المواطنة لا الدين .. هي الرباط بين رعايا الدولة في الإسلام

21/11/2013

مركز الرأي للدراسات

اعداد : بلال حسن التل

تشرين الثاني2013

قال صديقي المسيحي معلقًا على مقالي المنشور في «الرأي» يوم الأربعاء 5/11/2013، حول «حقوق المواطنة في الدولة الإسلامية» كما نصت عليها صحيفة المدينة التي نظم من خلالها رسول الله صلى الله عليه وسلم العلاقة بين مواطني الدولة الناشئة ومتسائلاً: إلى أي حد تم تطبيق نصوص صحيفة المدينة على أرض الواقع؟ وهل هناك نموذج تاريخي يمكن من خلاله طمأنة مسيحيي الشرق على حقوقهم في هذا الوطن، في ظل تصاعد العنف الذي تصاعدت معه هجرتهم؟ وبعض أسبابها تصرفات متعصبين ومتطرفين يحسبون أنفسهم على الإسلام؟ فأجبت صديقي بالقول: إن التاريخ مليء بالشواهد والأدلة والنماذج على حق المواطنة الذي يتمتع به الجميع،-مسلمين وغير مسلمين-في ظل دولة الإسلام، كما ان الأدلة كثيرة على انه في كل مرة كان غير المسلمين في بلد إسلامي يظلمون، كان المسلمون يتعرضون لظلم أشد من ظلم غيرهم في بلاد المسلمين. فالظلم إذا وقع عمّ، خاصة في مراحل التخلف الحضاري كهذه المرحلة التي نعيشها. لذلك علينا جميعًا في هذه البلاد -مسلمين ومسيحيين- ان نسعى إلى إعادة بناء الوعي الحضاري للأمة، لتستعيد معها بناء علاقة المواطنة كما تضمنتها صحيفة المدينة، التي حولها رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون من بعده في عصور نهضتهم إلى حقيقة مجسدة على الأرض. فعاش أبناء الأمة في ظل دولة الإسلام على اختلاف أديانهم وألوانهم متعاونين متحابين، تربطهم علاقات إنسانية واجتماعية وثقافية، واقتصادية كاملة، مبنية على الاحترام كأبناء وطن واحد.


الحق في حرية الاعتقاد

ففي مجال العقيدة واحترام عقائد غير المسلمين، أرسى رسول الله صلى الله عليه وسلم قاعدة ثابتة على مر الأجيال في احترام عقائد الآخرين، من ذلك: أنه لما قدم وفد من نصارى الحبشة إلى المدينة المنورة، أنزلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجده؛ كما كان يقوم بنفسه على خدمتهم ورعايتهم، لانهم كانوا للصحابة الذين هاجروا للحبشة مكرمين.. فأحب عليه السلام أن يكرمهم بنفسه.
كما سمح رسول الله عليه السلام لوفد نصارى نجران، الذي جاء لمباهلته عليه السلام بإقامة صلاتهم في مسجده. حيث خصّص لهم جزءًا من المسجد، كانوا يقيمون ويصلون فيه، في حين كان الرسول والمسلمون يصلّون في الجزء الآخر من مسجده عليه السلام. وهي نفس الممارسة التي تكررت بعد ذلك كثيرًا في تاريخ أمتنا. كما حدث في كنيسة يوحنا الكبرى في دمشق، حيث وافق المسلمون بعد فتح دمشق على أن يصلوا فيها، فكان أبناء الديانتين يصلّون في نفس الوقت، فئة منهم تتجه نحو الكعبة والثانية نحو القدس، بعد أن سبق ذلك رفض أمير المؤمنين عمر بن الخطاب الصلاة في كنيسة القيامة خوفًا من ان تتحول إلى مسجد في أروع ممارسة من منتصرين في احترام عقائد الناس.
لقد ظلت الدولة الإسلامية في كل عهود ازدهارها كافلة لحرية الاعتقاد لكل مواطنيها امتثالاً لأمر الإسلام، واقتداء برسول الله، وتنفيذًا لصحيفة المدينة، حيث امتدت حرية الاعتقاد عند المسلمين لتشمل بالإضافة لليهود والمسيحيين، الصابئين، والزادشتيين، والهندوس، والبوذيين. كما اعترف المسلمون بالمجوس كأهل ذمة، وصار لهم مثلما لليهود والمسيحيين رئيس يمثّلهم لدى الخليفة. وبسبب هذه الحرية في الاعتقاد ظل الجميع، خاصة أهل الكتاب يمارسون طقوسهم الدينية بحرية تامة، فقد ظلّ المسيحيون بعد الفتوحات الإسلامية على ما كانوا عليه من حيث الدين وطقوسه، يقيمون الصلاة في كنائسهم، كما كانوا يقيمونها قبل الإسلام. يأتيهم الأساقفة والقساوسة من أنطاكية والقسطنطينية. وظلّوا يتكلمون بلغة روما، ويعتقدون معتقداتها تمامًا مثلما ظلّ أقباط مصر يتكلمون بلغتهم إلى ما بعد دخول الإسلام مصر بمئات السنين.

