خمسون عاماً على العلاقات الأردنية-الروسية

21/08/2013

مركز الرأي للدراسات

اعداد : د.حسام العتوم

آب 2013

يحتفل الجانبان الأردني والروسي هذه الأيام بمرور خمسين عاماً على بدء ماراثون العلاقات الأردنية الروسية التي دشّن عظيم الأردن الراحل الحسين طيب الله ثراه انطلاقته، وقابله بالترحاب الزعيم الروسي السوفياتي "نيكيتا خروشوف" بتاريخ 21 آب 1963 وهو الذي عرف بجنوحه للانفراج الدولي والتعايش السلمي، وسبق لروسيا السوفياتية أن اعترفت أولاً وعبر الأمم المتحدة بإسرائيل عام 1948 وحظيت أيضا باعتراف أميركا وأوروبا بعد نهاية الحرب العالمية الثانية وسط سعير الحرب الباردة بين أميركا والغرب من جهة وبين الاتحاد السوفياتي من جهة أخرى فجاءت حكمة مليكنا الراحل الحسين لتثبيت خريطة الأردن السياسية في قلب الصراع الدائر وحمايتها منه والبحث عن التوازن الدولي.
لم يكن وطننا العربي وقتها موحداً، وهو حتى الساعة كذلك للأسف، يرفض الإصغاء لنداءات ثورتنا العربية المجيدة التي قادها شريف العرب الحسين بن علي عام 1916 فتحدث الأردن مع روسيا السوفياتية وحيداً وفتح الأبواب معها على مصراعيها باسم كل العرب من تحت مظلة شعاره آنذاك "العرب أولاً"، وكان أول سفير أردني حطت به طائرته الدبلوماسية في موسكو العاصمة المليونية هو د."جميل التوتنجي" ثم تلاه السادة أصحاب السعادة عبدالله الزريقات وحسن إبراهيم وكمال الحمود وهاني الخصاونة وفالح الطويل ود.محمد العدوان ود.خلدون الظاهر وأحمد المبيضين وعبد الإله الكردي، وحالياً أحمد الحسن، وفي المقابل خدم في عاصمتنا عمان السفراء الروس: بيتر جلوسارينكا، وأناتولي أنيسيموف، وإلكسي فارونين، ورفيق نيشانوف، وإلكسندر زينجوك، ويوري جرادنوف، وإلكسندر فلاديميروفيج، وإلكسندر سلطانوف، وإلكسندور شيين، وحاليا إلكسندر كالوغين.
دفء العلاقات الأردنية الروسية الحميمة لا يقاس بحجم التبادل التجاري الذي صعد من رسمه البياني النقدي حتى وصل إلى قرابة 500 مليون دولار، ولا بحجم التبادل التجاري بين العرب وروسيا والذي لامس 14 مليار دولار حسب رئيس المجلس الروسي العربي لوشينكو رغم أن المصالح هي التي تحكم أعمال الدول، فروسيا كانت وما زالت تتقدم بلاد السوفيات قبل وبعد استقلالها لإسناد الأردن وبلاد العرب وسط الصراع العربي الإسرائيلي وحروب 1967 و 1968 و 1973 و 1980-1988 (مع إيران) خير شاهد، وهو الذي دفع بالصهيونية راعية العلاقات الإسرائيلية – الأميركية الجيوبولوتيكية والجيو استراتيجية للتحرك سراً وبسرعة لهدم الاتحاد السوفياتي بحجة نشر الديمقراطية والاستقلال.
وها هي روسيا تنسجم اليوم في سياستها الخارجة بقيادة سيرجي لافروف وتحت إشراف مباشر من الرئيس فلاديمير بوتين مع سياسة الأردن الخارجية التي يتقدمها ناصر جودة وبمتابعة حثيثة وتوجيه حكيم من جلالة الملك عبد الله الثاني بن الحسين في الموضوع السوري تحديداً وسط ربيع العرب الذي خرج عن سكَّته، وأصبح يغرد داخل سرب سايكس – بيكو المتجدد، فالأردن كما روسيا يقف مع الحل السلمي للأزمة السورية التي انتقلت من إصلاحية إلى دموية ومع انتقال السلطة في دمشق عبر صناديق الاقتراع والعمل من أجل إنجاح مؤتمر جنيف المنتظر والمنشود ودعم اللاجئين السوريين وأكثر من طائرة مساعدات روسية عملاقة هبطت في مطار عمان.
العلاقات الأردنية الروسية تجاوزت الاقتصاد عبر التاريخ المعاصر وخلال نصف قرن مضى ورسخت العلاقات الاجتماعية وحوّلتها إلى مصاهرة وإلى أجيال مهجّنة جميلة ووسيمة، فآلاف الخريجين ارتبطوا بزيجات روسية وسوفيتية سابقة، وأنجبوا أبناءاً كبروا مع كبر العلاقات بين شعبينا العظيمين الأردني والروسي ودولتينا الشقيقتين، والمركز الثقافي الروسي برئاسة "إلكسندر درافييف" سجل وما يزال قصة نجاح اجتماعية وثقافية فريدة من نوعها وسط عمان، وأندية وجمعيات أخرى رديفة وناجحة في عملها وفي خدمة المجتمع الأردني مثل جمعية الصداقة الأردنية – الروسية برئاسة د.عيسى دباح، وجمعية أطباء خريجي روسيا برئاسة د.زهير أبو فارس، ونادي ابن سينا لخريجي روسيا والاتحاد السوفياتي السابق برئاسة سلام طوال، ونادي السيدات الروسيات (ناديجدا) برئاسة قالينا عمر، ونادي الشبيبة الروسية برئاسة د.باسيم مصلح، ومركز اللغة الروسية في الجامعة الأردنية بإشراف د."تتيانا جلوشينكو" المشاركة في تأليف كتاب الجاليات الروسية في الأردن باللغة الروسية، وللحضور المتميز للغة الروسية في الجامعة الأردنية بدرجة بكالوريوس، وفي جامعة اليرموك وآل البيت والجالية الروسية عائلية واسعة الانتشار في المدن الأردنية كافة تعد بالآلاف، واللغة الروسية تحتل المرتبة الثالثة من حيث الانتشار الشعبي الأردني وهي تطمح لدخول مجال الخدمة الإعلامية الأردنية في القطاعين العام والخاص ولفتح باب المنح الدراسية التي تقدمها روسيا للتعليم العالي سنوياً والإفراج عنها ولمعالجة مسألة معادلة درجة ماجستير بمثلها.

