التعليم من أجل المستقبل

22/03/2017

إعداد : د. محي الدين توق*

 

قامت جماعة عمّان لحوارات المستقبل مشكورة بتقديم مبادرة جيّدة لتعزيز مكانة ودور المعلّم الأردني باعتباره أهم ركيزة في النظام التعليمي وحبّذا لو حذت مؤسسات المجتمع المدني المعنيّة حذو هذه الجماعة التي نشطت مؤخراً في تناول القضايا المجتمعيّة بهدف المشاركة الفاعلة في مسيرة الاصلاح الوطني واعادة بناء الوعي بالقضايا الوطنيّة. وحسناً فعلت جريدة الرأي عندما تناول مركز الرأي للدراسات فيها مبادرة جماعة عمّان لحوارات المستقبل في ندوة متخصّصة (الرأي، العدد 16888 23 شباط، 2017). وأرجو أن يستكمل الحوار الذي تناول مكانة ودور المعلم ليشمل العوامل الأخرى المؤثرة في العمليّة التربويّة. وعلى الرغم من ايماني المطلق بالأهميّة القصوى للمعلّم في تطوير العمليّة التعليمية التعلميّة ، الا أن هذا الدور يجب أن ينبع من رؤيا شاملة للتعليم ضمن منظومة متكاملة من العوامل. واسهاماً مني في مواصلة النقاش حول هذا الموضوع الهام، فانني أقدم في هذه الورقة مجموعة من الأفكار حول رؤيا مستقبليّة للتعليم في الأردن لعلها تساعد في تأطير الجهود الوطنيّة الراميّة لاصلاح المنظومة التعليميّة.

يتم تقييم الأنظمة التعليميّة في العادة من خلال خمسة معايير أساسيّة تعتبر بمثابة المبادىء التي يجب أن توجه الجهود التربويّة، وهي مبادىء الاتاحة (الفرص) Access، والعدالة Equity، والمواءمة Relevancy، والنوعيّة Quality، والكفاءة Efficiency. وعادة ما تلجأ الدول في جهودها لتطوير أنظمتها التربوية، الى واحدة أو أكثر من الاجراءات التالية: تغيير البنى والهياكل التربوية Structures، أو زيادة التمويل Financing، أو تطوير مناهج أو أدوات جديدة Tools، أو بناء مدارس ومرافق جديدة Facilities.

صرف الأردن مبالغ طائلة من دخله المحلي الاجمالي على التعليم في العقود الأربعة الأخيرة، وخصّص من موازناته السنوية نسبة عالية نسبيّاً بالمقارنة مع غيره من الدول، وجرّب كافة الاجراءات الأربعة السابقة. وقد حقّق الأردن خلال هذه الفترة انجازات طيّبة في مجالات الاتاحة والعدالة والكفاءة، وفي تحقيق الأهداف التعليميّة الانمائيّة للألفيّة، وأهداف التعليم للجميع كالمقروئيّة، وتعميم التعليم الأساسي، وردم الفجوة الجندريّة، ومحو الأميّة. إلا أنّ نوعيّة التعليم ومواءمته لمتطلبات سوق العمل ومضامين التعليم الجديدة ليست بالمستوى المطلوب الذي يمكّن الأردن ومواطنيه من التكيُّف مع عالم سريع التغيُّر ومن الابداع والتنافس اقليميّاً ودولياً. وقد أظهر التدّني الحاصل في نتائج الطلبة الأردنيين في الاختبارات الوطنيّة والاختبارات الدوليّة بالمقارنة، ليس فقط مع الدول المتقدّمة، بل مع الدول ذات نفس المستوى من التطوّر الى ضعف كفاءة النظام التعليمي، وعدم مواءمته للمهارات الحديثة التي يتطلبها القرن الحادي والعشرين كمهارات القراءة والتواصل وحل المشكلات والتفكير التحليلي والناقد والتفكير الابداعي.

