د. هزاع المجالي
شهد المجتمع الدولي في الآونة الأخيرة لجوء أقاليم بعض الدول للمطالبة بالانفصال والاستقلال عن الدول التي تتبع لها، كما يحصل الآن في العراق اقليم (كردستان)، وفي إسبانيا اقليم (كتالونيا)، واللجوء الى خيار الاستفتاء الداخلي كوسيلة لاثبات رغبتها بالانفصال، فهل ما قامت به تلك الاقاليم يتفق والقانون الدولي؛ وما هي الابعاد التاريخية والقانونية لمثل هذه المطالبات بالانفصال، وماهي النتائج الناجمة عنها؟.
اولاً: البعد التاريخي لمطالبة الاقاليم بالانفصال عن دولها
1. الارث الاستعماري
يعد الارث الاستعماري السبب الرئيس لظاهرة انفصال الاقاليم عن دولها، فنعلم جميعاً أن مرحلة الحقبة الاستعمارية وما تلاها من صراعات وحروب عالمية، ونشوب الحربين العالميتين الأولى في(1914-1918)، ونشوء عصبة الأمم المتحدة 1918 وفشلها في محاولة إقرار الأمن والسلم الدوليين أدخل العالم من جديد في الحرب العالمية الثانية (1939-1945) نتج عنها نشأة منظمة الأمم المتحدة في عام 1945، دخل العالم بعدها مرحلة جديدة من الانقسام الايدلوجي شرقي (شيوعي) بزعامة الاتحاد السوفيتي، وغربي (رأس مالي) بزعامة الولايات المتحدة الامريكية، فاكمل هذا الانقسام العالمي ما اورثه الاستعمار من صراعات ونزاعات حدودية واقليمية دولية وداخلية مازال المجتمع الدولي يعاني منها حتى يومنا هذا.
2. الحدود السياسية المصطنعة
لم تأخذ الدول المستعمرة بعين الاعتبار، الابعاد التاريخية والاجتماعية والطبيعية الجغرافية كأساس لتقسيم الاراضي التي استعمرتها فيما بينها، بل تعمدت تقسيم الدول فيما بينها (تقسيماً جراحياً) نتج عنه إنشاء حدود سياسية لدول جديدة، وتقسيم دول قائمة، فكانت النتيجة تفكك مجتمعات قائمة الى دول ودويلات، فدخلت وخرجت أقاليم من والى سيادة دول لا تنتمي لها، نتج عنه استقلال مشوه وعدم استقرار وصراعات حدودية واقليمية وحروب داخلية ومطالبات بالانفصال، لذلك لجأت الأمم المتحدة في محاول للهروب ولتخفيف حدة الصراعات إلى الدعوة الى احترام الحدود الموروثة عن الاستعمار(قدسية الحدود الموروثة عن الاستعمار) كأساس للحدود السياسية وطالبت الدول بحل خلافاتها بالطرق السلمية.
ثانياً: المبادئ القانونية لحق انفصال واستقلال الاقليم عن الدولة في القانون الدولي
1. حق الشعوب في تقرير مصيرها
يعتبر مبدأ حق الشعوب في تقرير مصيرها وفقاً للقانون الدولي من المبادئ التي نص عليها ميثاق عصبة الأمم، ومن ثم اكدت عليها الأمم المتحدة بهدف مساعدة شعوب الدول المستعمرة على تقرير مصيرها والاستقلال وتقرير شكل السلطة التي يريدونها، وطريقة تحقيقها بشكل حر وبدون تدخل خارجي، فصدرالعديد من القرارات في الأمم المتحدة التي تؤكد هذا المبدأ، بل انه تم تشكيل لجنة في الأمم المتحدة لهذه الغاية سميت لجنة تصفية الاستعمار، وكذلك تم الاعتراف بحركات التحرر الوطنية التي تسعى الى استقلال شعوبها، والواقع إن هذا المبدأ، رغم أهميته اقل ما يقال عنه انه «كلمة حق اريد بها باطل»، لانه ارتكز على دوافع استعمارية لزعزعة استقرار الدول التي تضم في طياتها قوميات ذات اعراق مختلفة للمطالبة بالانفصال حتى يسهل السيطرة عليها مثل ما حصل مع الامبراطورية العثمانية التي ادث الثورات الداخلية للقوميات غير التركية التي طالبت بالاستقلال لانهزامها وتفككها عن الدولة العثمانية.
