السطو على العقل العربي.. اكذوبة التنوير الجامعي

24/11/2011

مركز الرأي للدراسات

اعداد : أ.د. طالب ابو شرار

22/11/2011

ربما لا أدعي المفاجأة بما أراه هنا في رحاب هذه الجامعة الأمريكية التي تحتضنني مدة عام هي مدة تفرغي العلمي من جامعتي الأم-الجامعة الأردنية التي لولاها لتعذر علي القيام بهذه المغامرة العلمية. أجل لا أدعي المفاجأة بما أراه فأنا خريج جامعة كاليفورنيا وقد اعتدت على الدراسة والبحث تحت ضغوط جعلتني أرى نجوم الضحى كما يقول المثل العربي. إذن هي مغامرة علمية ربما أخيرة وهي تستدعي العودة الى المختبر والتدرب على استعمال أجهزة وتقنيات بحثية جديدة ربما هي أنسب لمن هم في عمر الشباب وليس لمن هم على شاكلتي ممن انتهوا الى مرحلة الختام الأكاديمي فالإنجازات العلمية الكبرى قد تجاوزها العمر... أجل مرة أخرى فالذي كان بامكاني فعله قمت به فعلا لكني عندما شمرت عن ساعدي رغبت في انجاز عمل علمي لا أسعى من ورائه الى نشر أوراق علمية على عجل بل هو الفضول العلمي الذي تدمن عليه إن كنت باحثا أكاديميا أصيلا ولا يمكنك الإنعتاق من أسره حتى وانت تصارع من أجل أيام إضافية يخفق فيها قلبك وتتناغم فيها أنفاسك...

عندما عرضت على زميلي الأستاذ في هذه الجامعة موضوع البحث المشترك أبدى حماسة ورغبة في المشاركة به مما شجعني على ولوج هذه البوابة المحفوفة بالعناء وعواطف الإبتعاد عن الأهل والأصدقاء. جئت الى هذه الديار الصقيعة لأكتشف منذ اليوم الأول أنني أستطيع أن أقف على قدمي كأي باحث شاب... كانت أمور التحاقي بالجامعة قد استكملت قبل حضوري. وأخيرا عندما وصلت الجامعة ذهبت مع زميلي للحصول على بطاقة هوية خاصة بأعضاء هيئة التدريس وأنجزنا سويا أمورا تنظيمية وادارية عديدة كان أهمها استلامي ثلاثة مفاتيح: أولها مفتاح بوابة مبنى القسم وثانيها مفتاح المختبر وثالثها مفتاح مكتبي... كان المكتب مجهزا بكمبيوتر وكنت قد استحصلت مسبقا على رقم حساب جامعي وكلمة سر يمكنناني من الدخول الى بنى الجامعة التحتية خاصة المكتبة الإلكترونية التي لا تخذلك في أي مسعى للإطلاع على كل جديد في عالم المعرفة..

عندما ذهبت مع زميل آخر لشراء خط تليفون خلوي طلب الموظف وثيقتي تعريف بشخصي فقدمت له بطاقة الجامعة الشخصية واعتذرت عن عدم تيسر بطاقة أخرى فسألني الموظف إن كنت أملك رخصة سائق (لاحظوا الفارق في المعنى بين سائق وسواقة كما نفعل في بلادنا) فاعتذرت بسبب حداثة اقامتي في تلك الولاية. هنا سألني الموظف إن كنت أملك رخصة سائق من ولاية أخرى فأجبته بالإيجاب وأردفت: لكنها منتهية الصلاحية! عقب الموظف بقوله هذا لايهم المهم هي وثيقة رسمية تعرف بشخصك لكنها لاتجيز لك القيادة... أخرجت من محفظتي رخصة سائق من كاليفورنيا كان قد مر على انتهاء صلاحيتها أكثر من ربع قرن... أخذها الموظف ودون ما يحتاجه من معلومات ثم أعادها لي. أنا هنا لا أريد أن أستطرد في وصف مفارقات بين مجتمعين كما فعل عبدالرحمن الجبرتي في بداية القرن التاسع عشر عندما أبدى دهشته من عربة النقل الشائعة الإستعمال في وقتنا الراهن لكنها كانت أعجوبة بالنسبة له عندما تحدث عنها بقوله: ومن عجائب أمور الفرنسيس أن العسكري منهم يدفع عربة تجري على عجلة واحدة ينوء أربعة أو خمسة عمال مصريين عن تقاسم حملها!