 

وتلقي هذه النتائج بظلالها القاتمة على العائد المتواضع من جرّاء الانفاق الهائل على التعليم من جهة، وعلى سلامة وصحة السياسات التربويّة عبر السنوات الأربعين الأخيرة التي أدّت الى مسارين واضحين في التعليم، أحدهما متقدّم لأبناء المقتدرين ، والثاني للعامة وأبسط ما يقال عنه أنّه غير متلائم مع العصر الحديث، الأمر الذي يمس مبدأ العدالة ويزيد من فجوة اللامساواة. ويؤمل أن تعمل الاستراتيجيّة الوطنيّة لتنميّة الموارد 2016-2025 على معالجة بعض أوجه القصور التي لحقت بالعمليّة التعليميّة مؤخراً. وحتى تتمكّن من ذلك لا بدّ من أن يتدارك القائمون على تنفيذها بعض الثغرات الموجودة فيها من مثل عدم النظر الى المعلمين كعنصر تغيير وتطوير وعامل رئيس في التعليم النوعي، وعدم النظر الى المعايير كأدوات لتنظيم العمل التربوي، وعدم الاشارة الى نتاجات التعلّم كمؤشرات لقياس الأداء، وعدم الربط بوضوح بين المساءلة والمسؤوليّة في العمل التربوي.

مع بداية الألفيّة الجديدة طرأت على العالم تغيُّرات وتحولات كبرى كان لها أكبر الأثر على التعليم من حيث المرامي وطرائق التدريس والمضامين، الأمر الذي يعني أنّ الاستمرار في تكرار الاجراءات والمقاربات والاستراتيجيّات والأساليب القديمة سوف ينتج أجيالاً لا تملك المعرفة والمهارات والاتجاهات المطلوبة للولوج الآمن للمستقبل، والى الحاق الأذى بسمعة المؤسسة التعليميّة كشريك ومساهم في صناعة المستقبل. فما هي بعض هذه التحولات؟

يمكن عموماً تحديد خمسة تحولات رئيسية لها انعكاسات واضحة على التعليم، وهذه التحولات هي؛

1. الاختراعات والابتكارات العلميّة والتكنولوجيّة الباهرة وخاصة في وسائل الاتصال ونقل المعرفة.

2. التحديّات والفرص الاقتصاديّة والاجتماعيّة غير المسبوقة التي تواجهها الدّول والأقاليم.

3. الاصلاحات السياسية والاجتماعية المتسارعة وزيادة الوعي بالحقوق والحريّات والمواطنة.

4. ثورة الآمال والتطلعات لدى الشباب الطامح في المشاركة والراغب في دخول سوق العمل والضغوطات والاحباطات الناجمة عن محدوديّة قدراته وقلة فرص العمل المتاحة.

5. تطوُّر مضامين جديدة للتعليم للقرن الحادي والعشرين.

 

ان هذه التحوّلات التي تعصف بالدول والأقاليم دون استثناء تجعل لزاماً على التربيّة أن تتحلّى أكثر من أي وقت مضى برؤيا جديدة وتوجُّه مستقبلي واضح، تقوده الدولة بكافة مؤسساتها، وتشارك فيه كل القوى الفاعلة في المجتمع. ومن الضروري الاعتراف بأنّه ليس هناك طريق وحيد للمستقبل، وبنفس القدر لا يوجد هناك مستقبل واحد. ولكن الثابت أنّ المستقبل لا يتشكّل من مجرد التركيز على الماضي والحاضر، بل انّه ينجم من قدرتهما – أي الماضي والحاضر- في التأثير على الوعي الجمعي والمجتمعي للقيام بالخيارات الصحيحة بين الامكانات والفرص المتاحة لرسم مستقبل أفضل.

انّ التحولات الكبرى السابقة ادّت مجتمعة الى احداث نقلة نوعيّة في بيئة التعلُّم الحديثة من حيث المحتوى والمضامين والطريقة والتوجُّه والمكان، ومن أبرز مظاهر التغيُّر في هذه البيئة الجديدة؛

1. الانتقال من التعلُّم الفردي الى التعلُّم الجماعي - (التعلُّم المتفاعل).

2. الانتقال من الاعتماديّة الى الاستقلاليّة -(التعلُّم الموجّه ذاتيّاً).

