منهجية الملك المؤسس ومنطلقاته في بناء الدولة الأردنية

03/08/2016


د. احمد خليف العفيف

بتاريخ 20/تموز /1951 عاش الاردن يوما عصيبا في تاريخه الحديث نتيجة ما تعرض له من مؤامرة دنيئة حاكتها قوى الغدر والخيانة ادت الى احداث فاجعة ادمت قلوب الاردنيين بشكل خاص والعرب الشرفاء بشكل عام. هذه الفاجعة التي ثمتلت باغتيال الملك عبدالله الاول الذي كان يعد في ذلك الوقت ابرز الزعامات العربية التي تقود حركة التحرر والوحدة العربية في ذلك الوقت .وقد توج رحمه الله بذلك نضاله المجيد في سبيل الدفاع عن عزة وكرامة الامة بالشهادة والانضمام الى ركب الشهداء الابرار الذين عطروا بدمائهم وانفاسهم الزكية تراب الاردن منذ بداية الفتح الاسلامي

وعلى الرغم من ان هذا العمل الارهابي الجبان كان يهدف الى احباط توجهات القيادة الهاشمية الوحدوية واجهاض مشروعتها النهضوية الا انه لم ينجح في مسعاه , بل زاد القادة الهاشميون الذين توالوا على حكم الاردن بعد استشهاد المؤسس عزما وتصميما على السير قدما بخطى ثابتة نحو تحقيق طموح

الامة الذي جسدته الثورة العربية الكبرى بالوحدة والحرية والاستقلال .

والاحتفال بمئوية الثورة خلال هذا العام خير شاهد على ذلك وتاتي اهمية الحديث عن ابراز حقيقة منهجية ومنطلقات المؤسس في بناء الدولة الاردنية التي ارادها ان تكون قاعدة للدولة العربية الموحدة التي تحقق اهداف الثورة العربية الكبرى, اذا ادركنا ان قوى الغدر والخيانة والتي تشعر دائما بعقدة النقص امام التفوق القيادي للقيادة الهاشمية-لم تكتف عند حد اغتيال المؤسس بل تسعى على الدوام من خلال العديد من اصحاب الاهواء والادعاءات والاقلام المأجورة الى تشويه حقيقة نضال الهاشميين المجيد المنبثق من قيم الامة ومثلها العليا والمتطلع ايضا الى تحقيق عزة الامة وكرامتها بالمقام الاول منذ عهد الشريف حسين حتى الان وتهدف هذه الادعاءات المأجورة بالاساس الاول الى زعزعة وتشويش قيم الولاء والانتماء المترسخة عند ابناء الاردن تجاه قيادتهم الهاشمية هذه الامر الذي يعد الاساس المتين في ايجاد الدولة الاردنية القوية القادرة على مواجهة كافة التحديات واداء رسالتها العربية الاسلامية

لذا تفرض متطلبات الامن الوطني الاردني في مواجهة الادعاءات الكاذبة التي تسعى الى النيل من عزة وكرامة الاردن تقديم الصور الحقيقية بروح الموضوعية العلمية لحقيقة الجهودالعظيمة التي بذلها مؤسس الدولة الاردنية في بناء الدولة التي ارادها ان تكون دولة العروبة والرسالة والهاشميين الاحرار والتي شكلت على الدوام مظلة الامان لكل العرب والمنبر الحر المدافع عن امالهم وطموحاتهم .و هذا ما يتضح من خلال استعراض طبيعة الظروف والاوضاع التي تاسست في اطارها الدولة الاردنية والاسس والثوابت التي قامت عليها

لقد جاء تأسيس الدولة الأردنية عام 1921، نتيجة لتفاعل مجموعة من العوامل السياسية المحلية والعربية والدولية، فقد كان نتيجة لسقوط سوريا تحت الاحتلال الفرنسي على إثر معركة ميسلون عام 1920، إن تحرك الأمير عبد الله بن الحسين على رأس حملة عسكرية من الحجاز إلى سوريا، وجاء هذا التحرك بتكليف من والده الشريف حسين تجاوباً مع الرغبة العربية في سوريا التي استغاثت به بصفته زعيم الأمة ومعقد رجائها.

