، واستسلمت إيطاليا، وفي عام 1944 تم تحرير فرنسا، وتمت السيطرة من قبل الاتحاد السوفييتي على برلين واستسلم الألمان من غير شروط تاريخ 8/أيار/1945، وبعد إعلان ومؤتمر بوتسدام هاجمت أمريكا اليابان بقنبلتين نوويتين على هيروشيما وناكازاكي، واستطاعت الحرب العالمية الثانية أن تقلب الطاولة السياسية وتغير مجرى التاريخ وأن تفرض وجود منظمة الأمم المتحدة UN لتعزيز تعاون الدول ومنع الصراعات داخل منظومتها، وتم اعتماد كل من (الاتحاد السوفييتي، والولايات المتحدة، والصين، والمملكة المتحدة، وفرنسا) أعضاء دائمين في مجلس الأمن، وانطلقت الحرب الباردة بين الاتحاد السوفييتي ودول الحزام الاشتراكي من طرف وبين أمريكا ومعها أوروبا من الطرف الآخر واستمرت حتى تاريخ انهيار الاتحاد السوفيتي عام 1992 وعلى كافة المستويات.
والغريب هنا هو أن التحالف الأمريكي السوفييتي المتأخر في نهايات الحرب الوطنية والعالمية الثانية هذه لم يصمد طويلاً، وسرعان ما جرى الاختلاف من طرفهم على تقاسم النصر، ولقد انصب التعاون الأمريكي سابقاً على مواجهة ألمانيا كقوة عالمية تحاول أن تظهر، وعندما انقلب ميزان الحرب لصالح السوفييت كقوة عملاقة جديدة، أعلنوا المواجهة معهم من خلال حرب باردة طويلة الأمد بواسطة سباق التسلح وغزو الفضاء والتحالف مع أوروبا، والسيطرة على الاقتصاد العالمي وعلى الإعلام والدعاية هذا إلى جانب حرب الاستخبار، وهو الأمر الذي أنهك الاقتصاد السوفييتي الذي عانى في فترة ثلاثينيات القرن الماضي من ظهور مجاعة مشتركة وبعد ذلك من تردي مستوى صناعة الملابس وحتى من توقف أعمال المصانع، وشعور الناس بمحدودية رواتبهم الشهرية وعدم كفايتها رغم دعم الدولة السوفييتية لدخلهم عن طريق التعليم المجاني، والصحة، والمواصلات شبه المجانية، وكذلك نشر دور الراحة والاستجمام والرياضة، ورغم الإنجاز السوفييتي الضخم في الفضاء وعلى الأرض حيث شبكات القطارات والميترو الجبارة، والبنية التحتية العمرانية الشامخة التي لا زالت شاهدةً على العصر.
يأتي الاحتفال الروسي تحديداً بذكرى الحرب الوطنية العظمى هذه الأيام في ظل استمرار اندلاع الحرب الباردة بعد انهيار الاتحاد السوفييتي والتي كان الواجب أن تنتهي مع زواله بين الغرب الأمريكي إن صح التعبير وبين الشرق الروسي من دول الحزام الاشتراكي السابقة، ففي الجنوب من روسيا الحدث الأوكراني الانقلابي بقيادة الرئيس بيترو باراشينكا وتياره البنديري المتطرف يتجه بعد توقيع معاهدة السلام في بيلاروسيا صوب التعاون الكامل مع أمريكا ولا حلول جذرية لمسألة إقليم الشرق والجنوب الراغب بحكم ذاتي في إطار الدولة الأوكرانية بسبب عدم الانسجام مع كييف، وإدارة واضحة للظهر الأوكراني تجاه موسكو التي تستمر في مساعدة أهل الشرق المنكوبين بالمواد التموينية والحياتية اللازمة دون منة، وتحت وطأة الموضوع السوري وقفة روسية مع الدولة السورية ونظامها السياسي بواسطة (الفيتو) والدعم بالسلاح لمنع صعود التطرف والإرهاب إلى سدة سلطة دمشق ولتطبيق الديمقراطية والحوار، وهو الأمر الذي لم تستوعبه أمريكا بداية والعرب المؤازرين لها، ورغم تغير الموقف الأمريكي من الحدث السوري بعد اقترابه من الملف النووي الإيراني وقرب الاتفاق حوله بنجاح واعتباره نظام الأسد وحزب الله خارج قائمة الإرهاب، إلا أن بعض العرب لا زال مصراً على عدم تفهم الدور الروسي في سوريا ويفضل العودة لسيناريو أمريكا و(الناتو) في دمشق الذي تم تطبيقه في بغداد وطرابلس وأعطى صورة قاتمة ومرعبة.