3. الانتقال من التركيز على المعلوم الى التركيز على المجهول- (التعلُّم الاستكشافي).

4. الانتقال من التركيز على المدرسة كمكان وحيد للتعلّم الى التركيز على مراكز التعلُّم المجتمعيّة- (التعلُّم المفتوح).

5. الانتقال من فكرة أنّ التعلُّم له وقت محدد في المدرسة الى فكرة أنّ التعلُّم يحدث طوال الوقت - (التعلُّم المرن).

 

ويلعب المعلمون والمدراء في هذه البيئة الدور الرئيس، ويقومون بمجموعة خيارات تربويّة من واقع معارفهم ومهاراتهم لتلبيّة متطلبات التعلُّم لدى طلبتهم. وانسجاماً مع هذه التطورات الحديثة فإنّ كافة الدول التي حققت اختراقات ملموسة في نوعيّة التعليم ركّزت على عامل الثروة البشريّة لديها من معلّمين ومدراء أكثر من تركيزها على التدخلات التقليديّة سابقة الذكر. وتشير التجارب الدوليّة الناجحة الى الأهميّة الفائقة لستة عوامل في تحقيق الاختراق التربوي وهذه العوامل هي؛

1. الاعداد الأكاديمي والبيداغوجي عالي المستوى للمعلمين الذي يتم بالتلازم ولمدة لا تقل عن خمس سنوات من الدراسة الجامعية والتطبيق الميداني المتزامن والذي يقود للحصول على درجة الماجستير.

2. التدريب المتواصل اثناء الخدمة والتنميّة المهنيّة المستمرة المبنيّة على الحاجات المتجددة والمتغيّرة للمعلمين.

3. النوعيّة العالية من الأداء التعليمي المستند الى معايير أداء مقبولة ومتعارف عليها وتوقعات عالية من المعلّمين تتجسّد بممارسات مهنيّة وحرفيّة عالية.

4. توفير مناخات الحريّة والابداعيّة للمعلّمين داخل صفوفهم ومدارسهم لاتخاذ القرارات التعليميّة بما يتلائم من حاجات المتعلّمين وتحملّهم مسؤوليّة هذه القرارات.

5. توفير وايجاد مجتمعات تعلُّم مهنية متعددة ومتخصصة يشارك بها المعلّمون لتأمّل ممارساتهم ومشاركة خبراتهم، وانفتاحهم بنفس الوقت على الأهل والمجتمع المحلي كشركاء في عمليّة التعلُّم والتعليم.

6. توفير بيئة العمل الملائمة بما في ذلك الرواتب والضمانات المناسبة وتقدير المجتمع لمهنة التعليم.

 

وتقتضي هذه الأمور بطبيعة الحال اجتذاب أفضل المرشحين لمهنة التعليم، وتطوير اداءهم المهني ليصبح على درجة عالية من الفاعليّة بحيث يتمكّن النظام المدرسي برمته تزويد كل تلميذ بأفضل تعليم ممكن، بغضِّ النظر عن قدراته العقليّة أو خلفيته الأسريّة أو مستواه الاقتصادي والاجتماعي.

التعليم ذو النوعيّة العالية هو طريق أكيد للمستقبل، والتعليم ذو النوعيّة الراقيّة بدون معلم عالي الكفاءة ومهني ومحترف لا يمكن أن يتحقق. وكما يقول تقرير ماكنزي الشهير لعام 2010 بأنّ النظام التعليمي لا يمكن أن يكون أفضل من نوعيّة المعلمين في ذلك النظام. وبنفس المقدار يمكن القول أنّ النظام التعليمي لا يمكن أن يستمر بالتقدُّم عن طريق اعادة انتاج نفس الاجراءات السابقة التي نجحت في الماضي، اذ أنّ لكل مرحلة شروطها وعواملها وظروفها الموضوعيّة.

