الاقتصاد الدولي.. بين الإقليمية والعالمية

27/12/2011

مركز الرأي للدراسات

اعداد : «محمد خير» عبدالله

كانون الاول 2011

يشهد العالم اليوم توجها متزايدا نحو إقامة التكتلات الاقتصادية، ويفسر التنامي المتزايد لهذه الظاهرة كعلاج للمشكلات الاقتصادية الحرجة على الصعيد الدولي، وكمخرج وحيد لخروج الاقتصاد الرأسمالي العالمي من أزماته المتفاقمة والتي ترافقت معه منذ السبعينات، فنجد اليوم أن هناك نشاطا متسع النطاق على صعيد إقامة التكتلات الاقتصادية سواء في إطار ثنائي، أو شبه إقليمي، أو إقليمي، أو تجمعات لا تكتسب صفة الإقليمية المباشرة وإنما تجمع بين مجموعة من الدول ذات التفكير المتشابه ولا يجمعها إقليم محدد، وأيضا التكتلات التي تجمع بين دول متقدمة ونامية مثل النافتا، وقد بلغ عدد التجمعات والتكتلات الاقتصادية حوالي 100 تجمع منها 29 تكتلا ظهروا منذ عام 1992، ويلاحظ أن غالبية أعضاء منظمة التجارة العالمي (140) ينتمي إلى واحد أو أكثر من هذه التجمعات، التي لم تعد قاصرة على الدول المتاخمة في حدود الإقليم بل تنطلق خارجه من خلال مبادرات طموحة تخدم مصالح الدول الأطراف دون الالتفاف لأي إطار جغرافيا كان أو أيديولوجيا. وعلى الرغم من هذا العدد الكبير من التكتلات والتجمعات الاقتصادية فاهم هذه التكتلات هي الاتحاد الأوروبي والنافتا وآسيان.

جدلية العلاقة بين التكتلات والمنظمة

يتخلل الاقتصاد الدولي المعاصر ظاهرتان تناقضان بعضهما، فالظاهرة الأولى تتمثل في اتجاه كثير من دول العالم في الانخراط في الترتيبات الإقليمية (التجمعات والتكتلات الاقتصادية) الساعية إلى زيادة التجارة البينية بين الدول الأعضاء، أما الظاهرة الثانية فتشير إلى تعزيز الاتجاه العالمي المتعدد الأطراف لبناء منطقة تجارة حرة عالمية من خلال الانخراط في منظمة التجارة العالمية، ولفهم أوجه التنافر بين الظاهرتين يمكن القول بان هناك ثلاثة بدائل رئيسية تطرح أمام الدولة الراغبة بتحرير تجارتها ؛ الأول : إتباع منهج تحرير التجارة من جانب واحد، والثاني : انتهاج طريق الإقليمية، والثالث : اختيار المنهج التجاري متعدد الأطراف ، ونلاحظ أن معظم الدول انحازت إلى البديل الثاني وهو الانضمام إلى التجمعات والتكتلات الاقتصادية.

والملاحظ كما ذكرت سابقا أن هناك تشابكا بين الانضمام إلى التجمعات والتكتلات الاقتصادية ومنظمة التجارة العالمية، حيث إن أعضاء المنظمة البالغين أكثر من 140 عضوا هم أعضاء في تجمع اقتصادي أو أكثر.

وان هذا التشابك المترافق مع نمو التكتلات الاقتصادية والآثار الناجمة عنها، أصبح مثار جدل بين الباحثين، والحقيقة أن هناك رأيين في هذا المجال، رأي متفائل : يرى أن التكتلات الاقتصادية هي لبنات أو أساسات للانطلاق نحو التجارة الحرة العالمية، ويرى أن التحرر الاقتصادي على نطاق كل إقليم سيعزز من تحرير التجارة على المستوى العالمي، ويدللون على ذلك بالاتفاقات المتعلقة بحقوق الملكية الفكرية، وقواعد الاستثمار وحقوق العمال وسياسات الضرائب والتنافس، والتعامل مع البيئة، وبعبارة أخرى يرون أن التجمع والتكتل الاقتصادي يساعد على الانتقال من التكامل الضحل على المستوى الإقليمي إلى التكامل العميق على المستوى العالمي ؛ ورأي متشائم : يرى أن النزعة الإقليمية أو التكتلات الاقتصادية تخلق حجر عثرة في سبيل التجارة الحرة متعددة الأطراف والتي تمثلها منظمة (WTO) حيث أن كل إقليم يتجه إلى إقامة شكل من أشكال التكامل الاقتصادي يزيد من الحواجز والحمائية ضد الدول غير الأعضاء.

