قيم التسامح وتقبل الآخر.. رسالة عمان أنموذجاً

مركز الرأي للدراسات

فادي حدادين

آب 2015

ما سرّ توكيد جلالة الملك عبدالله الثاني والرئيس المصري عبدالفتاح السيسي على قيم التسامح وتقبّل الآخر؟ فجلالة الملك يركّز دوماً على (رسالة عمّان)، ويكتب في (الرسائل المَلَكية النقاشية)، مثل أيّ فردٍ من المجتمع، حول النهج الديمقراطي المعتدل والتسامح، إلى غيرهما من قيمٍ أخلاقية. والرئيس السيسي لا يملّ من تذكير الناس أن مصر، على مرّ الأزمان، أرضُ التسامحِ والتداخلِ مع بقية الشعوب والحضارات، داعياً الأزهر الشريف إلى ريادة العمل الوسطي الجادّ لتدعيم التوافق الحضاري بين الأمم.

 

وبما أن إيران قد انتهت لتوّها من معمعة «النووي» مع الولايات المتحدة، فلِمَ لا تجلس في «سباقٍ من التسلّح» الفكري مع الأردن ومصر، بالإضافة إلى السعودية، وعُمان، والمغرب، وتركيا (هل أصبح العدد ستة مثل مباحثات النووي؟!)، لإخراج وثيقةٍ إقليميةٍ حضاريةٍ، ومُلزِمة، حول التسامح داخل وفيما بين مجتمعات الشرق الأوسط «الكبير»؟ وليكُن مقرّ المباحثات «فيينا» الشرق: لبنان!

 

كمبدأ عام موجَّه للمجتمع، تُعتبر نظرية التسامح جديدةً نسبياً؛ فمعظم مجتمعات العالم القديم، وفي القرون الوسطى، كانت تعتقد بأنه حتى يمكن للمجتمع أن يعيش ويحافظ على تماسكه، لابدّ له من أن يكون مجتمعاً «متجانساً». وكان من أوائل الدعاة الفلاسفة إلى التسامح الشاعر الإنجليزي (جون ميلتون)، الذي احتجّ على رقابة الدولة على حرية الكتابة والنشر، في منشورته بعنوان (آريو بجتيكا)، عام 1644. إذ اعترض على مسودّة قانونٍ معروضٍ على البرلمان، يفرض على كلّ دار نشر الحصول على ترخيصٍ من الحكومة. وكان من صلاحيات المراقبين الحكوميين منع نشر موادّ قد تُعتبر «غير ملائمةٍ» اجتماعياً أو سياسياً، أو إن كانت، بنظرهم، «تحريضية» الطابع؛ فكان لديهم صلاحية منع نشر الموادّ «الكاذبة، المزوّرة، الفاضحة، المحرّضة، المتهجّمة»، والتي لم تحصل على تصريحٍ حكوميّ للنشر، بالإضافة إلى المنشورات والكتب التي تتهجّم على الدين والحكومة.

 

لقد كان (ميلتون) بالفعل من أوائل المفكرين الذين قدّموا دفاعاً مبدئياً عن حرية النشر. وقد استند في انتقاده للرقابة على النشر على مجموعةٍ من الأسس: أولاً، من أجل أن يكون الإنسان فرداً فاضلاً، يجب أن يعرف الرذيلة! ثانياً، لا يستطيع المرءُ أن يثقَ فيمن سيتولّون الرقابة بأن يتخذوا القرارات الصحيحة، إلا إذا كانوا غير قابلين للخطأ؛ ولا يوجد أيّ إنسان محصّن من الخطأ! ثالثاً، الحقيقة تظل هامدة إذا كان الإيمان مبرراً فقط بالاستناد إلى السلطة. رابعاً، يجب دحض، وليس إسكات، الرأي الخاطئ. وخامساً، قد تراقب الحكومة، وتمنع موادّ من النشر، عن طريق الخطأ!