الزيارات الملكية لروسيا السوفياتية والمعاصر لم تنقطع منذ عهد الملك الراحل الحسين، وتجددت في عهد الملك عبد الله الثاني وأثمرت عن نتائج طيبة وقوبلت بزيارات متكررة للرئيس الروسي فلاديمير بوتين وسلفهِ الرئيس دميتري ميدفيديف ولسيرجي لافروف وزير الخارجية وتحولت منطقة المغطس حجاً للمسيحية الروسية ولمسيحيي العالم بعد اعتراف الفاتيكان بها مكاناً مقدساً لتعميد السيد المسيح، وشرع الروس في بناء كنيسة وبيت للحجاج بعد تفضل الملك عبد الهت الثاني بإهداء روسيا قطعة من الأرض بقصد استخدامها في الحج المسيحي ذو الطابع الروسي تحديداً، الأمر الذي تجاوز به الأردن بناء علاقة مع روسيا بطابع اقتصادي فقط، وحسب فضاء الإنترنت وتصريحات فلاديمير يورفاتشوف عن الجانب الروسي فإن الأردن يعتبر مستورداً هاماً للسلاح الروسي وللقاذف الصاروخي 32 الملقب بهاشم 1 و 2، ونقطة انطلاق بإعادة تصدير هذا السلاح إلى دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وتعد روسيا بحسب مجلة "أوجونيوك" الروسية ثاني أكبر مصدر للسلاح في العالم بعد الولايات المتحدة الأميركية، وتعادلها في التفوق في السلاح غير التقليدي على الأرض وفي الفضاء، وتهيمن على سوق السلاح في آسيا خاصة في الصين وسوريا والهند، وذلك بحسب تقرير حديث للمعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية، ومقره لندن لعام 2013، ثم تثبيت الأردن ضمن أكثر من عشر دول إنفاقاً على الدفاع والأمن والسلاح، وهو أي الأردن يقف بجيشه المحترف الباسل على أطول جبهة سلام حذرة مع إسرائيل ليس دفاعاً عن نفسه فقط ولكن عن كل العرب.

