ملاحظات وخواطر في التشريع الوضعي

08/09/2012

مركز الرأي للدراسات

اعداد : المحامي مصباح ذياب

ايلول 2012

تعتبر القوانين والأنظمة التشريعية ضوابط العلاقات البشرية في جميع المجالات والنواحي المختلفة في الحياة، وهي صمامات أمان لسلامة وانسجام الروابط الاجتماعية، وعلاج لكل قضايا الناس، وضرورة لازمة لتصويب السلوك الانساني، وتوطيد الأمن الاجتماعي، وركائز وقاية وحماية من كل المخاطر التي تهدد الحياة.

ومن وحي هذه القواعد والمفاهيم كان الالتزام باحترام ومراعاة هذه التشريعات ضرورة وواجباً، وكان التقيد بها باحساس ذاتي وعفوي مظهراً للسلوك الحضاري، والرقي الفكري والأخلاقي.

ولما كان تيسير العلم بالتشريعات من واجبات الدولة التي تتولى نشرها بالجريدة الرسمية، وتمهّد لها بأجهزة ووسائل الاعلام المعروفة لإطلاع المواطنين عليها، لم يبق مجال للتذرع بعدم العلم بها، ومن هنا انبثقت منذ قديم الزمان القاعدة الشهيرة في نطاق المسؤولية بصورة عامة القائلة بأن « الجهل بالقانون لا يعتبر عذراً «.

وإذا كانت الغالبية من أفراد المجتمع غير ملّمة بالجريدة الرسمية فهذا قصور وتفريط، إذ أن الاعتياد على الاطلاع عليها يحقق مزايا وفوائد جمة أهمها تأمين ثقافة قانونية والاحاطة بأعمال أجهزة الدولة ومؤسساتها المختلفة وما يصدر عنها من تعليمات وبلاغات ذات أهمية بالنسبة للإلمام بها.

وهنا تجدر الاشارة والتعليق على القاعدة الفقهية المتعلقة بعدم التذرع بجهل القانون للتحلل من المسؤولية، ذلك أنه لا يمكن الأخذ بهذه القاعدة على إطلاقها، إذ أن تطبيقها منوط باستقرار التشريع أو بافتراض ذلك ولو نسبياً، لأنه عندما يتحقق استقرار التشريع وتداوله مدة زمنية كافية يغدو معلوماً ومألوفاً لدى قطاع عريض من المجتمع، ويتحول إلى قواعد ومفاهيم عامة وأعراف متداولة راسخة ومستقرة، وبذلك فإن استقراره شرط لاستيعابه والاحاطة به.

ومما يميز التشريع في عصرنا الحاضر عنه في العصور القديمة ذات الحضارات حيث كان فيها التشريع مفاهيم ومبادئ عامة مألوفة ومستقرة، بينما في هذا العصر فقد تميّز بزخم في التشريع وسرعة في التبدلات والتعديلات التشريعية وسط طوفان من التشريعات وأصبحت معضلة رجل القانون تكمن في البحث عن القانون النافذ وسط هذا الخضم الهائل.

صحيح أن المجتمعات النامية في تحول مستمر وأن طابع العصر السرعة لكن ذلك لا يبرر التسرع إلى هذه الدرجة التي يبدو فيها التشريع مرتجلاً بسبب تبدلاته وتعدد تعديلاته في أوقات متقاربة، وبصورة مزاجية وقد كانت هذه الظاهرة مصاحبة لكل تشكيل حكومي جديد مما ساهم في عدم استقرار التشريع.

إن التشريع في حد ذاته فن وإبداع ويتطلب مقدرة وتعمق في علوم اللغة من ألفاظ ومعان ونحو وقواعد وبلاغة، ثم ثقافة عامة وخبرة واسعة ودراسة مقارنة للتشريعات في الدول المتقدمة.

ومتى توفرت للتشريع عناصر الابداع وقوة الحجة وسلامة المنطق وجمال الصياغة غدا سريع الاستيعاب والفهم والحفظ والصمود في التطبيق والاستقرار.

وبعكس ذلك فإن الارتجال بالتشريع وافتقاره إلى المقومات الأساسية له يصبح والحالة هذه غير قابل للحياة فيأخذ المشرع في ترميمه من خلال سلسلة التعديلات والتبدلات مما يفقد التشريع جلاله وهيبته ويصبح هدفاً لانتقاده والتمرد عليه.