رغم تأكيد الأمم المتحدة في جميع قراراتها على قدسية حق الشعوب في تقرير مصيرها كاساس للتخلص من الحقبة الاستعمارية، إلا أنها ايضا اكدت على حق الدول بالدفاع عن سيادة ووحدة أراضيها، وما زالت جدلية الأولوية في التطبيق في القانون الدولي بين حق تقرير المصير والانفصال وحق الدول بالدفاع عن سيادتها واراضيها قائمة الى يومنا هذا. وحتى نكون اكثر مصداقية لم نجد ما يجيز او يمنع حق الانفصال على مستوى القانوني الدولي، رغم التأكيد على حق الشعوب في تقربر مصيرها اذا ما توافرت الاسباب لذلك، هناك من يعتبر حق الانفصال قضية معقدة لما لها من حساسية تتعلق في ضمان سيادة واستقلال واستقرارالدول.
2. الحكم الذاتي
لجأت بعض الدول التي لديها خليط من القوميات المختلفة وتعاني من صراعات داخلية، إلى إعطاء بعض اقاليمها حكما ذاتياً لإدارة شؤونها الداخلية، وتنظيمها في إطار قانوني دستوري وتحت رقابة السلطة المركزية، كما هو الحال في إسبانيا والعراق والسودان سابقا وغيرها من الدول، وقد تتحول تلك الاقاليم الى دول اذا استطاعت الوصول الى تفاهمات مع السلطة المركزية تمكنها من ذلك كما حصل في جنوب السودان.
3. الاستفتاء الداخلي كوسيلة لانفصال الاقليم
تلجأ بعض الاقاليم التي لديها حكم ذاتي لاسيما في النظام الفدرالي إلى خيار الاستفتاء الداخلي لشعوبها كوسيلة للتعبير عن رغبتها بتقرير مصيرها ورغبتها بالانفصال والاستقلال عن الدولة التي تنتمي اليها، وقد أثارت شرعية الاعتراف بالاستفتاء جدلاً قانونياً وسياسياً كبيرا على المستويين الداخلي والدولي، وهنا لابد ان نفرق بين الشرعية السياسية (اعتراف الدول) والشرعية القانونية (الاعتراف القانوني المنشئ للدولة) في المجتمع الدولي
أ- موقف القانون الدولي من الاستفتاء
لجأت الأمم المتحدة الى الاستفتاء كوسيلة للشعوب التي خضعت للاستعمار للمطالبة بحق تقرير مصيرها، وقد نصت في ميثاقها على قدسية سيادة الدول المستقلة وطالبت من الدول حل الخلافات الناجمة عن الاستعمار بين الدول بالطرق السلمية، وتركت الباب مفتوحاً امام وسائل شرعية اخرى مثل الحكم الذاتي والاستفتاء الداخلي كوسائل سلمية لفض النزاعات الداخلية، اما للانفصال وإنشاء دولة، او الانفصال والانضمام لدولة أخرى.