وإن دراسة الإطار القانوني المتضمن في اتفاقيات منظمة التجارة العالمية والخاص بإقامة التكتلات الاقتصادية يضفي نوعا من الوضوح على العلاقة بينهما، والحقيقة هناك مادتان في هذا الجانب وتمثلان تأثير منظمة التجارة على التكتلات الاقتصادية :

المادة (24) : من اتفاقية الجات لعام 1994 وهذه المادة معنية بتشكيل مناطق التجارة الحرة والاتحادات الجمركية وكيفية إزالة التعريفات الجمركية فيما بين الدول الأعضاء، وعمل تعريفة موحدة والإعلان عن مناطق التجارة الحرة والاتحادات الجمركية.
حيث « تقوم الدول المعنية بإقامة أو استمرار مشروع للتكامل الإقليمي ، بأخطار المنظمة ، بشكل مسبق بطلب السماح بقيام المشروع الذي يأخذ شكل أفضليات تجارية أو منطقة تجارة حرة أو اتحاد جمركي) ثم يبدأ البحث من قبل المنظمة من المنطلق الذي تعرض به الدولة المعنية ، وهل هو طلب الموافقة على إقامة منطقة تجارة حرة أو اتحاد جمركي طبقاً للمادة 24 ، كدولة نامية أو متقدمة على السواء أو طلب الموافقة على أفضليات تجارية استثناء من المادة من الجات ، ثم تشكل لجنة عمل تضم الدول الأطراف في المشروع والدول الأخرى (أعضاء الجات) المعنية بالموضوع ، ثم تعرض هذه اللجنة تقريرها على أول مؤتمر وزاري لاحق، الذي يتخذ قراره وفقاً لطبيعة نتائج البحث ومدى التعارض أو التوافق بين أحكام الجات و المشروع ، وعلى الأرجح تصدر اللجنة توصيات للدول المعنية بالمشروع ، تتضمن اتخاذ إجراءات معنية ، لتحقيق التوافق بينها وبين الجات أو لمعالجة الأضرار المحتملة أو الواقعة التي تلمس حقوق مكتسبة لأعضاء آخرين في الجات من خلال التفاوض معها للتوصل إلى تدابير تعويضية «.

وتتحدد الشروط والضوابط التي يجب توفرها في مشاريع التكامل الإقليمي وفقاً لأحكام الجات فيما يلي :

وجود خطة عمل محددة مع تبيان أهداف ومراحل اكتمالها وخطواتها التنفيذية (أي وجود جدول زمني بحدود 10 سنوات إلا في حالات استثنائية يتفق عليها في حدود 12 سنة.
إلغاء كافة القيود والحواجز الجمركية وغير الجمركية بصورة كاملة في نهاية أو خلال الفترة الزمنية المسموحة لاكتمال المشروع وشمول التحرير لكل أو معظم التجارة المتبادلة ، وليس وفقاً لقوائم سلعية منتقاة.
منح مزايا تعويضية للدول التي قد تتضرر من جراء قيام المشروع ، أو في حالة المساس بالتزامات سابقة تترتب عليها حقوق مكتسبة لدول أعضاء أخرى في الجات.
التزام الدول الأعضاء في المشروع بتنفيذ التوصيات التي تقدمها اللجنة المختصة بتوافق أو تعارض المشروع.

وعليه إذا كان قيام التكتلات الاقتصادية يستهدف خلق التجارة بين الدول الأعضاء وتحقيق فوائد لكافة الدول وتحقيق مزايا اقتصادية هامة للأفراد وللاقتصاد القومي في كل الدول الأعضاء ، ففي هذه الحالة لا يوجد تعارض بين الأهداف التي تسعى إليها المنظمة أو التكتلات الاقتصادية ، ولكن إذا كانت التجارة المتبادلة بين الدول الأعضاء في التكتل تقوم على أساس استبدال السلع أو الخدمات بجودة عالية وبتكاليف أقل ، وتستورد من خارج الدول الأعضاء سلعا وخدمات منتجة في دول التكتل ، ولكنها أقل جودة وأعلى تكلفة منها ، ففي هذه الحالة ، تتعارض أهداف المنظمة وأهداف التكتلات الاقتصادية ، لهذا يدل التحليل على أن السياسة الدولية نحو الإقليمية يجب أن تهدف إلى : تشجيع اتفاقيات التكامل الإقليمي على تحقيق إنشاء التجارة وتفادي التحول التجاري من أجل الدول الأعضاء ، ولتقليل الضرر للدول المستبعدة، والسماح بالتكامل العميق بين الأعضاء، وحفظ آثار التحريرات السابقة ومنح المصداقية لأي تحريرات تشكل جزءا من اتفاقية التكامل الإقليمي، تدعيم ديناميكية التحرير بين الدول الأعضاء والنظام التجاري العالمي ككل.

