26/02/2015
مركز الرأي للدراسات
د. فراس علعالي
شباط 2015
ما المقصود بالمهنة؟ ومن هو المهني؟ وهل يمكن لأي شخص أن يمارس مهنة غيره بكفاءة المحترف والمقتدر؟ المهنة هي وظيفة مبنية على أساس من العلم والخبرة، ويحكمها قوانين وآداب لتنظيم العمل بها، ويلزم لممارسة أية مهنة، خلفية من المعلومات الشاملة والدقيقة، بالإضافة إلى تدريب مكثف ومتخصص كي تصبح مهنياً محترفاً. من هذا الباب وقبل أن نحدد ما هي مهنة الصيدلة حسب هذا المفهوم، لابد أولاً من النظر في التطور الكبير الذي شهدته هذه المهنة.
عُرفت الصيدلة قديماً على أنها علم يبحث في العقاقير وخصائصها وتركيب الأدوية وتصنيعها وصرفها وكل ما يتعلق بها. أما في الوقت الراهن، وبعد الثورة الصناعية والتكنولوجية التي شهدها العالم، حيث أخذت الآلات دور الصيدلي في تصنيع الأدوية وتركيبها وإنتاجها، وتماشياً مع هذه التغيرات، تم عالمياً بلورة تعريف حديث لمهنة الصيدلة يستقرئ الماضي ويستوعب الحاضر ويستشرف المستقبل، ويعتبر هذا التعريف مهنة الصيدلة أحد أهم مجالات العلوم الصحية، هدفه الأساسي ضمان تقديم رعاية علاجية ودوائية فعالة وآمنه للمرضى، وعليه فإن الصيدلاني هو مقدم للرعاية الصحية، ذو كفاءة واحترافية عالية، قادر على تقديم نصائح وتوصيات خاصة بخطة العلاج والدواء، بما يناسب كل مريض وحالته، وبما يضمن تقديم أفضل رعاية علاجية، وتحقيق للغاية الأسمى من المهنة، وهي تقديم الرعاية الصيدلانية المثلى للمرضى. للوصول للغاية المنشودة من مهنة الصيدلة، ظهرت الصيدلة السريرية، كأحد أهم مجالات ممارسة الصيدلة. وجاء استحداث برنامج دكتور صيدلة، لتأهيل صيادلة سريرين ذوى كفاءة واقتدار.
يعد الآن تخصص دكتور صيدلة، من أبرز التخصصات وأحدثها في مجال الصيدلة، وتتجه العديد من الدول كأميركا وكندا وغيرها، إلى اعتماد تخصص دكتور صيدلة كحد أدنى للسماح بممارسة ومزاولة مهنة الصيدلة، بصفته الأقدر على التعامل مع المرضى والأدوية والخطط العلاجية. كما أن هناك توجه عالمي من قبل الجامعات ومؤسسات الاعتماد الصحي لإلغاء درجة البكالوريوس في الصيدلة، واعتماد درجة دكتور صيدلة مدخلاً وحيداً لدراسة الصيدلة ومزاولتها.
على المستوى المحلي، وعلى الرغم أن الأردن يعتبر من الدول العربية البارزة في تدريس علم الصيدلة، وكان من أوائل الدول العربية في تبني برنامج دكتور صيدلة، إلا أننا ما زلنا متأخرين عن الركب العالمي في أمور جوهرية عديدة تخص الممارسة المهنة للصيدلة. يلاحظ من جهة أن 13جامعة أردنية مابين حكومية وخاصة تمنح درجة البكالوريوس في الصيدلة، ما زالت برامجها التدريسية تائهة تتخبط وتتشعب بعشوائية، وبدون مرجعية مهنية توجهها، بين مساقات نظرية وعملية تصب في مجالات عديدة وعلوم متنوعة، محاولةً تخريج صيادلة مؤهلين للعمل في كافة المجالات المتاحة في سوق العمل. إن خريج كلية الصيدلة لديه مجالات مشروعه متعددة جداً للعمل، وفيها من التنوع والتباين ما يوحي بأن الصيدلة هي عدة مهن في مهنة واحدة، وهي برأيي كذلك! فالصيدلي يستطيع العمل في أكثر من 85 مجالاً في شتى مجالات الرعاية الصيدلانية، كالصيدليات بأنواعها المختلفة المجتمعية والخاصة، وصيدليات المستشفيات الخارجية، وفي أقسام المستشفيات المختلفة، وفي العيادات الخارجية، وعيادات المشورة الدوائية ووقف التدخين ومنع الإدمان، وفي استيراد وتوزيع وتخزين وبيع الأدوية، والرقابة الدوائية، والتأمينات، والترويج العلمي، والتدريب العلمي والتسويقي، والشركات المساندة للقطاع الصيدلي، والمبيعات، والتعليم الصيدلي الجامعي وكليات المجتمع، والإعلام الدوائي، وتطوير الأدوية، وتحليلها، وتصنيعها، والفضاء الرقمي، والمعلوماتية، والانترنت من صيدليات ومواقع طبية، والمعلومات الدوائية، والممارسة السريرية العامة والمتخصصة، والمؤسسات العامة الحكومية للدواء، والمراكز الصحية، والتزويد الحكومي، وغيرها الكثير.