وبعد أن وصل الأمير عبد الله بقواته إلى عمان في21/ آذار/ 1921 - رغم كل التهديدات البريطانية التي واجهته منذ وصوله إلى معان في 5/كانون الأول/ 1920 - تكشف له جملة من الأمور لم تكن واضحة من قبل، دفعته إلى التراجع عن النهج العسكري في تحرير سوريا واللجوء إلى أسلوب العمل الدبلوماسي، تمثل أهمها بالتفوق العسكري للقوات الفرنسية بالمقارنة مع قواته من حيث العدد والعدة، والمدعومة في الوقت نفسه من حليفتها بريطانيا إضافة إلى حالة الفوضى والجهل المستشرية في جميع الأقاليم السورية الأمر الذي جعله يدرك عدم إمكانية نجاحه في مسعاه من خلال العمل العسكري. لذلك قبل بالعرض الذي قدمته الحكومة البريطانية له، بتأسيس دولة في الأردن برئاسته ومشورة المندوب السامي البريطاني، وقد قدمت بريطانيا هذا العرض مرغمة، بسب عدم قدرتها على الدخول في حرب مع الأمير في مناطق صحراوية مفتوحة، نتيجة حالة الضعف التي كانت تعاني منها بعد خروجها مرهقة من الحرب العالمية الأولى. خاصة بعد أن أدركت شدة عزم الأمير على حرب الفرنسيين، وحجم الشعبية الواسعة التي حظي بها قدومه إلى الأردن.

وفي الوقت نفسه كان قبول الأمير بعرض الحكومة البريطانية ليس أكثر من خطوة أولى، فرضتها الظروف القائمة، أراد من خلالها جعل الأردن نقطة انطلاق بعد أن تتهيأ له الإمكانات التي تمكنه من تحقيق هدفه المنشود بتحرير سوريا الكبرى. وقد عبر عن ذلك بقوله: «كنت أحتاج إلى قطعة من الأرض أرتب عليها أموري، وأدرس عندها إمكاناتي، وأعيد فيها حساباتي ثم أستعيد ضمن وحدة واحدة شاملة... حق الأمة العربية في الاستقلال الناجز... إن الأردن... سيبقى حقاً عربياً يشترك فيه السوري والحجازي واللبناني والفلسطيني بقدر ما يشترك فيه الأردني».

إن هذا الفكر العربي الوحدوي للأمير انعكس منذ البداية بشكل واضح في منهجيته في بناء الدولة الأردنية، التي أرادها أن تكون قاعدة للدولة العربية الموحدة تتحقق من خلالها أهداف الثورة العربية، وهذا ما يتضح من خلال الأسس التي انطلق منها في بناء الدولة والتي برزت من خلال ثلاثة مسارات رئيسية هي:

أولاً: تحقيق الوحدة الوطنية والارتقاء بالمجتمع الأردني: فقد كان المجتمع الأردني عند قدوم الأمير عبد الله يعاني العديد من المشاكل تمثل أهمها بالجهل والتخلف والأميّة، والصراعات القبلية وضعف الموارد، والتي تشكلت في مجملها بفعل فساد الإدارة العثمانية السابقة، وحالة الفراغ السياسي التي عمت البلاد بعد انهيار الدولة العثمانية.

