مركز الرأي للدراسات
اعداد : المحامي د. نوفان العجارمة
أيار 2013
في مطلع هذا العام تقدمت الحكومة بمشروع قانون يسمى قانون (منع الكسب غير المشروع) والذي يعرف لدى البعض بقانون (من أين لك هذا؟). ولاشك أن إقرار مثل هذا القانون من شانه أن يعزز مفهوم المساءلة والمحاسبة ويصب في جهود الدولة الأردنية في مكافحة آفة الفساد، لاسيما المالي منه.
وفي ضوء بعض التعديلات التي أدخلتها اللجنة القانونية النيابية الموقرة على مشروع القانون سوف أسلط الضوء في هذا المقال على مسألتين مهمتين وهما:
أولاً: المسالة الأولى: تتعلق بالأثر الرجعي للقانون: هل يملك المشرع أن يطبق القانون بأثر رجعي؟ أم أن القانون يسري من تاريخ نفاذه؟
نستطيع القول بان إيراد مثل هذا النص فيه مخالفة للأصل الدستوري، والمشرع لا يملك هذا الحق، للأسباب والحجج القانونية التالية:
1. رجعية الجزاء تخالف المادة (11/2) من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لسنة 1942 والتي تنص على: لا يدان أي شخص من جراء أداء عمل أو الامتناع عن أداء عمل إلا إذا كان ذلك يعتبر جرماً وفقاً للقانون الوطني أو الدولي وقت الارتكاب كذلك لا توقع عليه عقوبة اشد من تلك التي كان يجوز توقيعها وقت ارتكاب الجريمة.
2. كما تخالف رجعية الجزاء المادة (15/1) من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية لسنة 1966: والتي تنص على: لا يدان أي فرد بأي جريمة بسبب فعل أو امتناع عن فعل لم يكن وقت ارتكابه يشكل جريمة بمقتضى القانون الوطني أو الدولي، كما لا يجوز فرض أية عقوبة تكون اشد من تلك التي كانت سارية المفعول في الوقت الذي ارتكبت فيه الجريمة، وإذا حدث، بعد ارتكاب الجريمة، أن صدر قانون ينص على عقوبة اخف، وجب أن يستفيد مرتكب الجريمة من هذا التخفيف.
3. وتعتبر المعاهدات والاتفاقيات الدولية مصدرا من مصادر المشروعية في الدولة، بعد التصديق عليها من الجهة المختصة، إذ أنها تصبح بعد التصديق جزاء من التشريع الداخلي، وتلتزم جميع السلطات العامة في الدولة جميعها باحترامها والنزول عند أحكامها، كما لا يستطيع الأفراد الخروج على حكمها، إذا كان في أحكامها ما يخاطب الإفراد، وتتمتع المعاهدات والاتفاقات الدولية المستوفية لمراحلها القانونية بمرتبه أعلى من مرتبة القانون العادي(الذي يسن عن طريق البرلمان)، ولها أولوية في التطبيق على القوانين العادية إن كانت تتعارض مع التشريع الداخلي تنفيذا لحكم المادة (27) من اتفاقية فينا المتعلقة بقانون المعاهدات لسنة 1969 حظرت على الطرف الموقع على تلك الاتفاقية التمسك بإحكام قانونه الداخلي كمبرر لعدم تنفيذ معاهدة، والأردن من الدول الموقعة على تلك الاتفاقية، وعليه فان قوة إلزام المعاهدات والاتفاقات تتعدى قوة إلزام القوانين العادية أي إنها في مرتبة أعلى من تلك القوانين. وقد استقر اجتهاد محكمته التمييز على ذلك حيث تقول ((... تعتبر الاتفاقيات الثنائية أو الدولية واجبة الإلزام ويجب العمل بها وهي اعلي مرتبه في التطبيق من القانون الداخلي في حال تعارضهما...)) حكمها في القضية رقم 2426/1999 الصادر بتاريخ 25/4/2000.
4. رجعية الجزاء تخالف المبادئ العامة للقانون: توجد إلى جوار القانون المكتوب في كافة مجتمعات العالم تقريباً، مجموعة من القواعد القانونية غير المكتوبة يطلق عليها اسم (المبادئ العامة للقانون)، تجسد الأفكار الفلسفية والقيم الاجتماعية القائمة في ضمير الجماعة، والمهيمنة بالتالي على الروح العامة للتشريع، أو على النظام القانوني السائد في المجتمع، يلجأ إليها القاضي عندما لا يجد حلا للنزاع المطروح أمامه في النصوص التشريعية الوضعية، ويستنبط منها ذلك الحل ويقرره في أحكامه فيكتسب بذلك قوة إلزامية، ومن ثم يصبح مصدراً من مصادر المشروعية. فالمبادئ العامة للقانون إذن هي قواعد غير مدونة مستقرة في ذهن وضمير الجماعة، يعمل القاضي على كشفها بتفسير هذا الضمير الجماعي العام. وتلك القواعد المستقرة في الضمير تمليها العدالة المثلى ولا تحتاج إلى نص يقررها.
