روسيا من الداخل والحدث السوري

17/10/2012

مركز الرأي للدراسات

اعداد: د. حسام العتوم

تشرين اول 2012

أثناء وجودي في روسيا هذا الصيف كنت أقرأ كتاباً بعنوان (بين الماضي والحاضر) لوزير خارجية روسيا سيرجي ايفانوف باللغة الروسية يتحدث فيه عن تطور الدولة الروسية، وعن دورها الدبلوماسي وسط عالم متغير، ويطرح سؤالاً عريضاً مفاده روسيا إلى أين؟

وبين الكلام الرسمي والدبلوماسي والحديث عن مواصلة بناء روسيا عظيمة في الداخل والخارج كانت عيوني ترتحل داخل بعض المدن الروسية مثل (موسكو) العاصمة و(فارونيج) مدينة المليون إنسان و(روسوش) المدينة الصامتة و(ستاري اسكول) المدينة النظيفة وما بينهم من قرى وادعة مترامية الأطراف، وسبق لي أن زرت مدينة (ليننغراد- سانت بطرس بيرغ) لاسجل في مدونتي ملاحظات أذكرها هنا بالتتابع وهي؛ أن التحول الروسي من السوفياتي يسير بنفس الطريقة المركزية في إدارة البلاد الروسية الواسعة التي تزيد مساحتها على أكثر من17 مليون كم2، بينما كانت مساحة الاتحاد السوفياتي (سابقاً) المتكون من 15 جمهورية في ذلك الوقت تبلغ 22 مليون كم2، وكانت موسكو وما زالت تستأثر بخيرات البلاد السوفياتية الواسعة وتزداد الأبنية الضخمة فيها، وتسيطر على رأس المال الروسي بالمجمل وعلى إنتاج باقي المدن الروسية المحتاجة أصلاً لبنية تحتية أقوى وبنسبة مئوية تصل إلى 80% ، في حين أن المطلوب هو اعتماد نهج الإدارة المركزية واللامركزية معاً لسد فجوة البناء بين العاصمة والمدن الروسية الأخرى، ومع هذا فأزمة السير في شوارع العاصمة خانقة خاصة يوم الجمعة باتجاه المطارات الكبيرة مثل (شيرميتوفا وديموديدوفا)، حيث يتوجه المواطنون الروس إلى مزارعهم لقضاء عطلة السبت والأحد، وما زالت الإسكانات الروسية والتي هي سوفييتية الأصل شاهقة وبلا مصاعد أو بمصاعد قديمة مرعبة، ومن دون أماكن اصطفاف للسيارات وإن وجدت فهي سفلية في الغالب، وما زالت عملية نقل الركاب من مطاراتها الرئيسية تجاه وسط العاصمة تتعرض للسوق السوداء وتعرض حياة الركاب لخطر متوقع ناجم عن خلل في الرقابة الأمنية على ما يبدو، كما أن مستوى تعبيد الطرق في المدن الكبيرة عالٍ، في المقابل يتراجع مستواها في المدن الصغيرة وكلما ابتعدنا عن العاصمة كما تتزايد مساحات واسعة من الشوارع الترابية المفتوحة غير المعبدة منذ زمن الاتحاد السوفياتي وحتى يومنا هذا، وأكبر مثال هو مدينة (بودغورنية) القريبة من موسكو التي تبدو مرعبة بشوارعها الترابية وكأنها خارجة للتو من الحرب العالمية الثانية بحسب تعبير الناس هناك، ورغم ملاحظة الأبنية الجديدة المتمثلة في القصور الرياضية والشبابية وغيرها إلا أن العديد من المصانع متوقفة ومن جهة أخرى منسوب تعاطي المخدرات من وجهة نظر بعض الأطباء الروس أمثال البروفيسور الجراح (كبايف) في ازدياد حتى أنه وصل إلى المدارس، وأخطر أنواعه المتداولة هي الصناعية Sentetika ، التي لا تبقي متعاطيها أكثر من ستة شهور على قيد الحياة، وفي الوقت الذي يعلو فيه بناء الأولمبياد في مدينة (سوجي) الواقعة على البحر الأسود ليكون جاهزاً عام 2014 تتسرب المعلومات إلى الناس أن ما تم رصده من مال يصل إلى حوالي 14 مليار دولار لا يكفي لتجهيز المدينة الأولمبية هذه ويتساءلون لماذا؟ وفي المقابل تدني الراتب الحكومي يدفع المواطن للهروب نحو القطاع الخاص هذا إن تمكن من ذلك، أو إلى سرقة موقعه الوظيفي وعلى طريقته الخاصة مع عدم اعتباره ذلك فساداً ما دام الكبار يقومون بذلك أيضاً.

