إثراء التعليم الجامعي من خلال العمل التطوعي المبرمج: حملة «دكتور صيدلة: نحو رعاية صيدلانية مثلى» أنموذجاً

27/06/2016

إعداد: أ.د. فراس علعالي و د. الصيدلانية زينب الصبح

مركز الرأي للدراسات

حزيران 2016

يشهد التعليم الجامعي في الأردن هذه الأيام تحديات وعوائق جمة، أبرزها: الازدياد المضطرد في أعداد الطلبة، يقابله نقص حاد في الكوادر التدريسية المؤهلة، وتزايد هجرة العقول والكفاءات، وضعف مخرجات التعليم العالي، وغياب تطبيق الأساليب والتقنيات الحديثة في التدريس، وغياب التعليم النوعي، والاعتماد على الأساليب التقليدية القائمة على التلقين والحفظ والخطابة.
كل هذه الأسباب وغيرها الكثير، أدى إلى تخريج أفواج من الطلبة إلى سوق العمل بمعارف ومعلومات نظرية في مجملها، ينقصها الخبرة والمهارة ومقومات النجاح من سلوكيات واتجاهات ومهارات أساسية وشخصية فاعلة قيادية وخلاقة، والتي تعتبر الأساس في التمكين لخريجي القرن الواحد والعشرين. إن أحد أهم أهداف الجامعات أن تخرج الطالب المتكامل والذي لديه روح المبادرة والرغبة في التعلم مدى الحياة ومزود بمهارات تساعد على تقديم المعرفة وتحقيق التغير الإيجابي.
سنركز في هذا المقال على جانب محدد من أدوات إنجاح وإثراء الحياة الجامعية للطالب بشكل ممنهج، وبما يتعدى التعليم النظري والمحاضرات الصفية والنشاطات الآنية، وذلك من خلال صقل شخصية الطالب وتمكينه وإكسابه مهارات عملية في التفاعل الناجع والتخطيط والإدارة والريادة والقيادة وتحمل المسؤولية وخدمة المجتمع، بالإضافة إلى تعميق المفاهيم المعرفية المنهجية بالممارسة العملية، وذلك يتم من خلال ربط التجربة بشكل مباشر وممنهج بالمخرجات التعليمية الكلية للبرنامج الأكاديمي أو المهني.
أصبح التعليم النوعي في هذه المرحلة الأساس في تحقيق مخرجات تعليمية محددة وممنهجة، تُحقق أهداف البرامج الأكاديمية، ورؤية الجامعة ورسالتها. في التعليم النوعي يتم التأكد من جودة المخرجات التعليمية ومن تحقيقها وتحققها لجميع الطلبة، كما يتم التركيز على إنضاج وإثراء شخصية الطالب، وإكسابه المهارات الأساسية من لغة التواصل والقيادة والعمل بروح الفريق والمهنية والتخطيط والإدارة وتنفيذ المشاريع وإيجاد الحلول وابتكارها، بالإضافة إلى تعميق مفاهيم الانتماء من خلال العمل التطوعي وخدمة مسيرة التنمية.
لا يتحقق التعليم النوعي إلا من خلال بناء خطط هادفة ونوعية، يتم فيها استحداث طرق وأساليب وأنشطة عملية خلاقة، لتطبيق ما اكتسبه الطالب من معلومات نظرية في الغرف الصفية، بطرق وأدوات تتناسب وشخصية الجيل الرقمي، وأبعد ما تكون عن الممل، فلا بد أن تكون مشوقة ومسلية في اَن معاً. فبالرغم من احتواء الخطط التدريسية المختلفة على العديد من المساقات المتنوعة الموزعة ما بين مساقات نظرية وأخرى عملية، إلا أنها تبقى ضمن أطر تقليدية، لا تقترب بالضرورة من واقع الحياة العملية، وتفتقر إلى إشراك الطلبة في عملية التعلم الفاعل. من هنا تأتي أهمية استغلال الأوقات التي يقضيها الطلبة في الجامعة، فغالباً ما يحتار الطالب بقضاء أوقات فراغه داخل وخارج الحرم الجامعي، ونقترح هنا أن تقوم الجامعات والكليات المختلفة بإثراء وقت الطالب ودعم مشاركته في الأنشطة والبرامج المكملة والداعمة للمنهاج، وربط هذه الفعاليات والمشاركات وتنظيمها ومتابعتها وتوجيهها لخدمة أهداف العملية التعليمية وتحقيق الكفايات المطلوبة.
