الخرافات الثلاث والدماغ والعقل والتعليم

25/09/2013

مركز الرأي للدراسات

اعداد : حسني عايش

ايلول 2013

في دراسة ناقدة أعدتها طالبتا الدكتوراة في جامعة هارفارد «جنيفرم. وردن» و»كريستينا هِنتن»، والأستاذ «كيرت دبليو فيشر» – مدير برنامج العقل والدماغ والتعليم في الجامعة والمحرر المؤسس لمجلة العقل والدماغ والتعليم، والعالم المقيم بكلية الدراسات العليا التربوية فيه (PDK,may,2011)، ينكشف الغطاء عن حقائق علمية جديدة في هذا الميدان، تطيح بخرافات هيمنت على المجتمع التربوي ردحاً من الزمن، واتخذها هناك وهناً كمسلمات لا تناقش، وتعامل بموجبها مع الأطفال وأوقع بهم أذى نفسياً وتربوياً وعلمياًً ومهنياًً كبيراً وهو يظن أنه يخدمهم لا يقل عن أذى المؤمنين بنظرية الذكاء المحدود والثابت ومقاييسه واختباراته المدمرة لفكرة الطفل العامة عن نفسه وعن قدراته النوعية، مع أن كثير من الدراسات والبحوث وبخاصة ما عرف بتقرير كولمان الشهير تفيد أن أحداً لا يستطيع قياس الذكاء كمياًً، وأن مقاييسه واختباراته مقاييس واختبارات تحصيل (Achievement tests، لا ذكاء ينمو ويتأثر بالخلفية الاجتماعية والاقتصادية والثقافية للطفل، راجع كتابنا: «امتحان عام أم استغفال للرأي العام؟».
للأسف لا يزال كثير من التربويين والمدارس الخاصة بصورة خاصة يأخذ بهذه المقاييس والاختبارات ويتباهى بإجرائها حتى في مرحلة الروضة وربما قبلها، وكأنها مقاييس واختبارات صادقة وثابتة لا يأتيها الباطل قبل القياس والاختبار وفي أثنائهما وبعدهما.

تطيح الدراسة التي نحن بصددها بثلاث خرافات مدمرة لا يزال كثير منا يؤمن بها ويوظفها وهي:

أولاً: خرافة الجانب الأيمن والجانب الأيسر من الدماغ: وهي خرافة تعود بجذورها إلى (علم) الفراسة الذي كان سائداًً في الماضي حين كان الناس يعتقدون أن لخصائص معينة في الدماغ سلوكيات خاصة بها، وهي مثل القول اليوم بوجود منطقة خاصة بالحب أو بالكراهية أو بالعدوان... في الدماغ... ويكفي أن تكثر الصحافة غير المسؤولة الحديث عنها لنصدقها ونوظفها. ومثلها ادعاء بعض الباحثين العصبيين أن للدماغ جانباً أيمناً: كلياً ومبدعاً لا تهتم المدرسة والجامعة به، وجانباً أيسراً: خطياً أو منطقياً وتحليلياً تركزان عليه. افتح على عنوان الدماغ الأيمن والأيسر في جوجل تجد فيضاً من الادعاءات عن صحة هذه الخرافة. ويمكنك حتى اخذ اختبار لمعرفة أي جانب منهما مهيمناً عليك.
تفيد الدراسة التي نحن بصددها أن كل ذلك غير صحيح البتة لأننا –جميعاً– نستخدم كلّ أدمغتنا، بمعنى أن كل واحد منا يستخدم كل دماغه في الوقت نفسه، لأن جميع أنشطة أو مواقف التعلّم المركبة أو المعقدة تعتمد على شبكة واسعة من الأعصاب التي تغطي جميع مناطق الدماغ. وتبين الصور الدماغية أن قراءة المرء لكلمة واحدة مثل حصان أو كلب تنشط هذه الشبكة في الجانبين، وأن بعض أنشطة التعلّم تتطلب إثارة مختلف مناطق الدماغ عند مختلف الناس.
إن الدماغ شديد التكيّف مع المتطلبات والبيئات الجديدة طيلة حياة الإنسان، وحتى في أواخرها.