وفي ظل الموقف الروسي من مسألة الانقلاب الحوثي في اليمن الذي ارتكز في المقابل على دعوة الطرفين المتقاتلين في اليمن أي السلطة و(المعارضة) المدعومة من إيران إلى الحوار وتوقيع السلام، والدعوة لحوار سعودي يمني أيضاً، وانتقاد روسي لعاصفة الحزم التي قادتها المملكة العربية السعودية وألحقت الضرر بحياة المواطنين المسالمين في اليمن، ولم تحقق نتائج مقنعة على الأرض، وتستمر روسيا في دعم الأنظمة العربية في حربها ضد تنظيم وعصابات الدولة الإسلامية الإرهابية المجرمة (داعش) التي أصبحت بالتعاون مع تنظيم القاعدة الإرهابي أيضاً تهدد أمن ليس الشرق الأوسط فقط ولكن أمن العالم بأسره، ولا ننسى هنا موقف روسيا المشرف من القضية الفلسطينية بالتصويت لصالحها مؤخراً في مجلس الأمن.
وفي وقت هي العلاقات الروسية العربية في أحسن حالها، وحجم التبادل التجاري معنا نحن العرب وصل إلى أكثر من 14 مليار دولار، وهو مع جمهورية مصر العربية لوحدها فاق ال 5 مليار دولار، وزيارة الرئيس بوتين الأخيرة للقاهرة هذا العام عززت هذه العلاقة، وسبقها زيارات مماثلة لعواصم عربية مختلفة منها لعاصمتنا الأردنية عمان لمرتين، وزيارات متكررة شهدتها العاصمة الروسية موسكو لزعماء عرب من بينهم جلالة الملك عبدالله الثاني والرئيس عبد الفتاح السيسي، ويقابل هذه المعادلة انفتاح روسي ملاحظ على العالم الخارجي وتجديف باتجاه منظومة الاقطاب المتعددة المتوازنة القائمة على الصداقات والمصالح المتبادلة واللاغية للقطب الواحد والحرب الباردة التي آن الاوان لها ان تنتهي فعلاً بعد اقتناع امريكا بأن روسيا ليست عدوة لها والعكس هو الصحيح ايضا، وعندما ترفع أمريكا يدها عن أوروبا وتسحب قواعدها الصاروخية من هناك المزعجة لروسيا نفسها.
وعودة على موضوع ذكرى الحرب الوطنية العظمى التي تحتفل بها روسيا أكثر من غيرها من الدول التي شاركت فيها لتمسكها بالقراءة الصحيحة لها بعيداً عن أصوات الدعاية المعادية التي تتعمد تحريف التاريخ والواقع، وتحرض بشكل واضح على عدم المشاركة في الاحتفال الرسمي والعملاق هذا وفي مقدمة هذه الدول الولايات المتحدة الأمريكية، والمانيا – اعتذار المستشارة انجيلا ميركيل، ورؤساء بولندا، ولاتفيا، واستونيا، ورئيس وزراء بريطانيا ديفيد كاميرون، ورئيس المجلس الأوروبي دونالد توسك، وزعماء النرويج وفلندا في نيديرلاند، وفي المقابل فإن حضوراً ضخماً ستشهده العاصمة موسكو في هذه الاحتفالية يمثل نصف العالم، وهذه الدول التي اعتذرت عن المشاركة كما سبق وذكرت هنا ترغب على ما يبدو بتناسي شيفرة الحرب من جهة المانيا النازية والتي سميت آنذاك (Unternehmen Barbarossa)، اي عملية بارباروسا عند غزو الاتحاد السوفيتي 22/مايو/1941 بمشاركة 4.5 مليون جندي من قوات المحور على جبهة طولها 2.900 كم، وكيف ان المانيا كانت تحلم وسط أسطورتها المتعلقة بالإمبراطور فريدريك الأول (بربروسيا)، الذي سوف يستيقظ من نومه العميق وسباته يوماً لإنقاذ ألمانيا التي تحتاجه، وكيف تحركت الدعاية الألمانية وقتها بقيادة بول جوزيف غوبلز لتزييف التاريخ والادعاء بأن الجيش الأحمر يستعد للهجوم على المانيا، بينما هو كتاب ادولف هتلر (كفاحي) الذي كتبه سنة 1925 أظهر بوضوح أطماعه في غزو الاتحاد السوفيتي للحصول على أرض ومواد خام بعد التخلص من الديمغرافيا الروسية والسوفيتية تحت مسمى (النظام الجديد).
بقي علينا أن نقول هنا بعد المباركة للروس والسوفييت (السابقين) ودولهم الحالية المستقلة وشعوبهم العظيمة بعد زوال النظام السوفيتي سياسياً واقتصادياً وتعاونه من جديد مع بقاء بعض الجيوب بالطبع خارج هذه المعادلة بكل الأحوال لأسباب ذات علاقة بالتأثيرات الخارجية وسط تجدد الحرب الباردة في صورة جديدة لا نشجع عليها وندعو في المقابل لتقاسم المصالح الدولية بمحبة دون تصارع، وكلنا في نهاية المطاف نطمح للعيش بسلام على الكرة الأرضية الواحدة الذي لم يثبت العلم حتى الساعة وجود حياة للإنسان على غيرها.