على سبيل المثال، يمكن إقامة برامج وورش تدريبية متخصصة، ورحلات علمية، ومشاريع ميدانية، وبرامج للبحث العلمي، وفرص للعمل أثناء الدراسة، ومبادرات واعدة هادفة وحيوية تصل لقطاعات واسعة من المجتمع. الأصل أن تصبح هذه المشاركات جزء أساسي من متطلبات العملية التعليمية من خلال تشبيكها بالمخرجات التعليمية الكلية والكفايات الخاصة في المرحلة الجامعية، وألا تبقى رهن الرغبة وتوفر الإمكانيات، وذلك لدورها الفاعل والهام في تمكين الطالب من النجاح في حياته العملية.
فعلى سبيل المثال قد يطلب من كل طالب، أن يشارك في عدد معين من الأنشطة المتنوعة «اللامنهجية»، إضافةً إلى إتمامه المساقات الواردة في الخطة الدراسية، ليكون مؤهلاً للتخرج من الجامعة. من ناحية أخرى، وحيث أن من مهمة الجامعة الارتقاء بالمعرفة وتشجيع الابتكار والريادة فلابد لإدارة الجامعات من دعم هذا التوجه والايمان بقيمته، وتخصيص جزء من الميزانية لتمويله، واستحداث فعاليات وبرامج ومبادرات تطوعية دائمة ومتنوعة تتناسب مع التخصصات المختلفة للطلبة واحتياجاتهم ورغباتهم.
في نموذج واعد يمكن البناء عليه وتطويره وربطه في الخطط الدراسية والمخرجات التعليمية والاعتماد الأكاديمي، ما بدأته كلية الصيدلة في جامعة العلوم والتكنولوجيا الأردنية، عام 2011م، بإطلاق حملة طلابية للعمل التطوعي، تحت مسمى « دكتور صيدلة: نحو رعاية صيدلانية مثلى»، والتي ما زالت فاعلة إلى اليوم بمخرجات وانجازات واعدة، بإدارة وتنظيم كامل من قبل طلبة دكتور صيدلة، تحت إشراف عمادة الكلية ودعمها.
أكثر ما يميز هذا العمل عن غيره من النشاطات التطوعية، هو استغلاله لطاقات الطلبة في نفس المجال والتخصص الذي يدرسونه في الجامعة، وارتباطه الوثيق، وإن لم يكن ممنهجاً وعضوياً، بالخطة الدراسية والأهداف الكلية للبرنامج. فهدفت الحملة إلى تعريف المجتمع المحلي بتخصص دكتور صيدلة، ودوره في تحسين مستوى الرعاية الصيدلانية المقدمة للمرضى، وزيادة الوعي الصحي بين أفراد المجتمع الأردني. ومن هنا جاءت حملة «دكتور صيدلة نحو رعاية صيدلانية مثلى»، لتتماشى مع ما يتعلمه الطلبة في القاعات التدريسية، وانتهاج الأسلوب الأمثل لتطبيقه على أرض الواقع. يكتسب الطالب المشارك في الحملة مهارات التواصل مع المرضى والأصحاء من العامة، يقدم لهم المشورة الصحية والدوائية المناسبة، ويتطرق معهم لمختلف الأمراض وكيفية علاجها ومتابعتها والوقاية منها، ويواجه أسئلتهم واستفساراتهم ويجيب عليها، فيستغل الطالب ما اكتسبه من علم ومعرفة لخدمة المجتمع، فلا يحفظ المعلومات لتفريغها على أوراق الامتحانات، ويهملها بعد ذلك، وكأنها أدت مهمتها التي وجدت من أجلها. الواقع أن هذا الشكل من الأعمال التطوعية نجح في تحسين مخرجات التعليم الجامعي، فأصبح الطالب ينظر للدراسة والعلم بتقدير ووعي أكبر للتخصص، وكوسيلة لتحقيق ذاته وتنمية قدراته، بدلاً من أن تكون سبباً للمشقة والتعب في