كما أية دولة شمولية ونامية على خارطة الأرض فإن الإعلام الروسي بجناحيه الرسمي الحكومي والخاص مسيطر عليه من قبل جهاز الأمن الروسي FC.B وهو إعلام في طبيعته مرعوب، ويمارس مهنته بشكل روتيني، ويميل للمدح والدعاية الإعلامية الرسمية، ويعتبر النقد من المحرمات المهنية، إلا ما ندر كصحيفة (فارونيج) الأسبوعية مثلاً، رغم أن النقد وحسب العرف الصحفي والإعلامي العالمي هو القادر على البناء، ومع هذا توجد محطات فضائية محافظة يمكن متابعتها مثل القناة رقم (1) ورقم (24)، وروسيا اليوم بالعربية، وكثيراً ما تجد أن رئيس التحرير عبارة عن مندوب للدولة وحارس أمين لها، ففي لقاء لي مع رئيس تحرير جريدة (كمونة) الروسية اليومية فيكتور رودينكا بتاريخ 10/9/2012 أوضح لي بأن الخطوط الحمر أمام حرية الصحافة موجودة، وهي مختزلة في شخصين مثل بوتين وميدفيديف بالدرجة الأولى وبشخصية محافظ مدينة فارونيج أيضاً، وقس على ذلك في باقي المحافظات، ولاحظت عدم إمكانية هذه الصحفية بالذات الكتابة عن سيدة طاعنة في السن تجلس على مقربة منها وتتسول، وفي المقابل شبكة الانترنت التي يعتقد هناك أن أمريكا مسيطرة عليها منذ عهد بوريس يلتسن عام 1993 ما زالت بطيئة والهاتف الجوال لا يصنع محلياً وإنما يستورد، والرقابة سابقة وحالية ولاحقة على كامل شبكة الاتصال، وكل هذا يؤشر على رغبة الساسة الروس في إبقاء العيوب السياسية والاقتصادية في مكانها حتى لا تتحول إلى ثورة، إلى جانب هذا إذا كانت السلطة في روسيا في العهد السوفياتي اعتلتها رموزاً متتابعة من دون انتخابات بل فقط حسب أقدميه العمر، فإن السلطة الآن يعتليها شخصان هما بوتين وميدفيديف اللذان ما زالا في عمر الشباب ولديهما القدرة على العطاء لسنوات طويلة قادمة، ورغم احترامهما للمعارضة بقيادة الحزب الشيوعي البالغ تعداده مليون إنسان ورغم حضوره القوي في البرلمان وحصوله على المرتبة الثانية في الانتخابات الرئاسية الأخيرة في شهر آذار 2012 إلا أنهما يرفضان تمثيله في الحكومة، فوجوده في باقي مفاصل الدولة نادر، ومن يعارض في الشارع ويتظاهر يواجه ردة فعل قاسية من الدرك الروسي (Ammontsy)، ومن ينظم تظاهرة أو يدعو إليها تفرض عليه الدولة كفالة وغرامة مالية تصل إلى مليون روبل روسي (إذا ما أخذ بعين الاعتبار أن الدولار الأمريكي يعادل 32 روبل روسي).

صورة الإنسان الروسي ووضعه الداخلي الصعب في الغالب لا تجعله يتابع أخبار العالم الخارجي بجدية وهو مشغول بارتفاع أسعار المحروقات في بلده رغم أنها تنتجه وتصنعه محلياً، وشرطة السير تفرض نظاماً صارماً على سائقي السيارات وتمنعهم من تعاطي الكحول أو حتى الاقتراب منه أثناء القيادة وتهددهم بسحب الرخص، ففي كل سيارة خاصة تجد جهازاً لكشف الرادار الذي يمكن شراؤه بسهولة خوفاً من المخالفات عالية الثمن، فضلاً عن الصناعات الصينية منحدرة المستوى التي تغزو أسواقهم الشعبية وهي موجهة للطبقة الفقيرة ذات الشريحة الواسعة والتي تقدر بـ 70 % من عدد السكان، والصينيون في أقصى شرق روسيا يتقاطرون للسكن هناك من أجل التجارة والزواج، حتى أنهم يتزوجون من بعضهم البعض ويحصلون على جواز السفر الروسي وهو ما يزعج السكان ويزرع القلق بينهم خوفاً على مستقبل أجيالهم وبلادهم، وكبار السن من السوفياتيين هم الذين يتمسكون بزراعة الأرض وجمع الحصاد فيها، بينما الشباب منشغلون في الأعمال التجارية الصغيرة والبحث عن أماكن الراحة واللهو وسط ارتفاع ملاحظ على الأسعار.