* * *

القوانين المؤقتة، التي كان يضعها مجلس الوزراء بموجب نص المادة 94 من الدستور قبل تعديلها الأخير عندما يكون مجلس الأمة غير منعقد أو منحلاً كانت خلال بضعة عقود من الزمن هي المنطلق والأساس في اصدار التشريعات ولم يكن معظمها في اعتقادي دستورياً حيث صدرت قرارات لمحكمة العدل العليا بهذا الخصوص، وقد أحدثت إرباكاً وخلطاً في التشريعات عموماً بسبب الاسهاب والافراط في إصدارها، وكان تطبيقها يمتد لسنوات طويلة وتثير الشكوك والحيرة حول بقائها مؤقتة أو تحولها إلى دائمية، وعلى سبيل المثال فإن القانون المدني الأردني رقم 43 لسنة 1976 قد صدر كقانون مؤقت واستمر تطبيقه بهذه الصفة مدة عشرين سنة كاملة حيث أصبح قانوناً دائمياً بتاريخ 16/ 3/ 1996.

ولديّ أمثلة عديدة على قوانين مؤقتة لا تزال كذلك رغم مرور حوالي عشر سنوات عليها.

ومن جهة أخرى عندما صدر قانون إدارة قضايا الدولة رقم 14 لسنة 2010 وهو قانون مؤقت قد ألغى قانون دعاوى الحكومة رقم 25 لسنة 1958 الذي كان بموجبه تتولى دائرة المحامي العام المدني دعاوى الحكومة الحقوقية حيث جرى إلغاء جهاز هذه الدائرة وتوزيعه على المحاكم.

وعندما رفض مجلس الأمة القانون المؤقت لإدارة قضايا الدولة وأعلن بطلانه بتاريخ 16 /5/ 2011 بُعثت الحياة من جديد لدائرة المحامي العام المدني.

هذا غيض من فيض من مساوئ القوانين المؤقتة، ولا شك أن التعديلات الدستورية الأخيرة التي صدرت في العام الماضي قد وضعت الأمور في نصابها وقضت على فوضى نزعة القوانين المؤقتة وكبح جماح السلطات التنفيذية في هذا الخصوص بأن يقتصر وضع القوانين المؤقتة عندما يكون مجلس النواب منحلاً فقط وفي ثلاثة أمور وهي:- الكوارث العامة، وحالة الحرب والطوارئ، وفي الحاجة إلى نفقات ضرورية ومستعجلة لا تحتمل التأخير عملاً بالمادة 94 المعدلة من الدستور.

* * *

بقيت ملاحظة تتعلق بذكر وسائل الحد من الافراط بالتشريع أو اختصاره في ضوء ما سبقت الاشارة إليه من وجود زخم واسهاب في التشريع لدينا، وهي ظاهرة لمستها عملياً بنفسي من خلال متابعتي المستمرة منذ سنوات بعيدة، وجمعي للتشريعات من منابعها الأصلية من الجريدة الرسمية حتى بلغت حوالي أربعين مجلداً.

فمن هذه الوسائل توحيد التشريعات المتماثلة، ومثال ذلك ما جرى عام 1977 في توحيد علاوات الموظفين عموماً بنظام موحد للعلاوات حل محل ثلاثين نظاماً كانت قائمة قبل صدور النظام الموحد.

وعلى هذا النمط يمكن سلوك نفس الاجراء لدى المؤسسات العامة المتعددة ذات الاستقلال المالي والاداري والتي لها جملة أنظمة متماثلة في شؤون موظفيها ومستخدميها ولوازمها ومقاولاتها وغيرها وذلك بايجاد أنظمة موحدة لجميع هذه المؤسسات، وفي هذا الخصوص فإن الجامعات الرسمية هي أولى من غيرها مستوجبة للتوحد في تشريعاتها، وكان وزير سابق للتعليم العالي قد صرح بأن النية تتجه لتوحيد قوانين للجامعات، ومع أنه صدر قانون عام للجامعات برقم 20 لسنة 2009 الا أنه أبقى على القانون الخاص لكل جامعة وعلى جميع أنظمتها وتعليماتها وبقي لكل جامعة مجلدها الخاص من التشريعات ولم يتحقق مشروع التوحيد.

ونفس القول وارد بالنسبة لأنظمة البلديات جميعها التي يمكن تطبيق عليها مبدأ التوحد في التشريعات بسبب التماثل والقواسم المشتركة بينها في جميع النواحي.