إعداد: المحامي صدام ابو عزام
خلفية عامة
إنشغل الرأي العام الاردني منذ صدور قرار ديوان تفسير القوانين رقم 8 لعام 2015 الخاص بتفسير المادة 11 من قانون الجرائم الالكترونية بالتحليل والتعليق على مضمون هذا القرار، ولعل حمى هذا النقاش إرتفعت حين لجا الادعاء العام بالاحالة والاستناد على المادة 11 عند تقديم الشكاوى بحق الحصفيين، وشكل نص المادة المشار اليه السند القانوني في التطبيق. وبات الكل يشير الى تداعيات هذا القرار على حرية الرأي والتعبير بشكل خاص والحريات العامة بشكل عام، وتأثير القرار على سقف الحريات في الاردن.وبعيداً عن وجهات النظر السائدة ودون المساس بحرية الرأي والتعبير لكل طرف تصدى للتحليل والتعليق وبمعزل عن المزاودة العلمية أو المساس بالذوات أو المؤسسات ذات العلاقة ومن باب التعليق المستند الى وجهة نظر مستندة الى اصول قواعد التفسير يمكننا التعليق على ذلك على النحو التالي:
التأصيل التاريخي
إن استدعاء الادبيات القانونية ذات العلاقة بقوانين الجرائم الالكترونية تطالعنا بأن هذا النوع من الجرائم عرف في مراحله الاولى منذ ستينيات القرن الماضي وكان الشكل السائد لهذه الجريمة التلاعب في البيانات المخزنة، وفي تطورلأشكال الجريمة في المرحلة التي تليها في ثمانينيات القرن ظهر شكل جديد لهذه الجريمة تمثل في اقتحام الانظمة ونشر الفيروسات. اما المرحلة الاخيرة من تطور هذه الجرائم شهدت تناميا في اشكال الجرائم الالكترونية مرد ذلك الانتشار الواسع للإستخدامات الالكترونية والتكنولوجية ودخولها كافة مناحي الحياة مما أضاف اشكالا وأفعالا جديدة لإرتكاب هذه الجرائم، الامر الذي أدى الى زيادة الحالة المطلبية لتقنين وشرعنة قانون خاص يعاقب كل تلك الافعال، حتى لا تبقى بقعة سوداء في التشريعات الوطنية لدى كافة الدول، وظهر العديد من التسميات لهذه الجرائم مثل جرائم الحاسوب والانترنت Computer Crim، وجرائم التقنية العالية Hitesh Crime أو الجريمة السايبرية Cyber Crim.
أنواع وأشكال الجريمة
لعل التقسيم الفقهي يشير الى عدة اشكال لهذه الجريمة يمكن الحديث عنها على النحو التالي:الجريمة المادية:هي التي تسبب أضراراً مالية للضحية وتأخذ شكل عملية السرقة الإلكترونية كالاستيلاء على ماكينات الصرف الآلي والبنوك ونسخ البيانات الالكترونية لبطاقات الائتمان والصراف الالي وغيرها من اشكال الخدمات المصرفية وانشاء مواقع الاكترونية وهمية للبنوك وشركات الخدمات المصرفية، والطلب من العملاء تعبئة معلوماتهم البنكية، ومن ضمن الاشكال المستحدثة ايضاً هو إرسال الايميلات والرسائل الاكترونية لطلب المساعدة في تحويل مبالغ مالية عالية محتجزة في دول والاتفاق على نسبة لمن يساعد في تحويلها، وكذلك الايهام بالفوز بجائزة وانتشر هذا النوع من الجرائم في افريقيا.
جريمة الملكية الفكرية: وهي استيلاء الجاني على الحقوق الفكرية والثقافية من دون موافقة الضحية مثل قرصنة البرمجيات من خلال نسخ أو تقليد لبرامج إحدى الشركات بأي طريقة على اسطوانات وبيعها والتصرف فيها دون مراعاة القوانين والانظمة أو موافقة المالك الاصلي لها، أو من خلال التعدي على القنوات الفضائية المشفرة وإتاحتها عن طريق الانترنت تقنية (soft copy)، وكذلك جريمة نسخ المؤلفات العلمية والأدبية بالطرق الالكترونية المستحدثة وغير ذلك من جرائم فكرية الهدف منها الاعتداء على ملكية البرامج أو محتواها.