الأردن يدرك أن لا سلام في الشرق الأوسط من دون روسيا وفي إطار الرباعية الدولية ومجلس الأمن والأمم المتحدة، وروسيا اليوم دولة عملاقة تتربع على أكثر من 17 مليون كم2، وتمتلك ترسانة نووية لا مثيل لها في العالم إلا في أميركا، وتتمتع بحضور سياسي ودبلوماسي عالمي رزين وما زادها وقاراً وهيبة كاريزما شخصية بوتين القوية والمحبوبة في الداخل الروسي وعلى خارطة العالم رغم الصعوبات الاقتصادية التي يعاني منها المجتمع الروسي وسط طبقته الفقيرة والمتوسطة شبه المتلاحمة، وسبق لروسيا أن عارضت غزو العراق عام 2003 وانتقدت إعدام الشهيد البطل صدام حسين، وهو ما كررته مع ليبيا ومع قضية إعدام معمر القذافي بطريقة بشعة، وانتبهت لاحقاً لضرورة تطبيق القانون الدولي ومنه الإنسان والاحتكام لقرارات مجلس الأمن والأمم المتحدة، ولم تعد تنسجم مع خروقات إسرائيل للشأن العربي بحجة الدفاع الاستباقي، وتنادي بحل عادل وشامل للقضية الفلسطينية يفرج عن إقامة الدولة وعاصمتها القدس الشرقية وإنهاء الاستيطان والإفراج عن المعتقلين، وهي تعارض و بقوة إلى جانب الصين استخدامها للفيتو بالتدخل الخارجي العسكري في سوريا، كما تعارض خيار ليبيا 2 مزود المعارضة السورية بالسلاح من دون التفريق إن كانت وطنية أو مرتزقة تعمل تحت مظلة الطابور الخامس السادي، وتنادي بتطبيق الخيار الديمقراطي الذي يبقي على الرئيس بشار الأسد ليوم صناديق الاقتراع الرئاسية عام 2014، وروسيا لا ترى حالياً خياراً أفضل من الأسد وهي متخوّفة من صعود الراديكالية الدينية المتشددة السفاحة التي قدمت إلى سوريا من الخارج تحت مسميات جهادية مختلفة وبدعم مباشر من تنظيم القاعدة الإرهابي ومن دول عديدة عربية وشرق أوسطية وأوروبية ومن أميركا نفسها، وتدرك روسيا أن الأردن بقيادة جلالة الملك عبد الله الثاني هو دولة استقرار واعتدال وصمام أمان مهم في قلب العرب ويتمتع بدور ريادي إيجابي في ملفات العرب السياسية الساخنة كافة وسط ربيعهم العربي المنقلب والثائر والساخن، ويقود سياسة حكيمة مع داخله المتحرك إخوانياً وعلى مستوى المعارضة والحراك، وسبق له أن عدل الدستور ويطمح لمستقبل دستوري يرتكز على حكومة برلمانية وبرلمان حزبي وائتلافي وتعديل لقانون البرلمان والأحزاب ومعارضة فاعلة ومشاركة في الحياة السياسية على مستوى البلديات والبرلمانات والحكومات.
مستقبل العلاقات الأردنية الروسية والعربية الروسية لا ولن يتوقف عند اندلاع هذه الأزمة السياسية أو تلك في العراق أو في تونس أو في ليبيا أو في سوريا أو في مصر أو في أي دولة عربية أخرى بحكم أن روسيا ليست سبباً أو طرفاً في أي صراع دائر في منطقتنا العربية، فلم يسبق لها أن ارتحلت خارج حدودها لتصفية حسابات سياسية أو حتى اقتصادية بينما كان ذلك فقط في الحقبة السوفياتية ولأسباب ذات علاقة بالحرب الباردة العلنية بين أميركا والغرب والاتحاد السوفياتي.
عندما تقرر غزو أفغانستان عام 1979 وعد ذلك القرار خطيئة سياسية وأخلاقية من طرفها في وقت لاحق رغم الضرورة القومية والوطنية الروسية لكي لا يتم تحويل المنطقة الأفغانية إلى قاعدة عسكرية أميركية آنذاك.