مجتمع متعدد

وبسبب هذه الحرية في الاعتقاد أيضًا ظل أصحاب الديانات الأخرى يعيشون في كل العالم الإسلامي،-مدنه وقراه وبواديه-، بينما تم استئصال المسلمين واليهود من الأندلس بعد سقوطها بيد الإسبان. وفي التاريخ إن الإمبراطور شارل الخامس أصدر في أوائل القرن السادس عشر مرسومًا في إسبانيا ضد من أسماهم بالهراطقة، وفي طليعتهم المسلمون واليهود. وصار يُعاقب كل من لا يعترف بصحة العشاء الرباني كما يراها هو، بالشنق والحرب وتمزيق الجثة ولوي اللسان. وكانت أوروبا تنظر إلى اختلاف المذهب داخل الدين المسيحي كجريمة وكسبب لإشعال الحرب. ولذلك قال العالم الألماني آدم ميتز:»إن أكبر فرق بين الإمبراطورية الإسلامية وبين أوروبا التي كانت كلها على المسيحية، يتمثّل في وجود عدد هائل من أهل الديانات الأخرى بين المسلمين».

امتزاج اجتماعي

أما على الصعيد الاجتماعي، فلم يمنع اختلاف الدين من امتزاج الناس اجتماعيًا في ظل الدولة الإسلامية، بعد أن أرسى رسول الله صلى الله عليه وسلم أسس هذا الامتزاج.. ذلك أنه عليه السلام تزوج من مسيحية ومن يهودية صارتا أمهات للمؤمنين، وهذه ممارسة نبوية تؤكد على تشجيع الإسلام للامتزاج الاجتماعي بين الناس تحقيقًا لهدف رئيس من أهداف خلق الإنسان وهي التعارف:»وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا». وهذه الممارسة النبوية تدل أيضًا على أن الرباط بين أبناء الدولة والمجتمع هو رباط المواطنة، وأن لكل دينه على قاعدة «لكم دينكم ولي دين».
وفي الإطار الاجتماعي أيضاً كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم جيران من أهل الكتاب كان يتعهّدهم بالبرّ، وحسن الجوار، ويتبادل معهم الهدايا، حيث كان عليه السلام يتقبّل هدايا جيرانه من أهل الكتاب؛ كما كان عليه السلام يحضُر ولائمهم ويشاركهم مناسباتهم الاجتماعية، ويشدّ من أزرهم في مصائبهم ويشاركهم مجالسهم، وقامت بينه وبينهم معاملات تجارية واقتصادية بما في ذلك القرض والرهن. واقتداء بهذا السلوك النبوي ظل المسلمون في كل عصور الازدهار يشاركون أبناء الديانات الأخرى من شركائهم في الوطن بكل أعيادها الدينية، ومناسباتهم الاجتماعية، ففي العهد الأموي كانت للمسيحيين احتفالاتهم العامة في الشوارع، تتقدمها الصلبان، ورجال الدين بألبستهم الكهنوتية، ويروى أن البطريرك ميخائيل دخل الإسكندرية في موكب ضخم، وبين يديه الشموع والصلبان والأناجيل. وكان ذلك في عهد هشام بن عبد الملك. أما في عهد هارون الرشيد فقد كان المسيحيون يوم عيد الفصح يخرجون في موكب كبير وبين أيديهم الصليب. ويذكر المؤرخون أن الأسواق كانت تتزين في أعياد المسيحيين. أما في عهد الإخشيديين فكان يقام في عيد الغطاس احتفالٌ كبيرٌ.. حتى أن السلطان الإخشيدي محمد بن طغج كان يجلس في قصره، وقد أسرج حوله ألف قنديل، وكان الناس من مسلمين ومسيحيين يلبسون أحسن ما عندهم من ثياب، ويحملون ألوان الطعام والشراب في أوانٍ من الذهب والفضة احتفالاً بهذا العيد.