الجريمة الارهابية: وهي متطورة بشكل مستمر وكانت خلال هذا القرن الاكثر شيوعاً واستخداماًحيث لجأت الجماعات الارهابية وعصابات الاشرار لإستخدام تقنية المعلومات لتسهيل ارتكاب جرائمهم أو تعميمها أو تضليل الرأي العام أو استقطاب الاشخاص والاتصال والتنسيق فيما بينهم وبث الأخبار المغلوطة وتحويل بعض الأموال لتمويل برامجهم الإرهابية.
الجريمة السياسية: وتكون الغاية من هذه الجريمة الاستيلاء على المواقع الحساسة وسرقة المعلومات والاسرار القومية والوطنية للدول المستهدفة ونشر الفيروسات بهدف الحاق الضرر بمؤسسات الدولة ومرافقها الحساسة بهدف الانتقام من الدولة المستهدفة وهذا النوع ايضاً منتشر وتديره جماعات اشرار وعصابات عبر قطرية.
الجريمة الاخلاقية: تقوم على اساس نشر الأفكار الخاطئة بين الشباب كالإدمان والزنا والعلاقات الجنسية الزائفة لغايات الابتزاز والتقاط الصور والفيديوهات بصور مخلة بالاخلاق والابتزاز بنشرها والتشهير باصحابها، وعادة ما يكون الضحية لها المراهقون والمراهقات من خلال التقاط الصور ومقاطع الفيديو والتهديد بالخروج مع الجاني تحت وطأة النشر.
السياق الوطني الأردني
عند تعقب قانون الجرائم الالكترونية نجد بأن فكرة القانون بدأت تظهر للملا منذ عام 2010 وكان منشاها وزارة تكنولوجيا المعلومات واشار الناطق الاعلامي للحكومة أنذاك ان الدافع لوضع القانون ظهور واكتشاف عصبات اشرار قاموا بالاعتداء على البطاقات الائتمانية لبعض الاشخاص وسرقة مقتنياتهم المالية قدموا من بعض الدول الافريقية، ومن جهة أخرى اعتداء بعض الهواة « القراصنة « على بعض المعلومات وامكان تخرينها وإختراق الحسابات المؤسسية لها بهدف الاعتداء عليها أو افشاء الاسرار المتعلقة بها، وكانت بداية القانون بالقانون المؤقت لعام 2010.
في أدوات التفسير
التفسير هو بيان الحكم القانوني الأمثل الذي يفهم من النص لتطبيقه على الأفراد بواسطة القضاء أو غيره من وسائل وطرق التفسير وبأدوات التفسير، والمقصود بتفسير القانون تحديد مضمون القاعدة القانونية والتعرف على عناصرها وأوصافها، حتى يمكن بذلك تحديد نطاقها من حيث الموضوع والتحقق من مدى انطباقها على الحالات العملية.
ويلجأ للتفسير عند تناقض النصوص القانونية وتعارض نصين قانونيين في موضوع واحد بمعنى أن ينطبق نصان قانونيان على واقعة واحدة أو أن تتعارض احكام النصوص فيظهر إستحالة في التطبيق، وفي حالة قانون الجرائم الالكترونية للوهلة الاولى يجد القارئ بأن هناك تعارضا ظاهريا بين النصوص ففي الوقت الذي يعاقب قانون المطبوعات والنشر على الذم والقدح والتحقير، فإن قانون جرائم الجرائم الالكترونية يهيء للبعض انه يشمل بالتغطية القانونية ذات الحالات، فوفقاً لقواعد واصول التفسير في مثل وجود هذه الحالة ينبغي أن نعتبر النص الجديد ناسخاً للنص القديم المتعارض معه وملغياً له هذا ما يجب اعماله في حالة التعارض واستحالة التطبيق بين النصين، ولا يتم اللجوء الى إعمال قاعدة الخاص والعام بإعتبار انه يتم اللجوء اليها عند تنظيم نص امراً بكلياته ويأتي نص ينظم مسألة فرعية يمكن شمولها في النص العام ففي مثل هذه الحالة يتم إعمال الخاص يفيد العام، وهي غير منطبقة على حالتنا هذه.