ومن منطلق فهم الأمير العميق الناتج عن خبرته السياسية الواسعة رأى أن المطلب الأول للدولة القوية هو المجتمع السليم المتماسك، لذلك سعى بكل جدية - مستغلاً كافة الإمكانات المتاحة – للقضاء على حالة الصراع التي كان يعيشها المجتمع الأردني، وإرساء كل العوامل التي من شأنها تحقيق أمنه واستقراره من خلال تشكيل حكومة عربية قوية قادرة على استخدام صلاحياتها القانونية والدستورية وجيش عربي قادر على تحقيق الأمن الداخلي والدفاع الخارجي ومجلس نواب منتخب يمارس مهمة التشريع. إضافة إلى إقرار كل عوامل الاستقرار والتنمية من مؤسسات تعليمية وصحية وأمنية وطرق مواصلات ومشاريع خدمية، وتشريعات تنظيمية ملائمة لطبيعة تكوين المجتمع في ذلك الوقت. ومن جانب آخر سعى إلى ترسيخ العلاقة ما بين القوى الاجتماعية والدولة للقضاء على حالة البداوة التي كانت سمة غالبة على المجتمع الأردني من خلال ربط أبناء القبائل بمصالح الدولة الثابتة المدنية والعسكرية.

لذلك لم يمض وقت طويل على تأسيس الدولة حتى بدأ المجتمع الأردني يتحول نتيجة سياسة الملك عبد الله الأول من حالة الصراع والجهل إلى حالة الأمن والاستقرار والتطور، ومن حالة الانتماءات القبلية والجهوية الضيقة إلى حالة التواصل مع الواقع العربي بكل أبعاده ومجرياته، ومن حالة الانهيار والتراجع إلى حالة التنمية والتطور، ليشكل بذلك بيئة سليمة لاحتضان مبادئ الثورة العربية الكبرى والمشروع النهضوي العربي الهاشمي.

ثانياً: إعطاء الأردن وجهاً عربياً شاملاً: تمثل المسار الثاني الذي جسد سياسة الملك عبد الله الأول في بناء الدولة الأردنية بإعطائها وجهاً عربياً شاملاً من حيث الأسس والملامح والأهداف، بالشكل الذي يؤهلها لأن تكون قاعدة للدولة العربية الموحدة، وهذا ما يتضح بكل جلاء من خلال اعتماده طوال مرحلة حكمه الممتدة من سنة 1921-1951، على فريق موسع من رجال الحركة العربية الذين مثلوا الأردن وسوريا ولبنان وفلسطين والحجاز والعراق في جميع المناصب المدنية والعسكرية وعلى كافة المستويات، كما أعطى الجيش اسم الجيش العربي وبناه وفقاً لذلك على عقيدة قتالية جعلته يؤمن بأن مهمته الدفاعية لا تنحصر في الأراضي الأردنية فحسب، بل في جميع الأراضي العربية، لذلك جعل أبواب الجيش مفتوحة أمام جميع العرب كجنود وضباط.

كما تجسدت هذه الرؤية العربية الوحدوية للمؤسس في بناء الدولة من خلال منهجه في الجانب التشريعي للدولة، حيث أطلق على الجهة المشرعة اسم مجلس الأمة وجعل الأمة هي مصدر السلطات بدلاً من الشعب كما هو الحال في تشريعات العديد من الدول العربية.

والتزاماً منه بهذا النهج العربي الوحدوي، جعل الأردن طوال حكمه مركز ونقطة انطلاق للحركات الثورية العربية ضد القوى الاستعمارية في سوريا ولبنان وفلسطين، مقدماً كل دعم مادي ومعنوي لها، على الرغم من القيود الانتدابية البريطانية الصعبة المحيطة به، وإمكانات دولته المحدودة.

