مجلس الأمن والحاجة للإصلاح

31/10/2017


د. عثمان ناصر منصور

 

بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية اتفقت الدول العظمى على إنشاء منظمة لحفظ الأمن والسلم وفض النزاعات، وقد لاقت هذه الخطوة قبولا سريعا من تلك الدول، وعندئذ وقـِّع ميثاق الأمم المتحدة في حزيران 1945 في سان فرانسيسكو في ختام مؤتمر الأمم المتحدة الخاص بنظام الهيئة الدولية وأصبح نافذاً في تشرين الأول 1945.

وبناء على الميثاق، تهدف منظمة الأمم المتحدة إلى تحقيق أربعة مقاصد، هي:‏

- حفظ السلم والأمن الدوليين

- إنماء العلاقات الودية بين الأمم

- التعاون على حل المشاكل الدولية وعلى تعزيز احترام حقوق الإنسان

- العمل كجهة مرجعية لتنسيق أعمال الأمم.‏

ولقد أنشأ ميثاق الأمم المتحدة ستة أجهزة رئيسية للأمم المتحدة، كان منها مجلس الأمن الدولي. ويضع ‏الميثاق المسؤولية الرئيسية عن حفظ السلم والأمن الدوليين على عاتق مجلس الأمن، ‏وللمجلس أن يجتمع كلما ظهر تهديد للسلم.‏

وقد عقد مجلس الأمن جلسته الأولى في كانون الثاني 1946 في لندن. ومنذ ذلك الاجتماع الأول، أصبح الموقع الدائم لمجلس الأمن في مقر الأمم ‏المتحدة في نيويورك. ويتألف مجلس الأمن من 15 عضوا: خمسة أعضاء دائمين: روسيا والصين وفرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية، وعشرة أعضاء غير دائمين تنتخبهم الجمعية العامة للأمم المتحدة لمدة سنتين (مع تحديد تاريخ نهاية مدة العضوية).

وقد رأى واضعو ميثاق الأمم المتحدة أن تستمر خمسة بلدان–هي الاتحاد السوفياتي (الذي حل محله روسيا) وفرنسا والصين وبريطانيا والولايات المتحدة بالقيام بدورها الرئيسي في تأسيس الأمم المتحدة في أداء دور هام في صون السلم والأمن الدوليين. وقد منحت تلك البلدان وضعا خاصا كدول دائمة العضوية بمجلس الأمن، إلى جانب القوة التصويتية الخاصة المعروفة باسم «حق النقض». وتم الاتفاق بين واضعي الميثاق على أنه لو صوت أي عضو من الأعضاء الخمسة الدائمين بالسلب في مجلس الأمن المكون من 15 عضوا، لا تتم الموافقة على القرار.

ومنذ تأسيس الأمم المتحدة عام 1945، استخدم الاتحاد السوفياتي ووريثته روسيا حق الفيتو (النقض) 123 مرة، والولايات المتحدة 87 مرة وبريطانيا 32 مرة وفرنسا 18 مرة، بينما استخدمته الصين 8 مرات.

وقد ساعد حق النقض الفيتو الولايات المتحدة على تقديم أفضل دعم سياسي للكيان الإسرائيلي وذلك بإفشال صدور اي قرار من مجلس الأمن يلزم «إسرائيل» بضرورة وقف احتلال أراضي فلسطين وأعمال العنف ضد الشعب الفلسطيني أو إفشال أي قرار يدين «إسرائيل» باستخدام القوة المفرطة وخصوصا في حرب لبنان 2006 والحرب على قـطاع غـزة في نهاية عام 2008، وقد أدى ذلك إلى الشك بمصداقية الأمم المتحدة ومجلس الامن بسبب الفيتو الأمريكي.

ومما يؤكد تفرد الولايات المتحدة دون غيرها باستخدام حق النقض الفيتو في العقود الأخيرة، فقد استخدمت الولايات المتحدة حق الفيتو 87 مرة، منها 41 مرة لحماية إسرائيل ولو لمجرد توجيه اللوم فقط على أفعال وانتهاكات بحق العرب والفلسطينيين، كان أولها في 10 ايلول 1972، ومن بينها 30 مرة استخدمت فيها واشنطن حق فيتو ضد قرارات تخدم القضية الفلسطينية.

أما روسيا ففد استخدمت الفيتو(6) مرات ضد إيقاف الحرب السورية أو حماية الشعب السوري في السنوات الأخيرة.

إن جردا سريعا لعدد القرارات التي اتخذها مجلس الأمن بحق اسرائيل منذ عام 1967: 242 (1967)، 338 (1973)، 446 (1979)، 452 (1979)، 465 (1980)، 476 (1980)، 478 (1980)، 1397 (2002)، 1515 (2003 )، و1850 (2008). وكان آخرها القرار 2334 (24/12/2016م) حول وقف الأنشطة الاستيطانية، والذي صوت عليه 14 عضوا في مجلس الأمن لصالح القرار، في حين امتنعت الولايات المتحدة الأميركية لوحدها عن التصويت، ولأول مرة منذ 36 عاما.

