مراسل متحرك جعل من الأحداث الساخنة عالماً يضج بالإبداع

17/01/2017

كتب - إبراهيم السواعير

يتوافر الوزير الأسبق الإعلامي الكاتب صالح القلاب على طاقة لغويّة هائلة، وخيوطٍ من القصّ الماتعة تجعل «حكاياته» المئة، أو قصصه الإخباريّة، التي كان نشرها تباعاً في «الرأي» أشبه ما تكون برواية ضخمة يبرز فيها المكان متوهّجاً، مثلما نتداول شخوصها الذين يتهاطلون، فتتقبّلهم العين وتغمض على أحزانهم وطموحاتهم وأزمانهم، التي هي في الواقع ليست غير أحزان الكاتب وطموحاته وأزمانه، وهو الذي عاين كثيراً وبثّ رسائل متقدّمة جدّاً وغير مملّة، مستفيداً من مقدرته الفائقة في شدّ القرّاء والسير بهم في بانوراما محليّة وعربيّة وعالميّة نحو آفاق أرادها هو، باتكائه على الحكاية..

وهي الحكاية الساحرة التي يبدو فيها الشعر والنثر والسّرد «الجميل» فنّاً ينمُّ عن ذائقة رجلٍ مجرّبٍ، حكيم، ينتمي إلى ذلك الرعيل الذي زوّدته الحياة بزادٍ لا ينضب، فعرف كيف يقتنص التشبيه الآسر واللقطة الحميمة، ويستدعي التاريخ، في حواراتٍ إنسانيّةٍ ثريّة، لا ينسى أن يتخللها كلّها، بوصفه بطل النصّ وصانعه الذي تنطلق منه كلّ الأحداث وتعود إليه، وتظلّ تجري حوله، فهي مؤثثات ذكيّة لهذا النص أوذاك مما عرفه به القرّاء في زاويته المنتطمة في الرأي «حكايات».

وعنايةً منها بكتّابها وترويج منتجهم القيّم على صفحاتها وإفادة جمهرة القرّاء بها، تطبع المؤسسة الصحفيّة الأردنيّة «الرأي»- مركز الرأي للدراسات، هذه الحكايات المئة في كتابٍ، تقدّم في متنه خبرة القلاب الإعلاميّة والسياسيّة والصحفيّة وتتيح مجالاً خصباً للوقوف على فلسفة هذا «الرحّالة» في ارتياده آفاقاً جديدة، وتنبيهه على قضايا «عظيمة» تُطلّ مرّةً حييّةً وأخرى صريحةً، في سطورٍ إن أردتها أدباً ساخراً كانت، وإن عاينتها قصّةً مكتملة الأركان وجدتَ فيها اشتغالاتٍ واشتعالاتٍ وحواراتٍ وشخوصاً وأحداثاً وأزمنةً وأمكنة وتفرّعاتٍ أو مرايا تعكس ما تنطوي عليه نفوسٌ تصالحت أو تباعدت، لتحمل «بيت القصيد» الذي يبتعد به الكاتب عن طريقة التربويين أو الوعّاظ الجافّة، وإنّما يجيء تلقائيّاً عبر أسئلته و»شطحاته» منسجماً مع الوعاء اللغوي الأصيل وما يكتنز به من انفعالاتٍ مستحسنة ينسجم معها القراء وتؤكّد أنّ القلاب لا يحايد مطلقاً في ما يقصّه عبر الصفحة أو الصفحتين من هذه الحكايات التي تستثمر لوناً صحفيّاً مهمّاً يُعدّ في بنائه الأدبيّ المتميّز غايةً في الإمتاع والاستئناس. وذلك ما أكّده مدير مركز دراسات الرأي الدكتور خالد الشقران من أهميّة تعريف الأجيال بما قدّمه الرواد من منتوج معرفي وإبداعي، وهو ما يتجلّى في فعاليات المركز المستمرة ومنشوراته التي تلبي حاجة الباحثين وفي الوقت ذاته تقدّم لصانع القرار والمهتمين ما يجعلهم على تواصل بكلّ المستجدات، خصوصاً والمركز يقدّم للقراء والمتابعين حكايات كاتب وإعلامي بحجم القلاب في مشواره الصحفيّ المهم.

