21/08/2013
مركز الرأي للدراسات
اعداد : نايف القاضي
آب 2013
تضطلع القدس بأهمية خاصة بوصفها محور القضية الفلسطينية، وهي التي تتركز فيها أطماع «إسرائيل» ومخططات الحركة الصهيونية لاجتثات سكان المدينة من العرب الفلسطينيين وإحلال المستوطنين اليهود بدلاً منهم، وطرد أهلها بشتى الطرق والوسائل خارج وطنهم من دون تفريق بين مسلم ومسيحي بينهم، ومن دون أي التفات إلى حق الفلسطينيين في الوجود على أرضهم التي توارثوها عن آبائهم وأجدادهم منذ آلاف السنين، إلى جانب التجاهل التام لكل قرارات الشرعية الدولية ومواثيق حقوق الإنسان المشروعة التي تكفل لهؤلاء حق إقامة دولتهم على أراضيهم، وعاصمتها القدس، والتنكر الكامل لحق العودة الذي أقرته الأمم المتحدة في أعقاب نكبة 1948.
لقد ظلت القدس وقضية فلسطين محط اهتمام جميع الأردنيين مثلما هي حال شعوب العالمين العربي والإسلامي، ولم يتوقف الأردنيون لحظة واحدة في سبيل الدفاع عن قضية فلسطين وجوهرها القدس الشريف. ودفع الأردنيون الثمن الباهظ من دماء أبنائهم من المتطوعين الأوائل الذين شاركوا إخوانهم في فلسطين النضال والمقاومة، ومن شهداء الجيش العربي الشجعان الذين استماتوا في الدفاع عن مقدسات فلسطين وأسوارها، ولولا ثباتهم وشجاعتهم وقدرتهم على الاحتفاظ بالأماكن المقدسة في القدس والضفة الغربية لانتهى ذكر فلسطين وشعبها منذ هزيمة العرب الأولى سنة 1948.
وقد كان اغتيال المغفور له الملك المؤسس عبد الله الأول على أبواب المسجد الأقصى في القدس وفي وقت مبكر بعد إقامة الوحدة التاريخية بين الأردن وفلسطين، الحلقة الأولى المتقدمة في مخطط استكمال احتلال كل فلسطين وفي مقدمتها احتلال مدينة القدس التاريخية المقدسة بكاملها، وبالتالي الانفراد بفلسطين وشعبها وضم القدس لتصبح عاصمة الدولة اليهودية، وقد تمكنت «إسرائيل» بعد ذلك مدعومة من قوى الغرب العظمى واحدة بعد الأخرى، أن توسع رقعةَ احتلالها لتصل إلى أرض مصر في سيناء وأرض سوريا في الجولان، وأن تصل في عدوانها لتضرب بصواريخها عواصم في المشرق والمغرب العربيين على حد سواء.
وأصبح الجميع يدركون الظاهر والباطن في هذا الموضوع، ويعرف الكثيرون بحكم التجربة والواقع أين تجري الأمور ومَن يسيّرها، حيث لم يعد هناك ما يخفى على الشعوب بعد أن أصبح ما يدور في أي مكان في العالم يطل علينا خلال ثوان معدودة عبر شبكات الاتصال والإعلام المتطورة جداً.
وتمت مؤخراً عودة المفاوضات بين الأشقاء الفلسطينيين وبين «الإسرائيليين»، وهي عودة ساهم الأردن في التمهيد والترتيب لها من دون الوقوع في تفاؤل مبالَغ فيه، وذلك بعد توقف للمفاوضات استمر ثلاث سنوات كانت أكثر من كافية لتغيير معالم القدس الدينية والتاريخية، وزرع المستوطنات، وفتح الأبواب لجيوش المستوطنين للقدوم إلى أرض فلسطين من كل حدب وصوب، وطرد السكان الفلسطينيين، وتهجير أهل المدينة من مسلمين ومسيحيين من دون أي اعتبار، وقبل ذلك كله وفي خضمّه الإعلان عن تحويل «إسرائيل» إلى دولة يهودية.
ومع دعم الأردن الدائم والمخلص لجهود الأشقاء الفلسطينيين وتطلعاتهم من أجل استعادة حقوقهم وإقامة دولتهم المستقلة على ترابهم الوطني، وعاصمتها القدس الشرقية، إلا أن مشاركتهم في المفاوضات التي عُقدت في واشنطن بوفود عربية وسورية ولبنانية وأردنية وفلسطينية مشتركة ومنفردة بعد مؤتمر مدريد سنة 1991، لم تكن نتائجها مرْضية أو مشجّعة.