على الرغم من هذه الحقائق فإنّ الاصلاحات التربويّة في السنوات الخمس عشر الأخيرة لم تعطي الاهتمام الكافي بالعامل الأهم الذي له أكبر أثر مضاف على العمليّة التعليميّة، وهو المعلّم من حيث مواصفاته، ومعايير عمله، وكيفية استقطابه للمهنة، واعداده قبل الخدمة، وتعيينه وتثبيته، وتدريبه اثناء الخدمة وتنميته المستمرة، ومستلزمات ومقومات عمله، وتحقيق ذاته وتنميتها، وتطوير مهنته. كما لم يتم الاهتمام بشكل كافي في تنمية عملية التدريس والتقييم وادارة الصفوف بالدرجة الكافية من العناية التي تستحقها، إذ أنّ من المعروف عالميّاً أنّ تحسين نتاجات التعلُّم ومخرجات التعليم يعتمد بالدرجة الأولى على تحسين وتطوير الممارسات التعليميّة للمعلّمين. وفي هذا الاطار نجد أنّ الدول التي حقّقت تقدُّماً ملموساً في نظمها التربويّة بغضِّ النظر عن المستوى التربوي الذي انطلقت منه قد لجأت الى مجموعة من التدخلات التربويّة وأهمها قاطبة التدخلات الست التالية:

1. بناء وتطوير مهارات المعلّمين التدريسيّة ومهارات المدراء القياديّة.

2. تطوير عمليّة تقييم أداء وتحصيل الطلبة بحيث يصبح الهدف منه تحسين تعلّم الطلاب وليس مجرد قياس مستوى تحصيلهم Assessment for learning not assessment of learning.

3. تحسين وتطوير نظم المعلومات التربويّة.

4. تطوير سياسات وتشريعات جديدة لتعزيز التقدُّم المحرز.

5. تطوير المناهج وتعديل المعايير الخاصة بعمل المعلّمين والأجهزة التربويّة الأخرى.

6. ايجاد بيئة عمل ملائمة ووضع نظم رواتب ومكافأة عادلة للمعلمين والمدراء.

 

ان التعليم ذو النوعيّة العالية ضروري لبقاء الفرد وتمكينه، وامتهان مهنة تساعده في تنمية ذاته ومواجهة تحديّات المستقبل، والارتقاء بذاته وتنميتها، كما أنّه ضروري للتنميّة البشريّة وطنيّاً، وزيادة تنافسيّة الدولة، وقدرتها على تحقيق التنميّة المستدامة، ومواجهة التحديّات المنظورة وغير المنظورة، والاستعداد للمستقبل بطريقة خلاّقة. ولكن ماذا نقصد بالنوعيّة؟ على الرغم من أنّ الناس يفهمون النوعيّة بطرق مختلفة، الاّ انّه لا بدّ من التأكيد على أنّ مفهوم النوعيّة مفهوم مركب وشامل ومتنوع. فالنوعيّة في التعليم ليست مجرد شعار يطرح ، بل أنه يتحقق من خلال :

1. مناهج وكتب مدرسيّة أفضل، تشمل المضامين والمهارات الجديدة اللازمة للمستقبل.

2. معلمين أكثر استعداداً وقدرة ورغبة في العمل.

3. طرق تدريس ذات فاعليّة أكبر لتعليم المضامين الجديدة.

4. تقويم يهدف الى تحسين التعليم وقائم على الكفايات وليس الحفظ.

5. ادارة تربويّة وحاكميّة أفضل.

6. تمويل أكبر وموجه لعوامل النوعية.

7. مشاركة أوسع من قبل الأهل ومؤسسات المجتمع.

 

لقد تضمّنت الاستراتيجيّة الوطنية لتنمية الموارد البشريّة 2016- 2025 الكثير من الأبعاد سابقة الذكر، وثمّة رغبة واضحة في التحرُّك نحو تحقيق أهدافها، وعلى الحكومة ومؤسسات المجتمع كافة تطوير عوامل القدرة على التحرُّك من مثل التشريعات والحاكميّة والتنظيم والأبعاد الثقافيّة، وتوفير المتطلبات الماليّة والبشريّة والماديّة اللازمة لها ، وعلى وزارة التربيّة والتعليم وضع الخطط والاجراءات التنفيذيّة للبرامج الواردة فيها.

*مدير عام الكادر العربي لتطوير وتحديث التعليم

*وعضو المجلس الاقتصادي والاجتماعي