نعم، توجد مناطق معينة في الدماغ لها دور أكبر عند أداء وظائف معينة مثل دور الجانب الأيسر في الوظائف الكلامية عند معظم الناس، ولكن فكرة الجانب الأيمن والجانب الأيسر تنطوي على معاني ضمنية ضارة أو خطيرة، وأخطرها تنميط الأطفال والتلاميذ والطلبة حسب أحد الجانبين وتوقع الآباء والأمهات والمعلمين والمعلمات والأساتذة والأستاذات.. اهتمامات الأطفال والتلاميذ والطلبة أو نجاحهم أو فشلهم على هذا الأساس، إنه تنميط لقدراتهم وتحديد ثابت لها ناجم عن هذه الإدراكات أو التوقعات، أو على الأصح الخرافات.
وبما أن البحوث على الدافعية تبيّن أن الأطفال والتلاميذ والطلبة والمعلمين والمعلمات والأساتذة والأستاذات... يعتقدون –خطأ– بأن الذكاء خاصية داخلية ثابتة، لا يمكن تنميتها، فإن وضع المتعلمين يُدمَّر تماماً إذا أضيف إلى هذا الاعتقاد الخاطئ الاعتقاد الثاني الخاطئ القائل بوجود جانبين للدماغ يتشكل مستقبل كل متعلم حسب أحدهما، إن الطفل سمير أو تيسير ضعيف في الرياضيات لأنه يعتقد أنه غير ذكي كفاية لذلك، أو لأن الجانب الدماغي الخاص بالرياضيات غير متوافر لديه، وأنه لا يستطيع تغيير ذلك.
إن لكل فرد قوته وضعفه النسبيين، لكن المطلوب بقوة الكفّ عن التنميط أو عدم التعامل مع المتعلمين كأفراد نهائية غير قابلة للتغيير. إن مقولة جانب الدماغ الأيمن وجانب الدماغ الأيسر خرافة وليست حقيقة علمية صحية، ومن الخطأ الفادح نسبة القوة أو الضعف في مواد الدراسة إلى أحدهما أو التلميح بذلك.

إن القوة والضعف في المواد الدراسية من العلوم والآداب... أكثر تعقيداً من مجرد نسبتهما إلى هيمنة أحد الجانبين على الدماغ. إن المتعلّم قابل للتغيير أو التعلّم لأن الدماغ مرن بصورة لافتة للنظر وشديد التكيّف.

ثانياً: أما الخرافة الثانية المهيمنة على التعليم فهي مقولة أن المرء لا يستطيع تعلّم لغة أخرى بعد سن معينة، القائمة على مقولة الفترة (البيولوجية) الحرجة (Critical Period) لتعلّم اللغة أو اللغات الأخرى. إنها خرافة عصبية (من الأعصاب) أخرى ذات تأثير شائع على كيفية أو عملية التعليم.

تلتقي هذه الخرافة مع الخرافة السابقة في المفهوم السكوني (الزائف) للدماغ مع أن الفترة الحرجة ليست سوى لحظة من الزمن تنشأ بحضور مثير أو منبه لوظيفة بيولوجية.

ويوجد دليل على وجود عدد من الفترات البيولوجية الحرجة عند الإنسان في أثناء تطور بعض النواحي في الدماغ مثل قوة الإبصار أو السمع، إلا انه لا يوجد دليل يؤيد وجود فترة حرجة خاصة بتعلم المهارات الأكاديمية. إننا نسمع ونقرأ كثيراً عن خرافة الفترة الحرجة لتعلّم اللغة، وأن من المستحيل أو من الصعوبة بمكان على الأقل، تعلم لغة أخرى بعد سن معينة مثل السنة الثالثة أو الرابعة أو الثالثة عشرة أو الرابعة عشرة من العمر.
إن لهذه الخرافة جاذبية قوية لأنها تبدو صحيحة بالنسبة لكثيرٍ من الناس الذين عانوا في أثناء دراسة لغة أخرى في المدرسة ثم نسوها كلياً تقريباً بعد التخرج. إن كثيراً من البحوث تفيد بوجود فترات حساسة (Sensitive periods) خاصة بجوانب معينة مثل اللغة، لكن لا توجد فترات حرجة لتعلم اللغة. والفترات الحساسة أشبه بنوافذ للفرص التي يستطيع استغلالها المتعلم لتعلّم لغة أخرى. والدليل أن الأطفال الرضع قادرون أولاً على التعرّف أو التمييز بين الفونيمات (وحدات الكلام الصغرى التي تساعد على تمييز نطق لفظة ما عن نطق أخرى في لغة أو لهجة) في عدة لغات (كما في بعض الأسر المزدوجة اللغة) ويصبح الأطفال بعد ثلاثة أشهر إلى سنة من التعرّض لأصوات اللغات المختلفة في البيت أمهر في إصدار أصوات هذه اللغات التي سمعوها.
لعلّ هذا الأثر ناجم عن التعليم أو التهذيب العصبي (بإزالة الاتصالات العصبية الأقل فاعلية) من أجل زيادة كفاءة العملية الصوتية بوساطة الدماغ، أياً كان الأمر، توجد فروق فردية في تعلم لغة جديدة، فبعض الأفراد يستطيعون تعلم لغة أخرى بلهجة قريبة من اللهجة الأصلية لهذه اللغة. كما تشير دراسات أخرى إلى أن الراشدين الذين يتعلمون لغات أخرى، أسرع في الحقيقة في تعلّم مفردات جديدة في لغة ثانية، وأنه يمكنهم أن يفهموها بصورة أكثر قدرة من فهم الأطفال لها، وباختصار لا يوجد دليل علمي مؤكد على وجود فترة بيولوجية حرجة لتعلّم اللغات الأخرى.
لقد أخذت بحوث جديدة تحاول الكشف عن الفوائد المعرفية لتعلم لغة أجنبية في الكبر، بهدف تلطيف أو تأجيل اضطرابات عمرية ذات علاقة كالزهايمر. لقد أدت العولمة والهجرة في الولايات المتحدة كما في غيرها، إلى زيادة مثيرة في عدد المتكلمين بلغات أخرى الذين يلتحقون بالمدارس كل عام.