المادة (5) : من الاتفاقية العامة على التجارة في الخدمات وتأتي تحت عنوان « التكامل الاقتصادي « وتهدف إلى تحرير تجارة الخدمات وإلغاء جميع أنواع التمييز بين الدول الأعضاء وإزالة الإجراءات التميزية القائمة وحظر تقديم أي إجراءات تميزية جديدة، والمعاملة التفضيلية للأشخاص الاعتباريين (الجهات الموردة للخدمات) وضرورة انخراط مجلس التجارة في الخدمات بالاتفاقيات الإقليمية.

ونلاحظ أن هذه المادة تدعو إلى مراعاة المرونة في تطبيق الشروط عند محاولة الدول النامية بإقامة تجمع إقليمي فيما بينها لأغراض التجارة في الخدمات ، وخاصة فيما يتعلق بشرط إلغاء الإجراءات التمييزية القائمة بين الدول ، أو الامتناع عن إدخال إجراءات تمييزية جديدة وكذالك تسهيل دخول الدول الأعضاء في ترتيبات تحقق التكامل بين أسواق العمل فيها ، بشرط أن تتضمن إعفاء مواطني الدول الأطراف من المتطلبات المتعلقة بالإقامة وتصاريح العمل.

أما بالنسبة لأثر التكتلات الاقتصادية على المنظمة فهناك آثار سلبية وأخرى ايجابية، حيث تؤثر التكتلات الاقتصادية سلبيا على مدى التزام أعضائها بالتزامات منظمة التجارة العالمية، القائمة أساسا على تحرير التجارة الدولية، وأيضا هي تساهم بخلق شكل شديد من أشكال التحيز والظلم فيما يتعلق بتحرير التجارة، ومثال ذلك وجدت الدول الواقعة على حدود الاتحاد الأوروبي أن النظام التجاري المرتب على نطاق الاتحاد يمثل سلسلة من الأبواب الموصدة بالنسبة لها، وأيضا إن كثيرا من الدول المتاخمة لحدود تكتلات ناجحة مثل الاتحاد الأوروبي والنافتا لا تحاول فقط الحصول على حق دخول أسواق هذه التكتلات بل تسعى أيضا لإقامة تكتلات جديدة.

وتمثل التكتلات الاقتصادية ومؤسساتها على المستوى الإقليمي أداة تستغلها الدول باعتبارها بديلا لمؤسسات منظمة التجارة العالمية، فالدول القوية بعد إقامة هذا النوع من المؤسسات النظامية القانونية على المستوى الإقليمي تتجه إلى تفضيل هذه المؤسسات في حل المنازعات التجارية بدلا من اللجوء إلى مؤسسات منظمة التجارة العالمية، وذلك خدمة لمصالحها الضيقة، وبالتالي تؤدي التكتلات الاقتصادية إلى تهميش دور المنظمة فيما يتعلق بحل المنازعات التجارية.

ومن مجالات التأثير السلبي للتكتلات على منظمة التجارة العالمية هو قضية قواعد المنشأ « وتتعلق بمكان منشأ السلع التي ستكون موضع معاملة تفضيلية في التجارة فيما بين الدول الأعضاء في تكتل ما، وفي منظمة التجارة العالمية تخضع قواعد المنشأ لمفاوضات مكثفة لإيجاد أسلوب لمعالجتها تقبله الدول النامية والمتقدمة، ويبرز تأثير التكتلات في هذا المجال باختلاف هذه القواعد من تكتل لآخر، فالولايات المتحدة تعتمد في اتفاقياتها الثنائية على احتساب الحد الأعلى للقيمة المضافة فيما يتعلق بقواعد المنشأ، وفي الاتحاد الأوروبي تتم معالجة قواعد المنشأ على المواد الأولية المتاحة محليا والمواد الأولية المستوردة التي تدخل في الإنتاج، وهنا إن اختلاف المعاملات الخاصة بقواعد المنشأ بين منظمة التجارة والتكتلات الاقتصادية يعمل على إضعاف النظام التجاري المتعدد الأطراف «.

هذا بالإضافة إلى أن مبدأ التكتلات الاقتصادية يتعارض مع مبدأ الدولة الأولى بالرعاية والمنصوص عليه في المادة (1) من مبادئ اتفاقية الجات والذي يعني منح كل طرف من الأطراف المتعاقد نفس المعاملة الممنوحة من مزايا إعفاءات يتمتع بها أي طرف آخر في السوق الدولي دون قيد أو شرط، ولا يجوز التمييز ضد مصالح أي دولة عضو في الاتفاقية ، إنما يلزم المساواة في المزايا الممنوحة بغض النظر عن حجم الدولة وقدرتها الاقتصادية، وهذا ما يؤكد أن التكتلات لا تزيد من حرية التجارة الدولية، بل تزيد من قوة وهيمنة الدول المتكتلة على التجارة الدولية وخلقها للعراقيل والقيود التي تحد من هذه التجارة.