وتظهر عواملُ عدة ما زالت تشكل عائقاً كبيراً أمام الحل النهائي المأمول لحل القضية الفلسطينية وفي مقدمتها:
أولاً: الموقف الإسرائيلي المتعنت الذي تمثله الحكومة الإسرائيلية الحالية برئاسة نتنياهو، الرافض لقيام دولة فلسطينية مستقلة قابلة للحياة بأي شكل من الأشكال، وضعف الموقف الأميركي المرتبط أساساً بمواقف جماعات الضغط اليهودية في أوساط المجتمع الأميركي ومؤسساته، وكذلك الموقف الأوروبي المتردد منعدم التأثير والعاجز عن تنفيذ بعض قرارات الاتحاد الأوروبي التي جاءت متأخرة، وبخاصة ذلك المتعلق بوقف المساعدات المقرَّرة لمشاريع المستوطنات في الأراضي المحتلة وعدم ممارسة الاتحاد لأي ضغوط لصالح الشعب الفلسطيني تحت الاحتلال.
ثانياً: الانقسام المعلَن في الموقف العربي تجاه القضية الفلسطينية، ومحاولة بعض الأطراف بل الدول العربية، استقطاب بعض الفصائل الفلسطينية لتكون جزءاً من أدواتها ووسائلها تأتمر بأوامرها وتحارب من أجل مصالحها، وتدخل في صراعات بعضها مع بعض نتيجة هذا الاستقطاب.
وبصرف النظر عن توقيع دول عربية معاهدات صلح مع إسرائيل، فقد ساهمت دول عربية تصف نفسها بدول المخالفة أو المقاومة، في تدمير الوحدة الفلسطينية، وأشغلت الفصائلَ الواقعة تحت هيمنتها بمشاكلها الداخلية أو مع الجيران، ولم تقدم للقضية الفلسطينية وأهلها سوى الإحباط والمزيد من الخذلان والشعور بالندم، وأصبحت الدعوة لتحرير فلسطين أو الوحدة العربية أو التضامن العربي شيئاً من الماضي اختفى تماماً حتى في ظل الانتفاضات والثورات الجديدة، كما غابت أصوات الذين دافعوا عن القضية الفلسطينية أو الدعوة لتحرير فلسطين في هذه المرحلة المؤلمة من تاريخنا المعاصر.
ثالثاً: بالمقابل، تعرّض الفلسطينيون وأهل القضية إلى انقسام حاد ومؤلم بينهم، وبالإضافة إلى مخاطر الانقسام والتشرذم الذي حدث مبكراً بين الفصائل الفلسطينية واختلاف نظرياتها بخصوص كيفية حل القضية وسبل استعادة الأرض والحقوق، فقد تنازعت هذه الفصائل مدعومةً من بعض الأطراف العربية والإقليمية على السيادة في الجزء الذي انسحبت منه إسرائيل شكلياً، بحيث قامت سلطة جديدة في جنوب فلسطين مقابل السلطة التي قامت في رام الله في الضفة الغربية، وأصبح ما بين غزة ورام الله أبعد كثيراً مما هو بين عاصمتين عربيتين متنافرتين.
وقد انعكس هذا على الوضع الفلسطيني ضعفاً على ضعف، واضطر الوفد الفلسطيني في النهاية إلى العودة إلى طاولة المفاوضات من دون أي ضمانات أو شروط. إن الانقسام الفلسطيني يشكل الخطر الأكبر على مستقبل القضية الفلسطينية، ويكرس أسوأ النتائج على موضوعَي القدس والاستيطان، وعلى المنطقة بشكل عام والأردن بشكل خاص.
لقد وُلد كثير من الأردنيين وترعرعوا في أجواء القضية وظروفها، وكانوا من الشهود الذين تأثروا بنتائجها عبر أجيال ضمت آباء الجنود والجنود أنفسهم وأبناءهم الذي شهدوا وقائع الصراع. ومن الأردن ثمة قائمة طويلة للشهداء الذين ضحّوا واستشهدوا على ثرى فلسطين الطهور.
بذل الأردن كل جهد شريف وشجاع من أجل استعادة الحقوق والأرض الفلسطينية، وساهم سياسياً ودبلوماسياً من أجل تمكين الأشقاء الفلسطينيين من استعادة أرضهم وحقوقهم ومقدساتهم، وكان الأردنيون وما زالوا في طليعة المساندين للمطالب والجهود الفلسطينية والوقوف مع الأشقاء حتى في ظل خلافاتهم مع بعض أشقائهم في الدول العربية.