القرية والناس

في حكاياته الريفيّة ظهرت «العالوك» قرية الكاتب المحببة مغناطيساً تنجذب إليها كلّ القرى والمعالم التاريخيّة والوديان والغابات والشخوص الذين يسيرون في محيطها وخلالها، ليعطيها القاصّ صفة القداسة مستفيداً مما منحتها المخيّلة الشعبيّة من أسطَرَة تضاهي وجوارها الجغرافي أكبر الأدغال العالميّة في هذا المجال. لم ينس القلاب أن يصف عادات الناس وحراكاتهم ومواسمهم وأغنامهم واقتصادهم وطموحاتهم البريئة حيناً والصعبة في كثيرٍ من الأحيان في تأكيدهم وجودهم وخلقهم عالمهم الخاص بهم الذي يتنافذون من خلاله على كلّ القرى الأردنيّة والعاصمة وعوالم السياسة ومتغيرات الحياة.

وفي ذلك يبرز «وادي خريسان» والزرقاء و»حدد» ومصطلحات ارتبطت بهذا المكان الأسطوريّ، آثر القلاب أن يحفظها من الضياع وأن يترك للجيل القادم وهذا الجيل شيئاً مما عاصره الأوائل وصبروا عليه لتزدهر الحياة وتستمر، فكان بارعاً في استثمار ذلك وطرح أسئلة تلقائية ليست ثقيلةً تربط بين الأمس واليوم، وهي أسئلة ظلّ يعود إليها ويجعلها مادّةً للمقارنة والقياس حتى في أحاديثه في أرقى الفنادق وأفخم المناسبات التي كان فيها صحفياً أو مراسلاً متحركاً جاب العالم كلّه في مشواره الطويل.

القلاب الذي يحتفظ بذكرياته في كليّة الشهيد فيصل الثاني التي درس فيها، امتدّت عينه على المدّ القوميّ وقراءة واقع العروبة المتشظّي، فمرّةً تراه في لونٍ باكٍ حزين ضاجّاً بالشكوى مستدعياً التاريخ، تنساب بين يديه الجملة لتشكّل جملاً عبقريّةً مكتملة أركان البلاغة في الاسترسال والصمت، لدرجة أنّ القارئ يعيش مع الكاتب ويعيش تعاطفه مع قضيّة فلسطين و «أبو عمار» والحاج أمين الحسيني وكلّ هذا الإطار وثورة الجزائر ومع أخواله وأعمامه وناسه وأصحابه وأصهاره ووصفه الباهر لبيارات البرتقال «المحرّمة»، وبغداد.

رومانسية الحلم

على صعيد التنشئة النفسيّة التي مدّت القلاب بوفرة رومانسيّة وخيوط دراميّة يبدو حنين الكاتب إلى روضته الأولى التي هي ليست غير قاع شجرة البلوط المعمّرة، برسوم لا تتعدى «البيضة والرغيف» بحسابات ذلك الزمان، حيث خطيب القرية وصرامة الأستاذ ورحلة باص جرش، وحيث «الغولة» و»الضبع» و»المفاولي» وأمور ذات علاقة أبدعتها يراعة القلاب الذي استثمر الفكرة وجوّدها في حكايات بين الحقيقة والأسطورة ليدلّ على عذابات السنين، مما يؤهّل هذه الحكايات لتكون سناريوهات جاهزة لمسلسلات وأعمال توفّرت فيها المادة الشائقة واللهجة التي امتحنها كاتب بحجم القلاب معتّق بالأصالة، امتدّ من هذا الإطار الجغرافيّ الأوّل إلى إطار أشمل وأعمّ نحو المناسبات الوطنيّة والبطولات القوميّة والتاريخيّة التي نشأ عليها وتمرّس في ظلالها، منذ أن جسّد في القرية على مرأى أهله والناس بكلّ أنفة دور خالدٍ بن الوليد، بما يضفيه على هذه البطولة ومثلها من مفارقات بين الأمس واليوم، حيث أهازيج النساء والزغاريد والنذور والطقوس وتعلّق الناس بالبطولات واعتقاداتهم ومعرفتهم ووعيهم، وكلّ ذلك أسهم بشدّة في تنشئة قويّة ورومانسيّة حالمة في الآن ذاته لصالح القلاب بطل الحكايات ومخرجها والمتحكم بتصاريفها ونوازعها ومجترحاتها وظلالها وثيمها وما تأخذه في طريقها من إسقاطات ذكيّة، لتكون هذه البطولات بيئة خصبة يتفتّق خلالها ذهن الكاتب السياسيّ والمذهبيّ الأيديولوجيّ، وينشأ متمرّساً قبل أن يجول بلاداً بعيدةً فينسج حولها أروع الحكايات والتساؤلات، لنظلّ معه نتنقّل بين سيل الزرقاء وقصر شبيب وجرش وعجلون وعمان والبوادي في قصص لا تبدأ السطر الأوّل فيها حتى تنتهي من السطر الأخير، فتقف على ألوان بديعة من الشعر النبطي والفصيح والأمثال والتراث الثقافي غير المادي الذي يشكّل جهداً حقيقيّاً لو انتبهت إليه منظمة بحجم اليونسكو لبادرت إليه بالنسق الذي وضعه صالح القلاب بين علامات التنصيص لتتفرّع الحكايات بهمّة رجل من أبائنا الأولين الذي يمتلكون سحرهم الخاص في «السرد» الذي يُدرّس اليوم في مساقات الأدب العربيّ ويتخصص فيه الطلبة ويسير على هديه المبدعون.