ثالثاً: تحقيق استقلال الأردن وسيادته: كان من أهم متطلبات بناء الدولة الأردنية بما يحقق أهداف الملك عبد الله الأول سالفة الذكر، هو الاستقلال وإنهاء السيطرة الانتدابية البريطانية، وقد تمكن من تحقيق هذا الأمر من خلال عدة محطات، متبعاً سياسة تقوم على أساس خذ وطالب على أساس التحرك العقلاني التدريجي المحسوب الخطوات، الذي يقوم على مبدأ التغيير من خلال التحديث والتطوير وليس التثوير. وتمثلت أولى إنجازاته في هذا الإطار بإخراج الأراضي الأردنية من مشروع الدولة اليهودية المقر بموجب وعد بلفور والذي شمل بموجب صك الانتداب البريطاني إضافة إلى الأراضي الفلسطينية جميع الأراضي الأردنية الواقعة إلى الغرب من الخط الحديدي الحجازي، حيث تمكن بحنكته السياسية من إرغام بريطانيا على إجراء تعديل على الحدود بين الأردن وفلسطين في 22/ أيلول/ 1922 لتصبح على امتداد نهر الأردن ومنتصف البحر الميت ووادي عربة إلى الغرب من خليج العقبة. ولولا هذه الخطوة لامتد النشاط الصهيوني في الأردن مثلما امتد في الأراضي الفلسطينية. وجاءت المحطة الثانية في 25/ أيار/ 1923 حيث أدت جهوده المتواصلة مع بريطانيا من أجل الاستقلال إلى إلزامها بفصل إدارة الأردن عن إدارة الاحتلال البريطاني لفلسطين وإخضاعها لإدارة انتدابه محققاً بذلك الاستقلال الإداري وإنهاء السيطرة العسكرية البريطانية المباشرة.

وفي عام 1928 حقق خطوة أخرى على طريق الاستقلال تمثلت بتوقيع المعاهدة التي اعترفت بريطانيا بموجبها بالأردن كدولة لها شخصية ووجود على الخريطة السياسية الدولية، وإن كانت منقوصة السيادة بسبب ظروف الانتداب، الأمر الذي كان من شأنه تحجيم المطالبات الصهيونية المستمرة التي كانت واسعة غير مقيدة.

وبعد ذلك تواصلت جهود الأمير في هذا الإطار - رغم كل العراقيل التي كانت تصطنعها بريطانيا لعرقلة مساعيه حيث كانت تدرك أن هدفه من الاستقلال هو الانطلاق نحو توحيد سورية الطبيعية - إلى أن تمكن في 25/ أيار/ 1946 من انتزاع استقلال الأردن وتحقيق السيادة الوطنية متبعاً في سبيل ذلك سياسة عقلانية حكيمة أقنعت المجتمع الدولي في ذلك الوقت أن الأردن أصبح في مستوى الاعتماد على النفس دون الحاجة إلى وصاية دولة أجنبية.

وبعد ان تمكن رحمه الله من تحقيق استقلال الاردن اخذ يسعى بكل جديه لتحقيق هدفه الاكبر المتمثل في اعادة توحيد الاقطار الشامية (الاردن سوريا لبنان فلسطين)في اطار دولة واحدة واعادتها الى سابق عهدها بالشكل الذي يتفق مع طموح ابنائها وإزالة كل االحدود والتقسيمات التي وضعها الاستعمار في اتفاقية سايسكس بيكو .

وقد نجح بتحقيق اول خطوة في هذا الاطار عام 1950 ممثلة بوحدة الضفتين في اطار المملكة الاردنية الهاشمية لتكون اول وحدة حقيقية في تاريخ العرب الحديث وكان نتيجة هذا الانجاز العظيم الذي لايتفق مع مصالح القوى الاستعمارية والصهيونية وعدد من الزعامات العربية التي تخشى على مصالحها الشخصية من تحقيق مشروعات الهاشميين الوحدوية ان دبرت له مؤامرة الاغتيال لاجهاض مشروعاته ممثلة بمشروع سوري الكبرى والهلال الخصيب التي اصبح تحقيقهما خلال هذه المرحل قاب قوسين او ادنى .

لقد ابرز استشهاد الملك المؤسس صورة رائعة تجسد نزاهة فكر القيادة الهاشمية وارتباطها الوثيق بقيم ومثل الامة فقد خرج رحمه الله مجاهدا في سبيل الدفاع عن عزة الامة وكرامتها من المسجد الحرام وقضى شهيدا الى جوار ربه من المسجد الاقصى وسبحان الذي ربط بين رسالة الهاشميين والمسجد الحرام والمسجدالاقصى هذا الربط الذي بدأه الرسول صلى الله عليه وسلم في رحلة الاسراء والمعراج.