إن لفهم كيفية تعلم هؤلاء تبعات مهمة على جميع التلاميذ، وبخاصة أننا نعيش في عالم أصبح متعدد اللغات، وهو المتوقع لا الاستثناء، ويقدّر بعض الباحثين أن ثلثي سكان العالم خارج الولايات المتحدة يتكلمون أكثر من لغة بمهارة.

ثالثاً: أما الخرافة الثالثة فخرافة أن البنات أمهر من البنين في تعلّم القراءة (واللغات...) وأن البنين أمهر من البنات في تعلم الرياضيات والعلوم، مثل هذه الخرافة هو مثل الخرافتين السابقتين ولكن عن الفروق العقلية بين البنين والبنات الناجمة عن سوء التفسير لنتائج البحوث العصبية الصحيحة.

وهنا نبين: أن حجم الدماغ مرتبط بحجم الجسم لا الجنس، فالرجال – إجمالاً – أضخم أجساماً من النساء، ومن ثم فإن حجم كثيرين أكبر حجما دماغياً من كثير من النساء. وللنساء الأضخم أجساماً أدمغة أكبر حجماً من أدمغة الرجال الأصغر حجما جسمياً. وبعكس الاعتقاد الشائع لا يوجد ارتباط حجمي بين حجم الدماغ والذكاء أو التحصيل الأكاديمي.
وتوجد فروق مهمة بين النساء والرجال في التشريح الجنسي، وفي الأدوار الثقافية التي تؤدي إلى فروق بين الرجال والنساء في كل ثقافة لكن لا توجد ميزة متأصلة أو وراثية بين البنين والبنات على بعضهم البعض. تظهر البنات ميزة صغيرة على البنين في اللغة بوجهٍ عام، ولكن كثيراً من البنين أفضل في تعلم اللغة من معظم البنات. ويظهر البنين ميزة صغيرة على البنات – إجمالاً– في الاستدلال(Reasoning) المكاني، ولكن كثيراً من البنات أفضل في هذا الاستدلال من معظم الأولاد.
لا يوجد أي دليل عصبي علمي يؤكد أن أدمغة البنين أكثر ملائمة في ميادين أكاديمية معينة من أدمغة البنات والعكس صحيح. إن العالم كله يلاحظ اليوم تفوق البنات على البنين في الرياضيات والعلوم التي كنا نظن أنها حكر على البنين (إن معظم طلبة قسم الرياضيات في الجامعة الأردنية – مثلاً– بنات).

وعليه أخذ بندول البحوث ينتقل من كيفية تحسين أداء البنات في الرياضيات والعلوم إلى كيفية تحسين الأداء الأكاديمي في جميع المواد للبنين والبنات على السواء.

إن لكل متعلّم ضعفه وقوته في هذه المادة الدراسية أو تلك ولكن لا يوجد دليل على أن هذه القوة أو هذا الضعف محدد بيولوجياً بالجنس.

المطلوب إذن: الحذر والانتباه فلا يسارعنَّ أحد إلى الوقوع في فخ نتائج البحوث المتسرعة أو المشبوهة.