مغامرات إنسانية

لم تقف الحكايات عند الشأن المحليّ أو التوثيق الدرامي بالحس السياسي للجغرافيّة الأردنيّة، بل امتدت ليصلنا بها صالح القلاب بالبيئة العربيّة وجوارها العالمي وما هو أبعد من جوارها، حيث يعتمد الكاتب الأسلوب ذاته في منح القصّة حياةً بما أوتي من عزم أدبي ومقدرة لغويّة وإمكانات صحفيّة ومعارف وقبل كلّ هذا وذاك بما تنطوي عليه نفسه المتعبة الحالمة التي استمرأت التطواف والتعرّف على الناس والمدن والنفسيات المعذبة في إطارها الإنسانيّ، لنستدعي معه التاريخ ونحاور الشخوص ونشاركهم آلامهم، في ردهات الفنادق متمثلين أدقّ الطقوس وتفاصيل العادات وجماليات المدن، والتشبب بالمليحات، فنقف على ما يؤكّد أن السَّفر هو محكّ الصحفي وأنّ مغامرات صالح القلاب ومن سار سيره في عالم الصحافة لا يمكن أن تتوفّر منقادةً لصحفي يتكلّس في فندق مريح، أو يتغطّى ببروتوكوليّات جافّة، بل يتجاوزه لينقّب ويقرأ ويفرح بمتاعب مهنة هي «أمّ المتاعب» كما يرددها هو في كثيرٍ من الحكايات.

اشتغل القلاب على المدن والمطارات والقطارات والأسواق مادّة للحكايات التي جاءت في فترة سابقة لما سمّي بـ»الربيع العربي»، وفي السياق تعرّف إلى «داتا» ضخمة من كينونات هذه المدن وعلائقها السياسيّة وثقافاتها وروابطها مع المنطقة العربيّة، حيث مرّر القلاب هذه الداتا بأسلوب أبعد ما يكون عن دروس التاريخ والجغرافيا، بل كان يتخلل بلطف مجموعة الحوارات والتساءلات والوقوف على المفارقات، فما بين الفندق والمطار عالم إنساني وسياسي مهم ظلّ القلاب يحرص على اقتناصه، كما في رحلاته في «كابول» وأخطار حظر التجول وحواراته مع الناس وسائق السيارة ونفاذه إلى النفسيات والسلوك العام والخاص، وفي كلّ ذلك كان يحشد في ذهنه موادّ أوليّة استطاع تهذيبها وتشذيبها، في التاريخ والسياسة وجغرافيّات المدن وأديانها وحكّامها، فهي ثقافة عالية توفّرت لكاتب أشبه بالرحّالة الذي تتفرّع من حكاياته الحكايات، فيشرع بالاستذكار ثمّ يعود إلى الحكاية الأم، وقد أطفأ ظمأ متلقيه فناب عنه في كثيرٍ من التفاصيل.

سحر المكان

طوّف الكاتب بأفغانستان والمنطقة العربيّة، في سوريا ولبنان والأردن وفلسطين، والعراق، واليمن، وطهران، وطوكيو، والصين، وفيتنام، وهانوي، وفرنسا، وأمريكا، وعاين في هذا التطواف جملة المذاهب السياسيّة وحريّات الشعوب أو معاناتهم، واقفاً على قداسة «هوشي منه» و»ماوتسي تونغ» السياسيّة لدى الشعوب، متقصّداً أن يملأ ذهن القارئ بما كانت عليه دول من مثل فيتنام قبيل تحررها ومجابهتها الغازي ومن بعد، وأن نتعاطف من خلال هذا «الرفيق» مع الدول والشعوب المقهورة، ونقف بحسرة على مشاهد الدّم واغتيالات الصحفيين.