السؤال الذي يطرح نفسه في هذه اللحظة، هل يستطيع أي برنامج جامعي تأهيل صيدلي قادر على مزاولة أكثر من 85 مجالاً بكفاءة واقتدار؟ والسؤال الأهم، هل العمل في كل تلك المجالات يعد ممارسة حقيقية لمهنة الصيدلة تتطلب وجود صيدلاني أو دكتور صيدلي؟ أليس التركيز على كل ذلك سيؤثر سلباً على قدرتنا في إيجاد تعليم نوعي يحقق الغاية الأسمى من تقديم الرعاية الصيدلانية المثلى للمرضى؟ أليس التعليم لتأهيل الصيادلة مثلاً للعمل في مصانع الأدوية والرقابة والإدارة وفي مجال المبيعات والتسويق، يأتي على حساب الممارسة السريرية لمهنة الصيدلة؟ وهنا نتساءل: هل الأولى تطوير مناهجنا الجامعية لتخريج صيادلة على مستوى عالي من الكفاءة والمهارة في التعامل مع المرضى والخطط العلاجية والإرشاد الدوائي، ومؤهلين على تقديم رعاية صيدلانية بأعلى المستويات، وبما يحقق التوجهات الحديثة للمهنة، وفي المجال الذي لا يتقنه غير الصيدلي، ولا ينافسه فيه أحد، أم يجب أن نبقى تائهين في محاولة بائسة لتخريج صيادلة دون هوية يفتقرون للكفاءات والمهارات المطلوبة لتقديم الرعاية الصيدلانية المثلى.
نحن الآن في عصر الاختصاص في المعرفة، فالعلوم والمهن تتوسع وتتفرع في اختصاصات ومعارف عديدة ومتنوعة، ولا يستطيع شخص واحد الإلمام بكافة الفروع والجوانب المرتبطة بعلم معين، وكذلك هو الأمر مع العلوم الصيدلانية المختلفة. لذلك لابد من إيجاد برامج تدريسية قادره على تخريج أشخاص أكفاء ومختصين في علمهم، فمن جهة يجب الارتقاء بتخصص دكتور صيدلة بإضافة دورات اختيارية في مجالات عمل جديدة، على سبيل المثال في مجال المعلوماتية والإدارة والتشريعات والرقابة وتسجيل الأدوية بالإضافة إلى استحداث برامج إقامة واختصاص في الأقسام السريرية المختلفة. ومن ناحية أخرى، يجب تطوير الخطط التدريسية في كليات الصيدلة لتكون قادرة على تخريج صيادلة مؤهلين لتقديم الرعاية الصيدلانية والدوائية المثلى للمرضى، وهو الهدف الأساسي من ممارسة مهنة الصيدلة. أما في المجالات غير المرتبطة بالمرضى، مثل الإدارة الصيدلية والتحليل الدوائي والصناعة الدوائية وغيرها من المجالات التي لا يتطلب العمل بها الخضوع لبرامج تدريسية مطولة ومكثفة كالتي يخضع لها الصيدلاني، من الممكن إعداد أفراد للعمل بهذه المجالات بفترة أقصر وتكلفة أقل من خلال فتح برامج دبلوم تقنية وتدريبية متخصصة في كل مجال (لمدة 3 سنوات مثلاً)، فذلك سيخفف من الضغط الطلابي الكبير على كليات الصيدلة، ويساعدها على تخريج صيادلة قادرين على ممارسة مهنة الصيدلة، وتحقيق هدفها دون تشتت في مجالات أخرى، وفي نفس الوقت سيساعد على تطبيق التوجه الحكومي الحالي بايجاد اختصاصات فنية بدلاً من الأكاديمية بما يتناسب مع احتياجات الدولة وسوق العمل بتكاليف أقل ومدة أقصر.