اما في حال ان كان النصان يغطيان ذات الحالة والواقعة وتم المعاقبة عليها في ذات القانونين فهذا لا يحتاج الى تفسير بل يعتبر هذا بمثابة تخبط في السياسة التشريعة الوطنية وعدم وضوح للرؤيا وغموض في السياسة العامة التشريعية، ويؤدي الى خلق مراكز قانونية متضاربة ويفقد التشريع أحدى ركائز ومقومات وجوده الاساسية وهي ضمان الحقوق والحريات، فكيف يلاحق اليوم شخص على فعل معين ويعاقب بعقوبة وفقاً لتشريع معين وبعد فترة بسيطة يلاحق عن ذات الفعل على نصوص قانون أخر يختلف في فلسفة العقوبات عن القانون الاول واجراءات محاكمة مختلفة كلياً، إن وجود مثل هذه الحالة يشكل إهداراً حقيقياً للضمانات الدستورية للحقوق والحريات بل ويعتبر تعدياً صارخاً على حقوق الافراد.
نجد أن هذا ما استشكل على البعض في أن هناك تعارضا بين قانون المطبوعات والنشر وقانون الجرائم الالكترونية متوهماً على انه يتم إعمال العام والخاص في مثل هذه الحالة، وفي حقيقة الامر نجد أن التعارض ظاهري لا اساس ولا وجود له وفي مثل هذه الحالة لا يتم إعمال طرق التفسير الداخلية وهي العام والخاص والاستنتاج بطريق القياس والاستنتاج من باب اولى أو الاستنتاج من مفهوم المخالفة، لأن الطرق الخارجية للقاعدة القانونية محل التفسير لم تتوحد ويتم اللجوء الى الطرق الداخلية عند وجود نصوص متعارضة أو غامضة في ذات التشريع.
اما عند نشوب غموض أو ابهام في بناء قانوني- قواعد قانونية مختلفة- قانونين مختلفين- فإن من المتوجب إعمال طرق التفسير الخارجية لإستظهار الحالة وإزالة الغموض والابهام وإجلاء للمعنى والغاية الحقيقية القابعة في جوهر النص لا ظاهره، وهذه الطرق الخارجية هي: اولا: حكمة التشريع « غاية التشريع» وهي ما يتم الاعراب عنها من خلال الأسباب الموجبة. لذلك،وعليه فإن الاسباب الموجبة لقانون الجرائم الالكترونية جاءت لحماية أمن المعلومات الوطني والقومي من الاعتداء والسرقة والعبث أو استخدام شبكة المعلومات في أفعال غير أخلاقية، والحفاظ على المعلومات الائتمانية وتمويل الاعمال الارهابية، اما قانون المطبوعات والنشر فإن الاسباب الموجبة له تكمن في تعزيز حرية الرأي والتعبير ولضمان عدم توقيف الصحفيين وتنظيم عمل المطبوعات الدورية وغيرها، وضمانات المحاكمة العادلة وعدم الاطالة فيها.