وفي الشأن السوري من جديد لروسيا عقود عسكرية دفاعية قديمة مع دمشق ومنها طائرات الياك 130 بقيمة 550 مليون دولار وصواريخ يخونت وغيرها الرادارية لا علاقة لها مع أزمتها السياسية الجارية الآن، وهي لم تسمح لقوات الناتو بقيادة أميركا وحتى الآن الاقتراب من اتخاذ قرار سياسي ثم عسكري للتدخل من الخارج وتعارض في الوقت نفسه أي تكرار لسيناريو ليبيا 2 الداعي لتسليح المعارضة وتتمسك بخيار السلام والحلول السلمية وترفض القذف بسوريا الدولة والوطن تجاه المجهول، وهي غير معنية بالطريقة التي صعد فيها الأسد إلى الحكم ولا تحمله مسؤولية ما يجري في بلاده، وتؤكد أن الاصطدام هناك هو بين المعارضة المسلحة بألوانها وأطيافها كافة وبين الجيش السوري المدافع عن نظامه وشعبه، وتحّمل المعارضة مسألة احتمال استخدام السلاح الكيماوي محلي الصنع، وهو الأمر المحتاج للجنة تقصي حقائق دولية لمعرفة الجهة المسببة وبحسب آخر معلومات الإعلام فإنها وصلت إلى دمشق هذه الأيام وبدأت العمل، وأردنياً وإن كنا أول المتضررين مما يجري في سوريا الشقيقة من أحداث دموية مؤسفة ومن خروج ربيعها عن مساره الإصلاحي، وأول الناصحين لنظام الأسد باعتماد الحل السياسي وبالابتعاد عن الحلول العسكرية والأمنية، ورغم عدم تفهّم دمشق لسياسة الأردن الخارجية في المسألة السورية بسبب احتكامها للقرار العربي تحت مظلة الجامعة العربية واصطفافها وسط تكتل أصدقاء سوريا الهادف لإيجاد حل جذري لأزمتها الخانقة الدموية التي اندلعت منذ عامين إلا أننا ننسجم مع التوجه الروسي المنادي بتطبيق القانون الدولي والشرعية الدولية وبترسيخ البناء الديمقراطي السوري من الداخل بمشاركة السلطة والمعارضة الوطنية والمحافظة على وحدة التراب السوري وإبعاد الشعب السوري المسالم عن كل مكروه.
الأردن بالنسبة لروسيا قلب الشرق القريب ومتحف حضاري مفتوح وهدف سياحي مميز حيث وادي رم والبحر الميت والمغطس والبترا وجرش ومهرجانها وأم قيس وقلعة عجلون.

والسياحة الأردنية شكلت 14 % من الناتج المحلي والخدمات السياحية متطورة باستمرار وروسيا للأردنيين الذين درسوا فيها ذاكرة جميلة وعشق لا ينسى وأهم وأروع مدنها هي العاصمة موسكو التي يعود تاريخها إلى عام 1156 ميلادي التي أسسها الأمير يوري دولغوروكي وفيها الساحة الحمراء، وقصر الكرملين ومسرح البلشوي – الكبير ونهر موسكو ومدينة الأولمبياد القديمة وأصبحت عاصمة رسمية عام 1922 لكل الاتحاد السوفياتي، ومدينة ليننغراد – سانت بطرس بيرغ الأجمل في روسيا واوروبا الشرقية أسسها القيصر بطرس الأول 1703 على نهر النيفا الكبير – بحر البلطيق وفيها متحف الأرميتاج المشهور عالمياً إلى جانب قصور مذهلة مرصعة بالذهب الخالص وحجر الينتار الثمين، ومدينة سوتشي المطلة على البحر الأسود التي اكتشفت في القرن 19 بسبب وجود المصادر المعدنية التي حولتها مركزاً هاماً للعلاج الطبيعي والاستجمام ويطلق عليها اسم ريفيرا القوفاز، وهي تستعد لإنجاح أولمبيادها عام 2014 بجهد شعوبها المتعددة، وفي روسيا فلكور روسي وشيشاني هو الأكثر تميزاً سبق أن شاهدناه في عمان وفرقة ماسييفا الفنية توجت أعمال روسيا الفنية بجدارة، وفي روسيا يستطيع الزائر أن يطلع عن قرب على متاحف وأعمال أدبائها مثل إلكسندر بوشكين أمير الشعراء صاحب قصائد (أسير القفقاس والغجر) وغيرها، ومكسيم غوركي صاحب رواية (الأم والطفولة)، وليرمانتوف صاحب رواية (بطل من هذا الزمان)، وجيخوف صاحب روايات (الإخوان الثلاث وبستان الكرز وأغنية البجع)، وغوغل صاحب رواية (النفوس الميتة ومسرحية المفتش العام)، ويسينن صاحب قصيدة (الرجل الأسود)، وجايكوفسكي مؤلف (السيمفونيات الثلاث)، ودوستويفسكي صاحب روايتي (الجريمة والعقاب)، والأخوة كارامازوف وغيرهم وأختتم حديثي هنا بالدعوه للعلاقات الأردنية الروسية بالتوفيق والنجاح المستمر على المستويات كافة، ومثلما هو الأردن ميزان الشرق الأوسط المعتدل والمتماسك فإن روسيا ستبقى ميزاناً منصفاً وقوياًَ بين شرق وغرب العالم.