والأن قد يتساءل بعض قارئي هذه المقالة عما أرمي اليه من هذه المقدمة التي تبدو عرضا لتجربة شخصية غير ذات علاقة بالعنوان... لكن مهلا أليس كل نشاط انساني هو ترجمة لمخاض ذهني يسبقه؟ أليس حديث موظف الهاتف هو حديث فريد وغريب عن مجتمعنا؟ تصوروا لو أن الموقف كان في عمان وقدمت للموظف جواز سفر انتهت صلاحيته (لاحظوا كلمة صلاحية) يوم أمس؟ هل يمكن للموظف أن يجادل بأن هذه الوثيقة تعرف بشخصك وأنت ستظل أنت قبل وبعد انتهاء صلاحية الوثيقة، ما ينتهي هو الصلاحية التي تجيزها لك الوثيقة وليس أصالة Authenticity الوثيقة.

جمود العقل العربي

يا الهي كم هو عميق وبسيط في آن معا هذا المنطق! وبنفس السوية السابقة يمكنني استعراض نماذج لا محدودة تبين خمول وجمود العقل العربي... هذا العقل الذي تميز في مرحلة من الزمان الغابر بأنه العقل التحليلي الريادي، ألم يقل المقريزي رحمه الله: واعلم أن الرؤية لا تتأتى بتقليب الحدقة؟! ألسنا في أيامنا الراهنة نقلب حدقاتنا فلا ينطبع في أدمغتنا ما هو أبعد من رؤى فيزيائية مجردة... أليس التخيل هو أعز ما نملك كبشر؟ لماذا لم نعد قادرين على التخيل؟ لماذا نرضي بمنطق رؤية الدجاجة؟ ألا تنشر صحافتنا بل وتتبنى منطق بعض طلبة الثانوية العامة: لقد جاءت الأسئلة من خارج المادة! بمعنى آخر نحن نتفق مع منطق الطلبة بأن المهارات التي يفترض أن نمتحن بها طلبتنا لا يجب أن تتجاوز مرحلة الإستفراغ المعرفي! بمعنى آخر، يحظر التفكير في مهارات يفترض أن ينميها الطالب من مهارات المادة العلمية أي نحن لا نؤمن باستيلاد المعرفة التي انتهى اليها جاليليو جاليلي منذ عصر النهضة الأوروبية. وبناء على ما تقدم، نحن نرفض أن نوجه لطالب الثانوية أو غيره بالطبع سؤالا يختبر قدرته على بناء معارف جديدة! ولأن هذه هي عقليتنا، فإننا قد نتوقع في المستقبل القريب نجاح طلبة في الثانوية العامة ليس بمعدل 100% بل ربما بأكثر من ذلك؟

يلتحق بالجامعات طلبة المعدلات المرتفعة في الثانوية فلا يعمد الأساتذة الى تنمية مهارات التحليل والإستقراء بل يكرسون لديهم حس التلقين والحفظ الببغائي لمقولات عفى عليها الزمن: هنالك العديد من المواد العلمية التي ندرسها لطلبتنا وهي مواد يمكن وصفها بأنها توثيق لتاريخ المعرفة وليست تفاعلا مع واقع المعرفة... هي مذكرات صفراء تلقينية لا يجد كثير من الطلبة مبررا لحضور محاضراتها لأن نسخة عن محاضرات سنة سابقة، مهما بعدت بها الشقة، كفيلة بتوفير كل العلم الرصين لقارئها. من أجل ذلك تشترط جامعاتنا العتيدة حضور حد أدنى من المحاضرات للتقدم للإمتحان النهائي وهو نشاط يستغرق على الأقل عشر دقائق من وقت المحاضرة تذهب في كل لقاء سدى... يلخص ما سبق نمطا جديدا من استلاب العقل العربي تقوم به هذه المرة مؤسسات البناء الذهني والمعرفي. أجل مؤسسات البناء الذهني ثم المعرفي لأننا في مجالسنا الأنيقة نتحدث عن انقطاع أجر الإنسان بعد وفاته الا من العلم الذي ينفع ونتحدث أيضا عن ضرورة تعليم المحتاجين مهارات صيد السمك عوضا عن تقديم الأسماك ذاتها... هنا أريد تذكيركم بمقولة فيلسوف الصين العظيم كون-فو-شيوس: أسمع وأنسى وأرى وأتذكر وأعمل وأفهم؟ فأسأل: كم مادة ندرسها لطلبتنا وتشمل واجبات منزلية نطلب فيها الى الطالب حل مسائل رقمية ترسخ في ذهنه القيمة العملية للمعرفة التي يتعلمها؟ أقول لكم راجعوا مقررات مواد الرياضيات في العديد من جامعاتنا لتكتشفوا أننا حولنا

علم الإستقراء والتحليل الذهني الى موشحات أندلسية؟ خلال دراستي الجامعية لم تكن هناك مادة واحدة خلوا من المسائل الرقمية!