كانت «الحرية من الاضطهاد»، بسبب الآراء الدينية للفرد، محورَ بحث (جون لوك) في بحثه الهام بعنوان (رسالة فيما يتعلق بالتسامح)، عام 1689. وكانت وجهة نظره أن دورَ الدولة هو: حماية الحياة، والحرية، والملكية الخاصة، وأنه لا يحقّ لها أن تتدخل في شؤون تتعلق بضمير المرء. وكان لدى (جون لوك) ثلاث حجج رئيسة: أولها، أن التعصّب مخالفٌ للمسيحية. ولا يمكن لأي إنسان أن يكون مسيحياً إن لم يمارس عمل الخير. كما أن اضطهاد الآخرين بسبب عقائدهم «الملحدة» لهوَ عملٌ غير خيّر؛ وبالتالي، مخالفٌ للمسيحية. ثانياً، اتهم (لوك) معارضيه بالتناقض في حججهم، متسائلاً عن آرائهم حول أمور عدّة، من بينها الدعارة، والتزوير، وسوء الظن، والتي قد لا يُنظر إليها بالحماسة ذاتها من قبل معارضي التسامح! ثالثاً، كان من رأي (جون لوك) أن اللاتسامح مبنيٌّ على أسس غير منطقية؛ فلا يمكن تغيير العقائد بسهولة، حيث أنها قائمة على أساس ما يعتبره الإنسان صحيحاً وحقيقياً.

 

أما المفكر (جون ستوارت ميل) فقد اتجه، في كتابه الشهير (عن الحرية)، إلى أن يكتب تأييداً لمبدأ التسامح على نطاقٍ أكبر (من حيث حرية التعبير ونوعية الحياة) من مجرد تسامحٍ ديني، أي أنه رأى في التسامح جزءاً لا يتجزأ من دفاعه عن الحرية. إذ دافع عمّا سماه «التجارب في العيش» والذي يسمح بموجبها للآراء المتعارضة حول الحياة الرضيّة أن تتنافس، وأن يجري التفاضل بينها. وبالأخص، فقد عرض دفاعاً شهيراً عن «حرية التعبير». ومثل ما فعل (لوك)، أوضح (ميل) أن تغيير معتقدات الناس العميقة بالقوة والإكراه هو هدفٌ غير قابل للتحقيق، وقد شكّك حتى في منطق أولئك الذين يسعون لتحقيق ذلك.

 

تمتعت «الحرية الدينية» (أو «حرية الضمير» كما كانت تُسمّى في كثير من الأحوال) بمركز الصدارة في تصنيف الحريات. وقد وصفها (جيمس ماديسون) بقوله: «هذا الحق الطبيعي وغير القابل للتصرف هو أكثر الحقوق قدسية»؛ شعورٌ عبَّر عن مثله (جون سيتوارت ميل)، عندما قال إن حرية الضمير هي الأولى بين جميع عناصر العقيدة المتسامحة.

ولكن، ما الحجّة أصلاً في الدفاع عن أهمية ودور التسامح؟ أراها ترتكز على التالي: أولاً، إن التشديد على قيم التسامح هو أحد السياسات الهامة في الالتزام بالحرية الفردية التي ينتهج الفرد من خلالها رؤاه الذاتية فيما يتعلق بالحياة الحسنة. ومن هنا، على أفراد المجتمع أن يكونوا مستقلين ذاتياً، وأن يمارسوا حياتهم كما يشاؤون، وفق ظروفهم الخاصة... هذا هو الذي يميّز المجتمعات المستنيرة، دائمة التطوّر. ثانياً، وفي الحقيقة، لا يمكن لمجتمعٍ معيّن أن يتميز في الاكتشاف والإبداع والتطوير إلا من خلال التنافس الحرّ بين الأفكار؛ إذ يستطيع الفرد أن يقرّر قناعاته اعتماداّ على تقبل والاستماع إلى الأفكار المختلفة وتقييمها. فالحقيقة الشخصية لا يمكن أن تفرَض فرضاً! ثالثاً، هنالك تمييز أساسي بين ما هو عام وخاص. إذ علينا أن نسمح للأفراد بأن يعتنقوا ما يشاؤون من آراء، مهما كان مدى سخفها، ما دامت آراءهم تلك لا تتدخل في شؤون الآخرين. رابعاً، يتطلب التطور الشخصي والأخلاقي من الأفراد أن يتخذوا خياراتٍ من أجل فهمٍ أوسع لأنفسهم، ولإدراك النتائج التي تترتب على أفعالهم. فأحياناً، لا بل في أغلب الأحوال، يكون التوافق المجتمعي خطراً بحدّ عينه، قد يمنع الناس من تجربة الآراء الجديدة. وأخيراً، يتوقف التقدم الاقتصادي والاجتماعي على ابتكار الأفراد لأفكار مختلفة، وخلاقة، وغير عادية، وطرائقَ جديدة في التفكير، قد يكون معظمها سخيفاً أو خاطئاً، ولكن بعضاً منها قد يعطي الديناميكية المطلوبة لتطور المجتمع. ألم يكُن يُعتبَر (ألكسندر بيل) «غريبَ الأطوار»، إن لم يكن «مجنوناً»، عندما ذكر، ولأول مرة، أنه يمكن للمرء أن يتحدث مع الآخرين عبر ما أصبح يعرَف بالهاتف!