ولأنّ «الحكايات» لا بدّ وأن يمسّها غبار السياسة والتاريخ واستعادة الكاتب للماضي التليد أو وقوفه على الواقع المرّ أو استشرافه للمستقبل الصعب، فإننا واقفون على انفعالات تنفجر هكذا دفعةً واحدة بكلّ فطريّتها وإلهام صاحبها، كما في رثائه «مرتا بنت إلياس» ومناداته أجداده الفنيقيين، ومروره على كلّ هذا الخضمّ الذي يتخلل أحاديثه وحواراته مع «الآخر» شريكَهُ في الخلق والإنسانيّة خصوصاً في القارة السمراء التي يقرأ أيضاً علاقتها مع شمالها العربي، كما في علاقات موريتانيا والسنغال باريس القارة الإفريقية، التي تجاوز معيقات فيها كثيرة للوصول إلى عمق شاعر إفريقيا وحكيمها ليوبولد سنغور.

يبدو «الهنود الحمر» ثيمة قويّة يبثّها الكاتب هموم السكان الأصلين أمام الهجمات والصراع غير المتكافئ، متنافذاً على التمييز باللون وجملة من التمييزات الأخرى، كما يستحضر القلاب حروباً قريبةً وخسارات عربيّة ليست بعيدة في حواراته، معبّراً عن ذلك مرّةً بالتفاخر وأخرى بالخذلان المبين، وثالثة بالتصالح مع هذا الواقع المرّ الأليم.

كما يعايش القلاب كلّ أنواع القهر التي تعترض طريق الصحفي أو المراسل المتحرك الذي يقرأ بعين ثالثة حسرة المواجهات العنصريّة ويقلق لهذه المتغيرات الإنسانيّة، ليندمج القارئ مع روح الكاتب المتوثّبة للمعرفة والاستزادة، والتي تفيض علينا بطيوف تتكئ على علاقة العرب مع هذا البلد أو ذاك محطّ الحديث، خصوصاً في حديثه عن تاريخ العرب والعثمانيين و»السفربرلك» أو التجنيد الإجباري والهجرة القسرية، ليسير سيراً طبيعيّاً راسماً صورة دراميّة تشدّ القارئ وتجعل من الكاتب شخصاً غير عادي أو استثنائيّاً في لحظات الترقب وحبس الأنفاس في مطارات فرنسا وتركيا وهيثرو وداكار وسواها من المطارات قيد السفر أو الترحال أو البحث.

عالمٌ ليس بسيطاً نعيشه مع القلاب في داكار وأفغانستان ولندن عاصمة الضباب والصحف اللبنانيّة واللندنية التي عمل فيها وانطلق منها ليجوب هذا العالم فيعايش أمَرَّ الاغتيالات وأقساها وأشدّها وحشيّةً وهو يسوق في ظلالها الإحساس الحزين الذي يبثّه ظلال لواء الإسكندرون وبيروت، لكنّه، وبالرغم من كلّ هذا الحزن الأصيل لديه، لا ينسى أن يقتنص أجمل ما اقتنصته عين فنان، وأذكى ما التفتت إليه التقاطات صحفي، في هذا المزيج الإنسانيّ، وفي تعلّقه بقطار الشرق السريع، وتنقّله في دول رومانيا ومطار أثينا ومالطا، وأن يبدع أجود الحكايات في مطار لارنكا وبيروت وفاليتا، وفي الدانوب وصربيا والقلاع التاريخية، التي تعيدنا معه تلقائيّاً إلى ذلك التاريخ.

القلاب، الذي اكتسب خبرة مراسل متحرك لم يترك أحداثاً ساخنة ينقلها لــ»مجلة المجلّة» وغيرها إلا وذهب إليها، من فيتنام وكمبوديا في الشرق إلى إيرلندا في الغرب، قدّم نفسه كما ينبغي له أن يُقدّم بشموليّة الإعلامي الأديب السياسي قارئ التاريخ كاتب أدب الرحلات القاص الذي جعل من الأحاديث والوشوشات وطقوس الفنادق وحركات النضال وأشعار المتنبي ونزار وسعيد عقل عالماً مشبعاً بالمغامرة والكشف المبكر والإمساك الذكي بأكثر من خيط.