مسكين هو العقل العربي وكأن كل ما يتكالب عليه من مؤسسات الوصاية والتلقين الأبوي الحكومي والمجتمعي والتاريخي لا تفي بتصفير ذاكرته الإنسانية من كل المهارات التحليلية بل هناك حاجة اضافية للمزيد من هذا الفعل التدميري يقوم به هذه المرة رجل الأمن الذي يفترض به حماية هذا العقل من الإستلاب فإذا به يشارك وبمنتهى الفعالية في عملية السطو بل يتربع على قمة الهرم التخريبي... وبعيدا عن تشخيص الأسباب التي أنحدرت بجامعاتنا الى هذا الدرك، والتي هي معروفة ومشخصة جيدا من قبل العديد من الزملاء. ربما يكون العامل الحاسم في هذا الصدد هو الإنحطاط بشروط قبول الطلبة وبشروط تعيين أعضاء هيئة التدريس على حد سواء. بمعنى آخر، فان بؤس طرفي المعادلة الإنسانيين هو العامل الفيصل في كل ما يتبعه من تداعيات ذات أبعاد بنيوية مادية كالمباني والتجهيزات المختلفة... تخيلوا مناخا ماديا مثاليا لكن حشوته البشرية من الطلبة والأساتذة هزيلة جدا، هل ستنتج هذه الحالة خريجين من نوعية ممتازة، أعتقد أن الإجابة على هذا السؤال غير الإفتراضي متوفرة في نماذج من حولنا.

لكن ومن جهة أخرى، دعونا نتخيل النقيض... أساتذة وطلبة من المستوى الرفيع لكنهم محرومون من وفرة البنى التحتية؟ أعتقد أن منتج هذه الحالة سيكون أفضل بكثير من الحالة السابقة! وللدلالة على ما أقول دعونا نستذكر الأيام الخوالي من عمر الجامعة الأردنية أو الجامعات المصرية والسورية والعراقية لنكتشف أنها رفدت سوق العمل بنخب من الخريجيين الذين لم يتمتعوا بوفرة البنى التحتية بالمستوى المنسجم مع رقي معارفهم؟! كان محمد لاشين، رحمه الله، أستاذ الكيمياء الفيزيائية في جامعة الإسكندرية في الستينات من القرن المنصرم يقول لنا: الغزالة الشاطرة تغزل برجل الحمار! أجل الغزالة الشاطرة ليست بحاجة الى نول متطور لتتقن عملها! الى ماذا يقودنا كل هذا الجدل؟ ألا يعني ذلك أننا بحاجة الى مراجعة شاملة لكل أسباب تدهور العملية التعليمية ليس لأننا فقط حريصون على مصالح أبنائنا الخريجين بل لأننا حريصون على حماية مستقبل مجتمعنا من الإندثار... تبين لنا تجارب الأمم المتقدمة أن لامجال للتقدم بدون العلم وعند افتقاد التقدم فإننا سندخل في حالة تراجع أو حالة جمود في أحسن الأحوال. والحالتان كلتاهما هما نماذج من حالات البؤس المجتمعي التي لا نتمناها لأنفسنا. لابد في هذا المقام من وقف عملية التدهور الجامعي. هنا لابد من التذكير أن وقف مركبة تنحدر من عل هي عملية صعبة للغاية وتزداد صعوبتها بمرور الوقت لتسارعها المتزايد. ولتحقيق هذه الخطوة البسيطة والمعقدة في آن واحد يجب وقف التنافس الهزيل بين الجامعات الأردنية على استقطاب الطلبة بأي ثمن. التنافس البناء مقبول لأنه يعزز من سوية الخريج. دعونا نتخيل جامعات تشترط معدلات مرتفعة في الثانوية العامة تعقبها مقابلات شخصية يسأل فيها المتقدم أسئلة متنوعة بدءا من هواياته وانتهاء بأحلامه بعد التخرج.