 

يسهّل التسامح الطريقَ أمام التعاون الاجتماعي إلى حدّ ما أنه يتيح للناس فرصة فهم وخدمة الآخرين في آنٍ واحد، وهي فرصةٌ لا تتوافر إذا كان المجتمع استبداديّ الرأي، أو إن كانت مكوّناته في حالة حربِ الجميعِ ضدّ الجميع. هذه الدوافع تتيح لنا التعاون مع بعضنا بعضاً، حتى ولو كانت آراؤنا حول القضايا السياسية، أو عقائدنا الدينية، تختلف اختلافاً كبيراً. ففي المجتمع المتسامح، يستفيد المسلمُ واليهوديّ والمسيحي، جميعهم، من النشاط السياسي، والفكري، والتجاري لكلّ منهم، ضمن مجتمعٍ واحدٍ توافقي، دونما حاجة أيّ منهم إلى تغيير معتقداته.

 

وبرأيي، هناك وصفٌ في منتهى الجمال، والثقافة العالية، كتبه أديبٌ فرنسي وناشطٌ سياسي، يدعى (فرنسوا ماري أرويت)، والمعروف لنا -صدقوا أو لا تصدقوا- باسم (فولتير)! حيث كتب، في رسائله الفلسفية، مشجعاً وشارحاً للجمهور حول ابتكار التطعيم ضد الجدري، ثم أضاف واصفاً لقرائه الفرنسيين عالمَ إنجلترا «المدهش»، والديناميكي، والمتعدّد الثقافات، والمتسامح، والمتحرّر نسبياً. وكان ما لفت انتباهه أيضاً هو سوق الأوراق المالية (بورصة لندن)، التي وصفها في رسالته السادسة:

 

«أُدخل إلى سوق الأوراق المالية في لندن... ذلك المكان الأكثر هيبةً من أيّ قاعة أخرى. ستجد ممثلين عن جميع الشعوب، وقد تجمّعوا لفائدة بني البشر... هناك، يتعامل اليهودي مع المسلم مع المسيحي، وكأنهم ينتمون لديانةٍ واحدة! واحْفظ لنفسك تسمية «الملحد»، ولا تطلِقها إلا على المفلس مالياً لا أكثر! هناك ستجد البروتستانتي المشيخي يثق بالبروتستانتي المعمداني، والتابع لكنيسة إنجلترا يقبل وعد (الكويكري). وعند مغادرة هذه التجمعات السلمية والحرة، نجد البعضَ يذهب إلى كنيس، وآخرين يسعون لتناول مشروب ما، ورجلاً في طريقه إلى التعمّد في حوض كبير باسم الآب والابن والروح القدس، وذلك الرجل الذي يصطحب ابنه لختانه، بينما تُتلى آيات فوق رأس الصبي لا يستطيع فهم شيءٍ منها! وأولئك المتوجهين إلى كنائسهم، انتظاراً لإلهامٍ إلهي، فيما بقيت قبعاتهم فوق رؤوسهم، والجميع راضون...»

 

إن أمنَ البشر ورخاءَهم يعتمد على التوافق فيما بينهم. وفي المجتمعات المتسامحة، تحلّ الخلافات سلمياً، وفي جوّ من التوافق العام، لفائدة الجميع، بحيث يصبح التسامح جزءاً من الإطار الأخلاقي المتوارث. فغياب هكذا آلية ما هو إلا أحد الأسباب التي تؤدي إلى النزاعات الدينية والاجتماعية، والتي تتّسم بها المجتمعات التي لم تعرف البتة مبدأ تقبّل الآخر.

 

قد يراودكم التساؤل عن عدم إلتفاتي لأي فلاسفة عرب؛ إن كانوا قد تطرّقوا من قبل لمبدأ التسامح وتقبّل الآخر، إذ أنني اقتبست معظم ملاحظاتي حول التسامح من ما قاله فلاسفة الغرب. في الحقيقة، وددتُ تأجيلَ ما قاله الإمام الشافعي (المولود في غزة هاشم عام 766 ميلادية) إلى مسك الختام، إذ قال: «رأيي صوابٌ يحتملُ الخطأ، ورأيُكَ خطأٌ يحتملُ الصواب». أليس كلامُ الشافعي هذا من أجملَ، وأدقّ، وأوفى ما كُتب، أو قيلَ، أو وُصفَ عن التسامح؟!