اذن فإن تطبيق هذا الحق مرتبط بالشأن الداخلي للدول نفسها وفقاً لطبيعة نظامها السياسي وهي تحصل على الأغلب في الدول ذات النظام الفدرالي، والتي تكون فيها الدولة تجمع طوعي لمجموعة من الاقاليم ليس بالضرورة بينها روابط عرقية او لغوية او دينية كما هو الحال في سويسرا وكندا والولايات المتحدة، بل تجمعهم المصلحة والرغبة بالعيش المشترك. ونجد ان بعض دساتير تلك الدول ثبتت حق الانفصال مسبقاً في دستورها وبعضها الاخر لا ينص على ذلك، وفي كلتا الحالتين هناك شروط لطلب الانفصال بعرض الطلب على أعلى سلطة في الدولة قد تكون على الأغلب (المحكمة الفدرالية العليا) التي اثبتت التجارب التاريخية في دول مختلفة بالعالم انها تميل الى رفض قبول طلبات الانفصال كماهو الحال في كندا عندما تم رفض انفصال اقليم (كيبك) 1980 في كندا عن الدولة، وكذلك في الولايات المتحدة 1938عندما تم رفض انفصال ولاية (تكساس) وانضمامها الى المكسيك، وهناك الكثير من الحالات المشابهة التي تم رفض انفصالها باستثناء الاقاليم التي كان هناك قبول مسبق من الدولة بانفصالها او التي انفصلت تحت ضغط اللجوء الى وسائل القوة العسكرية، فالانفصال القسري قد يؤدي الى نزاعات ومواجهات عسكرية فيما بينها، وقد اثبتت السوابق التاريخية ان جميع الاقاليم التي استقلت عن دولها اما بالتفاهم والرغبة المسبقة او عبر الوسائل العسكرية.
ب- موقف المجتمع الدولي من استفتاء الاقاليم وانفصالها (الاعتراف)
حتى نكون اكثر مصداقية فإن نجاح اي اقليم بالانفصال عن الدولة التي ينتمي اليها مرتبط بشكل كبير في مدى اقناع المجتمع الدولي بقبول الاعتراف بانفصالها، وهذا الامر يكون على الاغلب من الصعوبة بمكان، لان نجاح الانفصال مرتبط بالعديد من العوامل والظروف على الساحة الدولية، فالدول تكون حريصة على مصالحها الاقتصادية والسياسية مع الدول التي يحصل فيها مطالب الانفصال، لذا نرى بالعادة أن الدول تربط موقفها بموقف دولة الاقليم بهذا الانفصال ما لم تكن هناك اسباب ودوافع اخرى اقوى تجعلها تعترف باستقلال ذلك الاقليم عن دولته، وعليه سوف نوضح الحالات التي يتم بها قبول او رفض الاعتراف بالانفصال على المستوى الدولي والداخلي:
- الحالة الاولى: التي يتم فيها عدم قبول المجتمع الدولي بقرار الانفصال
أ- طبيعة النظام السياسي للدولة التي ينتمي اليها الاقليم، فاذا كانت من الدول الديمقراطية كما هو الحال في اوروبا فإن مبررات الانفصال تكون أصعب.
ب- النظام القانوني الداخلي للدولة (الدستور)، فعلى الرغم من ان قضية اعتراف الدول بانفصال اقليم عن دولته قضية سيادية تخص كل دولة على حدة، فان الدول على الاغلب لا تقبل الاعتراف بانفصال اقاليم خلافاً لدستور بلادها.
ج- حجم العلاقات السياسية والاقتصادية والنفوذ الذي تتمتع به الدولة على الساحة الدولية، فكلما كانت اكبر كانت مهمة نجاح الاقليم بالانفصال أصعب.
د- الموقع الجغرافي: يؤثر الموقع الجغرافي للدولة في قبول او رفض انفصال اقليم عن دولته، فالدول التي تعيش في محيط مستقر وليس مضطرباً تحرص الدول لاسيما المجاورة على رفض الاعتراف بقبول الانفصال حفاظا على أمن واستقرار المنطقة.
- الحالة الثانية التي يكون فيها المجتمع الدولي اكثر قبولاً لفكرة الانفصال
أ- الدول التي لايكون فيها النظام ديمقراطياً ويوجد فيها سجل سيئ في مجال احترام حقوق وحريات الانسان.