قطاع التعليم الجامعي الخاص

الجامعات المرموقة هي الجامعات التي تقبل نسبة ضئيلة من مجموع المتقدمين! لكن هل حال جامعاتنا العتيدة قريب مما سبق؟ دعوني أذكركم بأن بعض المستثمرين في قطاع التعليم الجامعي الخاص لم يألوا جهدا في المطالبة بضرورة الإنحدار بمعدل الثانوية العامة الى مستوى الخمسين للقبول في برامج البكالوريوس؟ هم أيضا يجادلون بضرورة أن لا يذهب طلبتنا الى الخارج للدراسة؟ قولوا لي بالله عليكم ماذا سيتعلم الطالب إضافة الى تاريخ المعرفة في جامعة خاصة منزوية في مكان مهجور؟ ألا يركز الطالب محاضراته في أوقات محدودة كي يقلص من وقت اقامته في الجامعة العتيدة ومن أجوائها التي لا تعترف ببرد الشتاء أو قيظ الصيف؟ ليت الأمر توقف عند حدود برامج البكالوريوس؟ ها هو يتخطاه الى ما نطلق عليه برامج الدراسات العليا: أسألوا طلبة تلك البرامج عن التقدم المعرفي الذي يتلقونه في المواد التي يدرسونها؟ ألم يصبح من الممكن لكل خريج جامعي أن يلتحق ببرنامج الماجستير الذي يخصه وربما سيأتى يوم قريب يصبح بامكان غير الخريجيين ممن جلسوا فقط على مقاعد الدراسة أن يلتحقوا بتلك البرامج المتقدمة؟ أليس المهم هنا هو الحؤول دون افلاس شركات التعليم الخاص؟ ليس المهم هو الطرف الآخر من المعادلة: سوية التعليم ونوعية الخريج؟ ألم نزل نتعامل مع عملية التعليم وكأنها نشاط يؤدي الى رفد أجهزة الدولة البيروقراطية بالكتبة وبالمدراء؟ من سيبني مجتمعاتنا؟ إن لم يكن خريجوهذه الجامعات فمن سيكونون إذن؟ هل من الممكن أن نحيل صناعة المستقبل الى أشخاص يتعاملون مع عملية البناء الذهني الإنساني من منظور العمل التجاري؟ إذهبوا الى الجامعات، كل الجامعات، وانظروا كيف يختلط الحابل بالنابل؟ كيف تتيه الكفاءات الحقيقية ويصعد الى السطح شريحة من فئة الكتبة البيروقراطيين؟ لماذا هي وظائف مرغوبة؟ لماذا يتدافع كل ذي حلم عصفوري نحو المناصب الإدارية الجامعية؟ هل كنا سنشهد هذه الحالة لو كانت هناك مواصفات محددة للمرشح ووصف وظيفي لكل منصب إداري جامعي؟ هل ما يجري حاليا هو الأسلوب المناسب لإدارة الجامعات من منظور التحدي التقني والعلمي المعاصر؟

وبعد، دعونا نعود الى جامعة ولاية واشنطن الرسمية: أطالب بأن يفرض على صانعي القرار في الجامعات الخاصة تحديدا ضرورة القيام بزيارة الى جامعة غربية مرموقة ليروا بأم عيونهم كم هوتجاوز للمنطق أن نسمي ما لدينا من مبان متواضعة بالجامعات! أمر يوميا في طريقي الى القسم بمبنى قيد الإنشاء: مبنى للأبحاث الطبية البيطرية... كلفته المعلنة على شاخصة مثبتة على واجهته هي فقط 96 مليون دولار! عندما تتقزم الأحلام تتقزم الوسائل بالتالي! ألم أقل لكم منذ البداية أن علتنا تكمن في العقل العربي؟ لو امتلكنا سوية التفكير العقلي لما كان أحد ليجروء على تسفيه التعليم الجامعي الى الدرك الذي نشهده؟ إنه ليس تسفيه للتعليم الجامعي بل هو استلاب العقل الجمعي لمجتمعنا وحرمانه من حقه في تخيل مجتمع عصري يتنافس مع بقية مجتمعات الشعوب التي لم تبتلى ببلوانا؟ أنهم يتحدثون عن ربيع عربي... الجماهير العربية تفكر بالأنظمة لكني، على النقيض، أفكر في العقل العربي...