ومن المبادئ العامة التي قررها القضاء مبدأ عدم رجعية الجزاء (إلا إذا كان النص أصلح للمتهم) وإذا كانت المبادئ العامة تستمد كيانها من مجموعة القواعد التي تحكم النصوص الدستورية- كما هو الحال مع مبدأ وحدة الجزاء- وجب اعتبار هذه المبادئ متماثلة في قوتها الإلزامية والنصوص الدستورية، الأمر الذي يستتبع اعتبارها الأساس أو المصدر الذي تقوم عليه التشريعات المختلفة، ومن ثم لا يجوز للبرلمان أن يقيد أو يخالف هذه المبادئ بما يصدره من تشريعات عادية. أي يمتنع على المشرع العادي مخالفتها أو الخروج عليها.
ثانياً: أما المسالة الثانية: فتتعلق بنقل عبء الإثبات: أن الجدل القانوني سوف يكون حول مدى إمكانية إلزام الشخص الخاضع لقانون الكسب غير المشروع (إثبات الزيادة غير معقولة في ثروته والتي لا تتناسب مع دخله) فهل يجوز ذلك ؟؟ أم أن عبء إثبات أركان الجريمة وارتكابها من قبل المتهم يكون على عاتق النيابة العامة وحدها استنادا إلى قرينة البراءة المفترضة في القانون الجزائي والتي نصت عليها المادة (101) من الدستور الأردني بالقول «المتهم بريء حتى تثبت إدانته بحكم قطعي».
نستطيع القول بان إيراد مثل هذا النص ليس فيه مخالفة للأصل الدستوري المقرر في المادة (101) من الدستور الأردني، للأسباب والحجج القانونية التالية:
1. أن نصوص قانون الكسب غير المشروع لم توضع بشكل تعسفي، بل يمهد لها المشرع (بأن يفترض البراءة افتراضا)، ثم ينقل عبء الإثبات على الخاضع لحكم القانون (الموظف) في إثبات ما هو ثابت أصلا وفرضا، حيث يمهد المشرع لهذه القرينة القانونية بأن يستوجب -وكما هو الحال في قانون إشهار الذمة المالية- على الموظف لأحكام القانون تقديم إقرارات ثلاث، أولها: عند بداية خدمته، ثم الإقرار الدوري، ثم إقرار نهاية الخدمة.
2. الأصل أن هذه الإقرارات حجة على المقر بما دون فيها، فإن طرأت زيادة عليها فان على الموظف أن يثبت مصدرها، فالمشرع نقل عبء الإثبات إلى (الموظف) بعد أن ثبت لديه عكس ما هو ثابت أصلا وفرضا بإقرار هذا الموظف، وعلى (الموظف) إثبات ما يخالفه بحسبانه مدعيا بخلافه.
3. المشرع لم يرتق بهذه القرينة إلى القرائن القانونية القاطعة التي لا يجوز إثبات ما يخالفها، بل جعلها قرينة بسيطة يجوز إثبات عكسها، ويجوز للموظف أن يثبت بكافة طرق الإثبات مصدر ما طرأ من زيادة على ثروته التي قدرها بنفسه ابتداء وبغير تدخل من المشرع في ذلك التقدير، وهذا لا يعتبر قلبا لعبء الإثبات.