وكان نص القرار: بأن توقف اسرائيل على الفور وبشكل كامل جميع الأنشطة الاستيطانية في الأراضي الفلسطينية المحتلة، بما فيها القدس الشرقية، وأكد على جميع الدول عدم تقديم أي مساعدة لإسرائيل تستخدم خصيصا في النشاطات الاستيطانية.

ولكن المتتبع لمجلس الأمن الدولي وقراراته التي زادت عن (2379) قرارا عبر العقود السبعة الماضية، يلاحظ أن جُل هذه القرارات، وتوابعها والعقوبات المرافقة لها كانت من نصيب دول العالم الثالث، وبالتحديد الدول الفقيرة، ولم يأت ِالمجلس عبر تاريخه الطويل على الدول الكبرى أو العظمى بشيء من القرارات، كيف لا؟ وهي قد حصنّت نفسها بحق النقض أو ما يعرف بالفيتو. ولم ينجح المجلس بتحقيق مقاصده المحددة، فلا سلم في العالم اليوم، ولا أمن في كثير من الدول، ولا احترام للعلاقات الدولية، ولا تعاون أو تنسيق لحل المشكلات العالقة في كثير من دول العالم، ولم يقدم المجلس غير القرارات التنظيرية المليئة بالتهديد والوعيد هنا وهناك.

والناظر إلى مجلس الأمن في العقدين الأخيرين، يجد أنه مصاب بالشلل الموضعي، وأنه لم ينجح بحل الصراعات والمشكلات في كثير من دول العالم، وسأعرض هنا بعضاً من الأمثلة:

- رغم عدم امتلاك العراق أسلحة الدمار الشامل، إلا أن وزير الخارجية الأمريكي الأسبق «كولن باول» ومن على منصة مجلس الأمن حاول إقناع الدول بامتلاك العراق أسلحة الدمار الشامل، وعندما لم ينجح في تقديم حججه واقناع الآخرين بها، هاجمت أمريكا العراق، وبقي المجلس يراقب دون أن يجرؤ على إدانة أو استنكار أو إصدار بيان لإيقاف الحرب.

- القضية الفلسطينية الشغل الشاغل، ورغم مرور (60) عاماً على النكبة، لم يستطع مجلس الأمن الدولي أن يفرض العقوبات على اسرائيل، ولم يهدد باستخدام الفصل السابع من ميثاق الامم المتحدة ضد اسرائيل، وعدم تنفيذها، وعدم انصياعها للقرارات التي صدرت من مجلس الأمن، والتي ضربت بها عرض الحائط، ولم تعطها بالاً ولا أهمية، بل وتجاهر علانية برفضها، والإسفاف في تجاهلها وعدم الاكتراث لها، متسلحة بالفيتو الأميركي في كل مرة، حتى في القرار (2334) والذي يطلب وقف الاستيطان بشكل فوري، إلا أن اسرائيل ردت عليه بزيادة وتيرة الاستفزاز وقضم الأراضي وابتلاعها وبناء مزيد من الأحياء الاستيطانية، ولم يتخذ مجلس الأمن إلى اليوم ما يرد به على تعنت اسرائيل وعدم تطبيقها القرار. ولا ننسى في حرب غزة كيف قصفت اسرائيل مدرسة تشرف عليها الأمم المتحدة، وتمولها، ولم يفعل المجلس شيئا، ولم يقدم رد فعل يحفظ للمجلس هيبته. وكثير من القضايا التي شكلت فيها لجان من الامم المتحدة، ومجلس الامن ورفضت اسرائيل استقبالها بدعم ومساندة من الفيتو المنقذ.

- ماذا قدّم مجلس الامن للشعب السوري؟ غير التصفيق والقلق والاستهجان. حيث لجأت روسيا في هذه المرة إلى مناكفة أميركا، واستخدام الفيتو (6) مرات ضد أي قرار يمكن أن يصدر من مجلس الامن لحماية الشعب السوري من ويلات الحرب وبطش النظام في سوريا، ولم يقدم المجلس بسبب التعنت الروسي ما ينقذ به الدولة السورية - التي عادت إلى العصور الوسطى - وقد ترك المجلس اللاجئين السوريين يتسولون كل بقاع الأرض بحثاً عن أرض تؤويهم وتحتضنهم، باحثين عن أمن هنا، وأمان هناك. ولم يعترف بحقوقهم في العيش بحرية، فتركهم يقطعون آلاف الأميال مشيا على الأقدام المنهكة، يتسولون دولا كثيرة ويقفون على أسوارها يلسعهم برد الشتاء القارس المؤلم، ويكويهم حر الصيف اللاهب، لفظتهم الدول إلى العراء، وإلى البحر يموتون جوعا وغرقا وعطشا بحثا عن مأوى، ولا مجيب !. وماذا عن الدول التي استضافت اللاجئين السوريين؟ والأردن مثالاً، حيث لم يقدم مجلس الأمن الدعم الكافي واللازم للأردن والدول المستضيفة للاجئين، ولم يتبرع إلا بالفتات القليل، وترك الأردن وحيدا أمام الأمواج البشرية من اللاجئين، حيث استقبل أكثر من ( 1.5) مليون لاجىء سوري، تحمل وحده تبعات استضافتهم، وتعليمهم ومعالجتهم، علاوة على الضغط على موارده المالية، وبنيته التحتية، وعجز مجلس الأمن وفشل فشلاً ذريعا في حماية الشعب السوري او تقديم ما ينقذه من هذه المعضلة.