لا أحد يستطيع أن ينكر أن روسيا دولة عملاقة ولها علاقات واسعة ومتشعبة على خارطة العالم، لكن ما يهمنا هنا هو حضورها الجديد غير المسبوق وسط الشرق الأوسط وتحديداً وسط العرب داخل الأزمة السورية، فما هو الجديد في هذا المجال؟ المراقبون السياسيون لاحظوا كيف وقفت روسيا ضد اجتياح الناتو بقيادة أمريكا للعراق عام 2003، ومن ثم لليبيا عام 2011، بعد أحداث تونس ومصر بالتزامن مع أحداث اليمن والبحرين، لكنها في الحدث السوري رمت بكل ثقلها السياسي والعسكري في البحر السوري وفي عاصمته، وتمكنت من توقيف قطار الربيع العربي والشرق أوسطي في دمشق بقترة طويلة من الزمن قبل أن يواصل مسيره تجاه إيران، كونها هدف الصهيونية القادم بسبب مشروعها النووي العسكري الغامض، وتمكنت من إقناع الصين لكي ترمي بشباكها السياسي أيضاً في المياه السورية الدافئة بحكم العلاقة الاقتصادية والعسكرية بينهما إذ أن (95 % من السلاح الصيني روسي)، ولم تكن بحاجة لإقناع إيران وحزب الله وجيش المهدي العراقي بسبب تلاحم المصير مع سوريا ضد سياسة الاحتلال الإسرائيلي، وبدأت تتحرك لتتحسس مواقف دول الجوار السوري (تركيا، لبنان، الأردن، العراق، فلسطين، إسرائيل) وتراقب الانقسام العربي تجاه سوريا وثورتها الشعبية المعارضة، والتدخل القطري -السعودي، ودخول المرتزقة من خارج الحدود تحت مظلة القاعدة وغيرها من الحركات الراديكالية المتشددة والمتطرفة، وللوهلة الأولى بدت روسيا وكأنها تقف إلى جانب الرئيس بشار الأسد ونظامه السياسي البعثي الذي يتأرجح بين الثبات والانهيار، وبدت وكأنها تقف ضد شعب سوريا الجريح وجناحه المعارض السياسي منه والعسكري، لكن موقفها بدأ يتضح أكثر من خلال تصريحات الخارجية الروسية بقيادة لافروف للحوار بين السلطة والمعارضة، والتمسك بخيار السلام الداخلي، وإيقاف العنف من الجانبين، وعدم السماح لأي تدخل خارجي من طرف الناتو عبر قوة قراراتها للفيتو الثلاثة المتلاحقة المدعومة بقرارات صينية مثلها، الأمر الذي استطاعت به أن تسقط انسحاب الخيار الليبي على سوريا، وها هي الآن مجدداً مع وقف العنف من جانبي السلطة والمعارضة ومع الحوار ومع نقل السلطة بشكل سلمي إلى نائب الرئيس السوري فاروق الشرع، للشروع لاحقاً بإجراء انتخابات برلمانية ورئاسية نزيهة، وفي الوقت الذي حمل فيه الحدث السوري أسبابا إصلاحية نجد أن السبب الرئيس عند الروس بالذات هو جيواقتصادي وسياسي استراتيجي له علاقة بمشروع قطر لتمرير الغاز عبر الأراضي السورية إلى أوروبا و بالتالي منافسة روسيا وهو ما لا تسمح به الأخيرة، وهي جاهزة لنقل السلطة سلمياً من أجل هذا على الأقل لشخصية موالية لروسيا من السوريين أنفسهم، وأسطولها العسكري الذي يرابط في طرطوس المدجج بالقوات الخاصة (Spetsnaz) صار يشبه سفينة (افرورا) التي أطلقت الإشارة الأولى للانقضاض على النظام القيصري من أجل بدء الثورة البلشفية عام 1917، وفي المقابل فإن للحرب الباردة السرية بين روسيا وأميركا أو بالعكس حساباتها في المعادلة السورية، والروس متمسكون بسيادات الدول عبر الأمم المتحدة ومنها سوريا، وبتطبيق القانون الدولي ومنه الإنساني بالمقارنة مع أميركا التي تفضل ممارسة شريعة الغاب كلما سنحت الفرصة لها بذلك وهو ما رأيناه في العراق عندما سلمت السلطة لإيران، و بالمقابل روسيا لا تمارس الحروب خارج حدودها إذا لم يتطاول على سيادتها أحد وتحرص على إقامة علاقات متوازنة مع دول العالم وتوقيع عقود تجارية معها، ووقفت مع منع الفيلم المسيء للإسلام مؤخراً، وهنا أنا لست مع تصعيد الحرب الباردة وأقف مع الحوار الروسي الأميركي وعلى كافة الأصعدة ومنها العسكرية الخاصة بشبكة الصواريخ الأميركية المتمركزة في أوروبا لينتهي التشنج العالمي ما أمكن، فما يصرفه العالم على السلاح والذي بلغ عام 2011 حسب الكتاب السنوي لمعهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام حوالي1.47 تريليون دولار أي ما يعادل 3 % من الدخل القومي العالمي، وهو ما يكفي لمعالجة مشكلة الفقر على خارطة العالم التي يقارب رقمها 3 مليارات إنسان عندما كان عدد سكان العالم 6 مليار بينما هو الآن 7 مليار نسمة، فمن يقرع جرس السلام بين الدول العملاقة لننعم نحن في شرقنا الأوسط بالسلام الدائم والعادل؟