سبيل الحصول على علامة النجاح والتفوق الأكاديمي فقط. من جانب آخر، تميزت هذه الحملة بأسلوب إدارتها واستمراريتها لمدة خمس سنوات حتى هذه اللحظة، على الرغم من اختلاف أعضائها والطلاب المشاركين فيها، فقد اعتمدت الحملة منذ تأسيسها على قواعد ومبادئ تضمن تداولها وانتقالها بين الدفعات، دون أن تقتصر على فئة معينة من الطلبة وتنتهي بمجرد تخرجهم، إنما يتنوع أعضاء الحملة ما بين طلبة سنة سادسة وخامسة ورابعة. فيتعلم كل طالب من خبرة زملائه الذين سبقوه في سنوات الدراسة، ويتم انتخاب إدارة جديدة وانضمام طلبة جدد وتدريبهم على مسك زمام الأمور قبل نهاية كل عام دراسي، فتضمن الحملة متابعة نشاطاتها وانتقالها من جيل إلى آخر من الطلبة.
في الحقيقة، يعتبر الطلبة حجر الأساس لهذا النموذج من العمل التطوعي، فمع وجود الإشراف الأكاديمي والدعم المستمر من قبل عمادة كلية الصيدلة، ضرب الطلبة في هذه الحملة مثالاً يحتذى في تحمل المسؤولية باقتدار، والتخطيط والتنسيق لكافة نشاطاتها وفعالياتها على مدار السنة.
فعلى الجانب الميداني، نظمت الحملة حتى هذه اللحظة لما يقارب 30 يوما طبيا وصيدلانيا مجانيا في مختلف مناطق المملكة، كإربد والرمثا وعجلون والمفرق وعمان وجرش ومادبا والزرقاء وغيرها، وبالتعاون مع العديد من المدارس والجمعيات الخيرية والمراكز الصحية، قدم الطلبة خلالها التثقف الصحي حول مختلف الأمراض والمشاكل الصحية الشائعة بين أفراد المجتمع بالإضافة لتقديم المحاضرات التوعوية وإجراء الفحوصات والمشاركة بالمؤتمرات والمعارض الصيدلانية.
ومن الناحية الإعلامية، استطاع الطلبة تشكيل لجنة متخصصة هدفها إشراك الطلبة بنشر الوعي الصحي من خلال تجهيز نشرات طبية ومقالات صحية من إعداد الطلبة، وتحت إشراف وتدقيق أعضاء الهيئة التدريسية بالكلية، ومن ثم نشرها بشكل دوري ومنتظم في الصحف الرسمية والمواقع الإلكترونية.
وقد وصل عدد المقالات المنشورة إلى 65 مقالاً علمياً حتى الآن، نشر معظمها في جريدتي الغد والرأي اليوميتان، هذا بالإضافة لإنشاء صفحة خاصة على موقع التواصل الاجتماعي الفيس بوك وموقع إلكتروني خاص بالحملة للتواصل الفاعل والأرشفة ولإتاحة المعلومات للجميع.
استطاعت الحملة على مدى الخمس سنوات الماضية من إشراك ما يقارب 400 طالب وطالبة من تخصص دكتور صيدلة في فعالياتها المختلفة، والذين استطاعوا بدورهم خدمة ما يقارب نصف مليون مواطن أردني وبدعم من القطاع الدوائي ناهز ال 200 ألف دينار أردني.
ناهيك عما اكتسبه هؤلاء الطلبة من خبرة التواصل المباشر مع المرضى، ومهارة التعامل معهم وصقل الشخصية والتخطيط والعمل الجماعي وإدارة المشاريع، وتعتبر هذه المهارات مقومات نجاح الخريج الجامعي القادر على دخول سوق العمل ومواجهة تحدياته.
يبقى هذا النموذج غير مكتمل لاعتماده على مشاركات فردية من الطلبة، فاقتصر على أولئك الراغبين بالعمل والتطوع، والأمثل أن تستغل مثل هذه المشاريع لتطوير برامج متكاملة يشارك فيها الجميع دون استثناء فتكون جزءاً من برنامج الدراسة الجامعية ومتطلباً اجبارياً لإتمامها.
*يمنع الاقتباس او اعادة النشر الا بأذن خطي مسبق من المؤسسة الصحفية الاردنية - الرأي.