ثانيا: الأعمال التحضيرية: وهي مجموعة الأعمال التي تسبق صدور القانون وتتمثل في المذكرات التفسيرية للقانون والمذكرات الايضاحية التي تعد وترفق بمشروع القانون وأي مشروع قانون لتعديل قانون قائم، بالإضافة إلى كافة المناقشات ومحاضر جلسات البرلمان والتي تم فيها مناقشة نصوص وأحكام القانون بما في ذلك نقاشات ومحاضر اللجان الحكومية والمؤسسات التي ناقشت القانون. فمن خلال الاطلاع على تلك المذكرات والمحاضر والوثائق يستطيع القاضي معرفة القصد والغاية الحقيقية للمشرع من النص أو القانون ومن ثم معرفة معاني النصوص القانونية، وكما سلف فإن نظرة بسيطة للسيرة الذاتية لقانون الجرائم الالكترونية نجد بدون عناء أن فلسفة هذا القانون مغايرة تماماً لما ذهب اليه البعض كلياً وتختلف إختلافاً بيناً لا لبس فيه حيث أشرفت وزارة تكنولوجيا المعلومات على إنضاج وإخراج المسودة الاولى لمشروع القانون، وكان مجمل النقاشات يصب في حماية المعلومات الالكترونية،وعليه فإن كافة الاعمال التحضيرية للقانون تفيد بأنه جاء لتحقيق هذه الغاية، في حين أن غاية قانون المطبوعات والنشر واضحة لا لبس فيها ايضاً في التطبيق على الصحفيين والمواقع والصحف وهو القانون ذو المساس المباشر بحرية الرأي والتعبير.
امام كل هذه المعطيات يمكننا أن نجمل القول بأن قانون الجرائم الالكترونية يطال بالتجريم حالات وجرائم ويلاحق اشخاصاً لا يطالهم قانون المطبوعات والنشر والذي رسم الأطر العامة للتعامل مع الصحفيين والمواقع والصحف ونظم المحاكمات العادلة للصحفيين وآليات ترخيص المطبوعات بكافة انواعها، وأن اللبس والابهام الذي أستشكل على البعض هو تعارض ظاهري للنصوص لا حقيقي لها، وان إعمال قواعد التفسير الخارجي لكلا القانونين يوصلنا الى هذه الحقيقة دون عناء، وعليه فإنه لا يمكن بل من المستحيل ملاحقة كاتب صحفي أو كاتب مقال على المادة 11 من قانون الجرائم الالكترونية البته كون هذا الشخص كشف عن اسمه وهويته والصحيفة التي نشر فيها فهو يجاهر للعلن بما كتب ويهدف اصلاً الى اطلاع الجمهور عليه ولم يرتكب فعلاً أو جريمة الكترونية بالمعنى المراد من المادة 11 من القانون، وغير ذلك يعتبر انحرافاً في التفسير القانوني لمضمون النصوص التشريعية. هذا ناهيك عن حجم الدمار الذي يلحقه مثل هذا التطبيق بحقوق وحريات الافراد ويهدر ويعصف بالقواعد العامة وضماناتها والتي هي محل اجماع من قبل كافة النظريات القانونية فكيف لنا القول بثنائية النصوص التي تطبق على ذات الفعل، اليوم يتم تطبيق نص معين وغداً يتم تطبيق نص اخر على ذات الفعل، ولا يمكننا القول بإعمال قاعدة العام والخاص ايضاً، بإعتبار أن كل قانون ينظم حالة عقابية خاصة ومختلفة هيكلياً عن غيرها، فلا يوجد خاص ولا عام في مثل هذه الحالة.
الاردن كغيره من دول العالم إختبر خطر الجرائم الالكترونية في قدوم عدد من العصابات الى الشرق الاوسط والى الاردن تحديداً وتنفيذ العديد من الجرائم، وكان قدوم مثل هذه العصابات مبنياً على دراسات بأن الاطار القانوني في الاردن لا يعاقب على مثل هذه الجرائم وفي حال وجود بعض العقوبات تصنف بالبسيطة مقارنة مع نظيرتها في الدول الاخرى، وعليه تنبه المشرع وصار الى اقرار قانون الجرائم الالكترونية لتلافي الثغرات التشريعية. وعليه لا يجوز التوسع في التفسير او الخلط بين الغاية والسبب من نصوص التجريم في قانون الجرائم الالكترونية ونصوص التجريم في قانون المطبوعات والنشر.