وفي هذا السياق، ساهمنا وبتنسيق وتوافق تام مع الأشقاء الفلسطينيين في التصدي لمخططات ومحاولات إقامة الوطن البديل الدنيئة، بوصف هذا المشروع يدمر تطلعات الشعب الفلسطيني وآماله في إقامة دولته المستقلة وله مخاطره الكارثية على الكيان الوطني الأردني، إذ يهدد الأمن القومي والوطني الأردني، وهو أمر لا يمكن قبوله من الشعبين الأردني والفلسطيني على حد سواء. لذا فإن علينا الحذر واليقظة من هذه المخططات التي يعمل مؤيدوها من الخارج والداخل على إحيائها، وسنظل لهم بالمرصاد بإذن الله، فلن يقبل الأردنيون والفلسطينيون أي بديل لأوطانهم ما داموا على قيد الحياة.
وفي سياق متصل، كان قرار فك الارتباط قراراً سيادياً شرعياً أردنياً استند إلى مطالب فلسطينية وطنية وقرارات عربية جامعة، وساهم في دعم المشروع الفلسطيني لإعلان الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية على التراب الوطني الفلسطيني.
كما ساعد ذلك القرار في قيام السلطة الوطنية الفلسطينية والاعتراف بها من خلال منظمة التحرير الفلسطينية كممثل شرعي ووحيد للشعب الفلسطيني، وكان له الأثر الكبير في الحد من الهجرة وتهجير الشعب الفلسطيني من القدس والضفة الغربية إلى أراضي المملكة الأردنية الهاشمية.
بعد ذلك، قام الأردن بإجراءات داخلية عدة ساهمت في عودة بعض الأشقاء الفلسطينيين الذين غادروا الضفة ولم يتمكنوا من العودة لها لأسباب سرية مارستها إسرائيل أو نتيجة جهل بعضهم بحقوقه القانونية التي لا بد للسلطات الإسرائيلية من الاعتراف بها.
كما ساهمت هذه الإجراءات بتقديم جميع التسهيلات الممكنة للإخوة الفلسطينيين للإقامة المؤقتة لمن لم يتمكن منهم من العودة وحصولهم على الخدمات الإنسانية والتعليمية والصحية كافة، وممارستهم بعض الأعمال من دون أي تمييز بينهم وبين المواطنين الأردنيين في الحقوق، وبخاصة في مجال الحقوق السياسية.
إن الأردنيين أهل خبرة وتجربة عززت فيهم روح الانتماء والإخلاص لوطنهم ونظامهم الدستوري الذين ارتضوه، وزادهم أبناء منتسبي الجيش العربي وقوات الأمن القوة والقدرة على التماسك والوحدة ومواجهة التحديات، وبفضل ذلك استطاعوا أن يتجاوزا كل المصاعب والتحديات والمحن، وثبتوا أمام الإعصار الذي هبّ على هذه المنطقة بسبب وعيهم المتجذر وبُعد النظر الذي تميزت به قيادتهم الواحدة، وقبل ذلك وبعده الانتماء المخلص للأردن الوطن والهوية وحرصهم الأكبر أن تستمر مسيرة الإصلاح الشامل وبناء المؤسسات الدستورية الحقيقية وسيادة القانون فوق كل اعتبار، ومحاربة أوكار الفساد أينما وُجدت، وملاحقة الفاسدين بين القضاء النزيه العادل، والمحافظة على كرامة المواطن وهيبة الوطن.
إن وحدة الأردنيين ووقوفهم صفاً واحداً من أجل مصلحة الأردن العزيز مهما تباينت أصولهم وأحزابهم وجبهاتهم، هي وسيلة البقاء الناجحة وقارب النجاة، كما أن التمسك بالمبادئ الوطنية والالتزام بالثوابت والمحافظة على أمن البلاد واستقرارها، هو ما يكفل وقاية الأردن من كل سوء أو عبث حتى نستطيع تقديم الدعم للأشقاء في فلسطين لاسترجاع أرضهم واستعادة حقوقهم وقيام دولتهم الحرة المستقلة وعاصمتها القدس الشريف.
إن الشعب الأردني لم يتعود على الانعزال والتفرج أمام الأحداث والتطورات التي تدور من حولنا، فما يجري في سوريا وفي العراق وفي مصر وفي أي بلد عربي في المشرق والمغرب، ستعود نتائجه علينا لأننا جزء مهم في هذه المنطقة العربية المهمة، وفي الوقت الذي لا بد أن نمتنع فيه عن التدخل في أي شأن داخلي عربي، فإننا سنشارك بالتأكيد في أي عمل سياسي أو دبلوماسي عربي أو دولي لوقف النزيف المستمر، وسنواصل تقديم العون الإنساني للأشقاء في سوريا الذين يحتاجون لوقوفنا معهم أمام مخاطر التدمير والويلات التي يتعرضون لها