ب- الدول التي لديها صراعات وحروب داخلية إما لأسباب عرقية أودينية أوغيرها واصبحت تلك الصراعات تهدد أمن المنطقة ويصبح فيها الانفصال أحد الحلول لإنهاء الصراعات الداخلية.
- الحالة الثالثة اعلان الاستقلال ولجوء الاقليم الى الأمم المتحدة لاصدار قرار بالاعتراف باستقلال الاقليم، وهنا لابد من ايضاح بعض الحقائق حول قضية الاعتراف بالأستقلال فالاعتراف نوعان:
1. الاعتراف الدولي
أ- اعتراف الدول: ويعتبر فيها قرار الاعتراف قراراً سيادياً لكل دولة على حده، تتخذه كل دولة وفقاً لمصالحها السياسية.
ب- اعتراف الأمم المتحدة لابد من التأكيد أن الأمم المتحدة لا تملك أي سلطة للاعتراف بدولة أو حكومة جديدة بصفتها الوظيفية، وإذا ما تقدمت أي دولة جديدة لطلب الانضمام فانها تقدم طلبها مشفوعاً بالمبررات إلى الأمين العام للمنظمة الذي يعرضه على مجلس الأمن، ويشترط لموافقة المجلس قبول القرار من 9 أعضاء من أصل 15، وعدم استخدام حق الاعتراض من قبل الدول الخمسة دائمة العضوية، ومن ثم يعرض الطلب على الجمعية العامة التي تحتاج فيها الدولة الجديدة لقبولها موافقة ثلثي اعضاء الجمعية العامة، وهنا لابد من الاشارة الى أن قرار اعتراف الامم المتحدة بأي دولة جديدة غير ملزم بصفة عامة للدول الأعضاء، ولا بصفة خاصة للدول التي رفضت الاعتراف بها، فقضية الاعتراف وإقامة العلاقات مع تلك الدولة قضية سيادية تقررها كل دولة على حدة، مثال على ذلك الكيان الصهيوني «اسرائيل»، فهناك العديد من الدول الأعضاء مازالت لاتعترف بها رسمياً.
2.اعتراف الدولة التي تم انفصال الاقليم عنها:
ان الاعتراف المسبق للدولة التي تم فيها الانفصال يجعل من عملية الاعتراف الدولي سهلاً، ولكن تقع المشكلة في رفض اعتراف الدولة المركزية بالاعلان المنفرد لحكومة الاقليم بانفصال واعلان الدولة، كما يحدث الآن في اقليم كتالونيا في أسبانيا، ففي حالة لم يتوصل الجانبان الى تفاهمات مشتركة فان الامور تتصاعد الى خطوات تصعيدية بينهما قد تصل إلى حد النزاع المسلح، وعلى الأغلب فإن الحكومة المركزية تلجأ في البداية إلى وسائل الضغط الاقتصادي والسياسي، وتستثمر علاقاتها الدولية في الدعوى إلى مقاطعة الإقليم وعدم الاعتراف به، في المقابل يسعى الاقليم المنفصل إلى محاولة إقناع المجتمع الدولي بمسوغات استقلاله، وفي كلتا الحالتين يشكل ذلك إحراجاً سياسياً وانقساماً بين الدول بين مؤيد ورافض لهذا الانفصال، مثل اعلان «الجمهورية الصحراوية « في الصحراء المغربية.
الخلاصة:
يمكننا القول ان القانون الدولي يعطي الاولوية لمبدأ سيادة الدول المعترف بها لضمان الاستقرار والأمن والسلم الدوليين، رغم انه لا ينكر صراحة قبول انفصال الاقليم عن دولته، ولكن وفقاً لوسائل قانونية توضح الآليات التي لابد من اتباعها لتبرير طلب الانفصال بالطرق السلمية، وهنا ومن باب التذكير لابد أن نؤكد أن الاستفتاء يعني في مضمونه حق تقرير المصير، وأن الانفصال هو بمنزلة إعلان استقلال مشروط بموافقة الغير.