- أما المسألة الليبية، ورغم كثرة المبعوثين الدوليين إلى ليبيا، لم ينجح مجلس الامن إلى اللحظة في إيقاف نزيف الحرب، وإخراج البلد مما وصل إليه، نتيجة الصراعات الخفية والتكتلات التي تغذيها الدول الكبرى، لتحفظ مصالحها، وتقتسم الكعكة النفطية في ليبيا فيما بينها، ويبقى الجرح الليبي ينزف بلا جدوى.

- ماذا قدم مجلس الأمن للشعب اليمني غير المماطلة والتسويف والمناكفة بين القوى العظمى، ولم يستطع أن يدعم الشرعية، ويعيد لليمن حكومته الشرعية ورئيسه الشرعي، ولم يجرؤ على فك الحصار عن مدينة تعز، ولم يقدم ما يحفظ به حركة النقل البحري عبر مضيق باب المندب، ولم يستطع منع السلاح عن الانقلابيين الحوثيين، ويتبع سياسة ارسال المبعوثين والسفرات المكوكية لهم بدون جدوى، وعقد المؤتمرات الفارهة في جنيف الباردة، والمحصلة ما زال اليمنيون يصارعون من أجل دولتهم.

- وللأقليات المضطهدة في كل مكان في هذه المعمورة لم يقدم مجلس الأمن شيئا؛ فالمسلمون في الصين تمنع عنهم أبسط حقوقهم، وفي ميانمار(بورما) ترك المجلس الأقليات يتذوقون لوعة النار وهم على قيد الحياة، ومن نجا منهم أكله البحر غريقاً، والقليل وصل إلى بنغلادش على الحدود يتسابقون من اجل حفنة أرز، وقارورة ماء، ولم يقدم للاجئين ما يعيدهم إلى بلادهم، ولم يحقق لهم السلم المنشود ولا الأمن الموعود.

- ماذا قدم المجلس للدول الفقيرة التي يفتك بها الفقر، والحروب والصراعات من كل مكان، وخصوصا في أفريقيا، فما زال في هذا العالم من لا يجد ما يسد رمق جوعه، ولا يطفئ نار عطشه في كثير من الدول، ولا يجد أبسط مقومات الحياة الإنسانية- أسالوا المنظمات- فهو يسن القوانين ويهدد ويفرض العقوبات والنتيجة أنه لم يقدم دوره المطلوب لتنمو هذه الدول وتعيش في رخاء، لأن الدول العظمى لا ترغب بذلك.

- ماذا قدم المجلس للأطفال المحرومين من حقوقهم في العيش والصحة والتعليم، حيث تفتك الأمراض بهم، وتأخذهم الصراعات، وتجندهم قوى الظلام، وتسلب منهم طفولتهم وحريتهم، فلا أمن ولا تعليم ولا مدارس.

- ماذا قدّم المجلس لحل المشاكل التي تفتك بدول العالم، المياه، والتلوث المناخي والبيئي الناجم عن مخلفات المصانع في الدول العظمى، والتسابق نحو الحصول على السلاح النووي، وتهديد السلام في هذا العالم.

وبعد كل هذه الأمثلة وغيرها الكثير الذي لا يتسع المجال لذكره؛ نجد أن المقاصد التي تشكلت من أجلها الأمم المتحدة، وذراعها مجلس الامن الدولي، لم يتحقق منها شيء بعد (7) عقود، بل اختل السلم والأمن الدوليين، نتيجة استمرار الدول العظمى في احتكار القرار الدولي وتعاملها بفوقية مع بقية أعضاء المجلس، وعدم التعاطي مع القرارات الصادرة من المجلس بحس المسؤولية الأخلاقية والإنسانية، فما دام « الفيتو» موجودا سيبقى الوضع بدون تغيير، وستبقى الأمور على حالها. وهذا يستلزم من دول العالم الأعضاء في الأمم المتحدة أن تتداعى لوضع ميثاق جديد للأمم المتحدة يعاد فيه تشكيل المقاصد والاهداف في مجلس الأمن، بحيث يتم فيه التخلي عن حق النقض» الفيتو» الذي يقف عائقا ومانعا وذريعة للدول الخمس دائمة العضوية في استخدامه متى شاءوا، والذي يكثر استخدامه للمناكفات ليس إلا، غير آبهين بحال الدول، وما يترتب عليه من ضياع دول وانهيار أمم.

إن مجلس الأمن اليوم بحاجة إلى إصلاح حقيقي تتبوأ فيه جميع الدول الأعضاء دورا بارزا، فلا عدل ولا سلام ولا أمن ولا أمان في ضل الوضع الحالي القائم على الفيتو المشؤوم.