وبالرغم من الآثار السلبية أعلاه للتكتلات الاقتصادية على منظمة التجارة العالمية، إلا أن هناك جوانب ايجابية لهذه الآثار، حيث رأى رئيس منظمة التجارة العالمية عام 1996، إن التكتلات الاقتصادية تعتبر خطوة أولية لتشجيع الدول على الاندماج والدخول في الاقتصاد العالمي، ويرى أنها خطوة نحو العالمية لان كثيراً من الدول متخوفة في الانخراط الحر في الاقتصاد العالمي، وعليه فإن التكتلات الاقتصادية توجهها الأسواق أكثر من السياسة فهي في الغالب نتاج توسعة السوق والتجارة والاستثمارات العابرة للحدود فيما بعد الدول المتجاورة، وعليه انه كلما سارت هذه التكتلات على طريق النجاح على المستوى الإقليمي وخصوصا إذا ترافق هذا النجاح مع اثر خلق التجارة، كلما انعكس ذلك إيجابا على النظام الاقتصادي العالمي وتماشى مع نظام تعددي الأطراف الذي تديره منظمة التجارة العالمية.

وهذا بالإضافة إلى إن التكتلات الاقتصادية عملت على سد الفجوة بين الدول الصناعية والدول النامية، وهذه الفجوة تشكل احد التحديات الرئيسية أمام منظمة التجارة العالمية فالبرعم من المعاملة التفضيلية التي حصلت عليها الدول النامية في إطار المنظمة إلا أنها لم تكن راضية بمدى الوصول إلى أسواق الدول الصناعية من ناحية، وأيضا الدول الصناعية لم تكن راضية عن هذا الوصول المجاني، وأيضا أتاح التكتل للدول النامية قوة اكبر للمفاوضة في إطار المنظمة، وان رفع قوة المفاوضة داخل المنظمة للدول النامية يعمل على تسيير وتسريع الوصول إلى الاتفاقات بشكل عام.

مستقبل العلاقة بين التكتلات الاقتصادية والمنظمة

إن النظر إلى مستقبل العلاقة بين التكتلات الاقتصادية ومنظمة التجارة العالمي بالغ التعقيد ولا يمكنني من خلال هذه الدراسة المتواضعة أن أتنبأ بمستقبل العلاقة بين الطرفين ، لكن يجب الأخذ بعين الاعتبار :

أن كل منهما يعمل ضمن نظام اقتصادي واحد، فلا يستطيع أي تكتل الانعزال لوحده عن التجارة الحرة العالمية وأيضا لا يستطيع تحقيق النمو لوحده دون الاحتكاك والتفاعل مع غيره من الوحدات في الاقتصاد العالمي.

فطبيعة الأسواق في الاقتصاد العالمي مبنية على درجة كبيرة من التشابك والتعقيد، وان هذه الدرجة العالية من التعقيد تجعل من الصعب أمام أي تكتل التضحية بالتجارة الحرة العالمية لصالح التجارة البينية، فكما لاحظنا فان الدول اتجهت إلى التكتل بسبب الخوف من الاندماج في التجارة العالمية الحرة، وان التجارة داخل التكتل تنمو بسرعة، لكن هذه التجارة على مستوى التكتلات قد لا تجري بالسرعة نفسها التي حدثت داخلها، فما زالت هذه التكتلات وآثارها غامضة على مستقبل التجارة الحرة العالمية، ومن المبكر القول بأنها تشكل تهديدا للنظام متعدد الإطراف الذي تحتضنه منظمة التجارة.

ونلاحظ أن التكتلات الاقتصادية الناجحة في العالم تقودها الدول الكبرى مثل الاتحاد الأوروبي والنافتا، وان هذه الدول هي التي سعت إلى إقامة النظام متعدد الأطراف بعد الحرب العالمية الثانية، لان مصلحتها وتجارتها هي مع وجود هذا النظام، لأنه يسمح لها بالدخول إلى كافة أسواق الدول الأعضاء في المنظمة، ويلاحظ أن هذه التكتلات التي تشرف عليها الدول الكبرى إنما تمثل لها اذرعا أخرى إلى جانب منظمة التجارة العالمية للوصول إلى كافة أسواق دول العالم.

وعليه عند النظر إلى مستقبل العلاقة بين التكتلات الاقتصادية ومنظمة التجارة العالمية يجب أن تؤخذ هذه النقاط الثلاث في عين الاعتبار.