لو نظرنا الآن للتعريف المعتمد لمهنة الصيدلة كما ورد في الفصل الثاني من قانون الدواء والصيدلة رقم 12 لعام 2013م مادة 20-أ ونصه «الصيدلة مهنة علمية صحية تؤدي خدمة إنسانية ولها آثار اجتماعية واقتصادية عامة ويعتبر مزاولة لها تحضير أو تجهيز أو تركيب أو تصنيع أو تعبئة أو تجزئة أو استيراد أو تخزين أو توزيع أو الشراء بقصد البيع أو صرف أي دواء أو تركيبة حليب الرضع والتركيبة الخاصة والأغذية التكميلية لهم أو القيام بالإعلام الدوائي لمقاصد تعريف الأطباء بالدواء»، نلاحظ أن التعريف واسع وفضفاض ووضع بطريقة شاملة لمعظم مجالات عمل الصيدلي المذكورة آنفاً. قد يخدم هذا التعريف المُشرع والعاملون لحفظ الحقوق والمحافظة على المكتسبات، لكن لا يُشرع لمستقبل مهنة الصيدلة في الرعاية الصيدلانية، كما أنه يتجاهل التغيرات الجديدة التي طرأت على التعريف العالمي الحديث لمهنة الصيدلة، فهو لا يتطرق للدور الرئيس للصيدلي في حماية المريض من أخطار الأدوية وتحسين مخرجات الخطة العلاجية، بالإضافة إلى تجاهله لأهم فروع الصيدلة وهي الصيدلة السريرية. التعريف أعلاه، يحاصر المهنة في ما يتعلق بالاستشارة الصيدلانية والخدمات الأخرى التي يقدمها الصيدلي الآن عالمياً ويؤجر عليها، من إعطاء المطاعيم والعيادات الصيدلية المتخصصة في الأمراض المزمنة والطب البديل ووقف التدخين ومتابعة المدمنين والرعاية المنزلية وغيرها. ويؤسفني القول أن هذا هو الواقع الحقيقي لمهنة الصيدلة في الأردن، مازالت محصورة في صرف الأدوية والإعلام الدوائي وبعيده عن تقديم خدمات دوائية ورعاية صيدلانية للمرضى، وحتى خريجو دكتور صيدلة، لم يحصلوا على الفرصة الحقيقة للآن لممارسة الصيدلة السريرية في المستشفيات والمؤسسات الصحية بهدف خدمة المرضى ومتابعة الخطط العلاجية.
مما سبق نستطيع القول أن على كليات الصيدلة في الأردن، ونقابة الصيادلة، أخذ زمام المبادرة، والنظر في تعريف مهنة الصيدلة ليواكب المستجدات الحديثة، والعمل على تأهيل المناهج الجامعية لتدريس الصيدلة أسوة بالكليات العالمية، وأخذ مفاهيم التعريف الحديث لمهنة الصيدلة على محمل الجد لتطبيق مبادئ الممارسة المثلى لمهنة الصيدلة على أرض الواقع، ولا نعيد اختراع العجلة ولا نوظف خصوصية البلد والثقافة للهروب من مستحقات التغيير ومواكبة العصر. كما يجب الارتقاء بخريج الصيدلة ليكون قادر ومتمكن وفاعل، وذلك باعتماد مخرجات تعليمية لا تتمحور حول المعلومة أنما حول المهارات والكفاءة والقدرات البحثية ومهارات التواصل والأخلاق المهنية. الصيدلي هو خبير الدواء الذي تتمحور مهنته حول الاستخدام الأمثل للدواء وتعظيم الفائدة منه. إذا فكرنا ملياً واعتمدنا هذا التعريف تصبح الرؤية واضحة في كيفية بناء المناهج والممارسة الصيدلية بشكل يعتمد الإبداع في التعليم والتدريب لترتقي المهنة في تركيزها على صحة المريض والرعاية الصحية المجتمعية. هنا فقط سيُنظر للصيدلي بالاحترام الذي يستحق وبالتقدير على مساهمته القيمة ودوره الحيوي والذي لا يستطيع أي كان القيام به.
* عميد كلية الصيدلة
جامعة العلوم والتكنولوجيا الأردنية سابقاً
والعميد المشارك حاليا بجامعة قطر