4. لا يجوز أن ننكر على المشرع وضعه للقرائن القانونية، فالقول بخلاف ذلك لا ساس له من القانون، وكلام مردود، فهذا أمر يقدره المشرع وحده، فضلا على أن المشرع لم يضع هذه القرينة بالنسبة للكسب غير المشروع، بل يضعها حين يقدر أن هذه القرينة مما تلائم وقواعد الإثبات، وحسبنا أن نشير إلى قانون العقوبات المصري حيث اعتبر المشرع كل تاجر حكم بإفلاسه مقصر متى كانت مصروفاته الشخصية أو مصاريف منزله مصاريف باهظة وهى قرينة تناهض أصل البراءة بمفهوم الحكم، ولم ينكر القضاء الحق على المشرع بوضعه مثل هذا النص،كما اخذ المشرع الأردني بالقرينة القانونية في المادة (6) من قانون إشهار الذمة المالية لسنة 2006 والتي جاءت بالقول: (( كل مال، منقول أو غير منقول، منفعة أو حق منفعة يحصل عليه أي شخص تسري عليه أحكام هذا القانون، لنفسه أو لغيره، بسبب استغلال الوظيفة أو الصفة، وإذا طرأت زيادة على ماله أو على مال أولاده القصر بعد توليه الوظيفة أو قيام الصفة وكانت لا تتناسب مع مواردهم وعجز هذا الشخص عن إثبات مصدر مشروع لتلك الزيادة فتعتبر ناتجة من استغلال الوظيفة أو الصفة)).
5. أن القول بأن الإدانة في جريمة الكسب غير المشروع مبناها فقط عجز المتهم عن إثبات مصدر مشروع للثروة، هو قول غير دقيق لأن الأسلوب المتبع هو إقامة أركان الجريمة عبر أدلة مختلفة تستظهر أركان الجريمة. فإذا قامت هذه الأدلة وعجز المتهم عن إثبات مصدر الزيادة، قامت الجريمة.
6. أن قانون الكسب غير الشروع هو قانون خاص أستثني فئة بعينها وهم الموظفون العموميون وهم المهيمنون علي مقدرات الشعب وأمواله، وحيث أن الخاص يقيد العام فأن الاستثناء الوارد بقانون الكسب غير المشروع له ما يبرره من مقتضيات الصالح العام والذي يحافظ به علي الأموال العامة التي هي ملكا لأفراد الشعب وهو الأمر الذي ألزم المسئولين بتقديم إقرارات الذمة المالية عن كل سنة حتى يتبين الزيادة التي تطرأ على ذمته.
7. مما يؤكد ذلك أن نصوص قانون العقوبات الأردني ميزت مابين الشخص العادي والموظف في أكثر مناسبة، حيث اعتبر اعتداء الموظف على المال العام (اختلاسا) ولم يسميه سرقه، والاعتداء الموظف العام ظرف مشدد، وعقوبة الذم والقدح الموجه إلى الموظف العام تختلف عن غيره، ودون أن يعتبر هذا الحكم إخلالا بمبدأ المساواة المنصوص عليه في الدستور؟؟ أن معظم التشريعات التي نظمت الكسب غير المشروع قد أقامت قرينة مبناها افتراض حصول الكسب غير المشروع بسبب استغلال الموظف لوظيفته، إذا طرأت زيادة في ثروة هذا الموظف لا تتناسب مع موارده، ويجوز إقامة الدليل في القضايا الجزائية بكافة طرق الإثبات، بما في ذلك القرائن. وبالطبع فان هذه القرينة تتطلب من النيابة العامة تقديم الدليل على وجود زيادة غير معقولة في دخل الموظف أو من في حكمه لا تتناسب مع دخله الوظيفي المعروف للنيابة، ومعظم التشريعات التي نظمت الكسب غير المشروع نصت على وجود شكوى تقوم النيابة العامة على أثرها بتحويل هذا الموظف للمحكمة المختصة، لان النيابة ترجح الشك، وعلى المشتكى عليه أثناء المحكمة عليه أن يقدم ما يناقض هذا الدليل.
8. أن قضاء محكمة النقض المصرية أقر بحق المشرع في وضع القرائن القانونية عامة، وفى سلامة القرينة المقررة بالمادة الثانية من قانون الكسب غير المشروع لسنة 1975، فالثابت من قضاء محكمة النقض بجلسة 27/12/1965 في الطعن رقم 1356 لسنة 35 ق ((.... أنه اعتبر عجز الموظف عن إثبات ما يملكه قرينة مقبولة على أن الزيادة في ماله إنما حصلت في استغلاله لوظيفة هي بذاتها من نوع الوظائف التي تتيح هذا الاستغلال...))، ولم تر المحكمة عدم دستورية المادة المشار إليها؟
9. أن قضاء الإداري والدستوري متواتراً بأن انتقاد القائمين بالعمل العام وإن كان مريراً يظل متمتعا بالحماية التي كفلها الدستور لحرية التعبير عن الآراء بما يكفل الحق في تدفق المعلومات وانتقاد الشخصيات العامة بمراجعة سلوكها وتقييمه وهو حق متفرع من الرقابة الشعبية النابعة من يقظة المواطنين المعنيين بالشئون العامة الحريصين على متابعة جوانبها السلبية.