وهذا كله غيض من فيض حول العلاقات الاجتماعية والإنسانية التي قامت بين أتباع الديانات في ظلّ الدولة الإسلامية التي تقوم على المواطنة والتعددية.

وفي مناصب الدولة

ومن مؤشرات حق المواطنة لغير المسلمين في دولة الإسلام، أن اختلاف الدين لم يحل بين غير المسلمين وإشغال أعلى المناصب في الدولة الإسلامية.. فقد تولى غير المسلمين أرفع المناصب في الدولة الإسلامية، بما في ذلك الوزارات الحسّاسة مثل وزارة المالية، بل لقد وصل بعض غير المسلمين في الدولة الإسلامية إلى مواقع أثارت غيرة المسلمين. فقد كان المسيحيون يتولون تأديب بعض الأمراء، حيث عهِد عبد الملك بن مروان إلى مسيحي هو أثناسيوس بتأديب أخيه عبد العزيز. وقد رافقه إلى مصر عندما صار عبد العزيز واليًا لمصر، حيث جمع أثناسيوس هناك ثروة طائلة من بينها: أربعة آلاف من العبيد والكثير من القصور والبساتين وقيل إن الذهب والفضة كانت عنده كأنها الحصى، وكان أولاده يأخذون من كل جندي عند استلام راتبه دينارًا، وقد بلغ مرتبة الرئاسة في دواوين الإسكندرية ولقب بالمخاطبات الرسمية بـ»الكاتب الأفخم». وقد صار أثناسيوس هذا متوليًا للخراج، أي وزيرًا لمالية دولة الخلافة كلها.
أما في عهد الخليفة المعتصم، فقد كان من أقرب الناس إليه وزيره المسيحي سلمويه، وقد كانت الوثائق الرسمية الصادرة عن الخليفة لا تأخذ صفة التنفيذ إلا بعد توقيع سلمويه عليها، في حين عهد بحفظ خاتم الخليفة إلى شقيق سلمويه، بالإضافة إلى خزانة بيوت المال. وفي عهد المعتضد كان والي الأنبار عمر بن يوسف مسيحيًا.
كما شغل إبراهيم بن هلال الصابئي أعلى المناصب في العهد العباسي، ولّما مات رثاه الشريف الرضيّ شيخ الهاشميين العلويين.

وفي عهد الخليفة الفاطمي الظاهر، كان الوزير أبو نصر صدقة بن يوسف الفلاحي يهودياً، وكان يدير الدولة معه يهوديٌ آخر هو أبو سعد التستري. أما في عهد الخليفة الفاطمي العزيز بالله الذي كان متزوجًا من مسيحية، فقد صار المسيحيون هم أصحاب النفوذ في بلاطه، وقد عيّن شقيقي زوجته مطرانين، أحدهما للقدس، والآخر لمصر. وقد استوزر هذا الخليفة عيسى بن نسطورس النصراني، وأناب عنه بالشام منشا اليهودي.

فرادة تاريخية

أما في الأندلس، فقد كان الأمر لا يقلّ عنه في الشرق من حيث اشتراك غير المسلمين في إدارة الدولة باعتبارهم مواطنين وشركاء في الوطن. وقد لاحظ آدم ميتز ضخامة عدد الولاة والعمال والموظفين في الدولة الإسلامية في عصورها المبكّرة فقال:»كأن النصارى هم الذين يحكمون المسلمين في بلاد الشام». ومن ذلك أن الإدارة المالية في الدولة الأموية أسندت لأسرة مسيحية، ظل أبناؤها يتوارثون الوظائف المالية لعقود. كما أسندت جباية خراج مصر إلى إبن أثال وهو مسيحي، وهذا كله غيض من فيض يؤكد أن الإسلام يجعل كل أبناء الوطن شركاء في حمايته، وإدارته بصرف النظر عن دينهم. وهو ما دفع مسيحي منصف هو أدمون رباط في كتابه المعنون»المسيحيون في الشرق قبل الإسلام» إلى القول:»إنه للمرة الأولى في التاريخ انطلقت دولة هي دينية في مبدئها، ودينية في سبب وجودها، ودينية في هدفها، ألا وهو نشر الإسلام عن طريق الجهاد بأشكاله المختلفة من عسكرية وتبشيرية إلى الإقرار في الوقت ذاته بأن من حق الشعوب الخاضعة لسلطانها ان تحافظ على معتقداتها وتقاليدها وطراز حياتها. وذلك في زمن كان يقضي المبدأ السائد بإكراه الرعايا على اعتناق دين ملوكهم، بل وحتى على الانتماء إلى الشكل الخاص الذي يرتديه هذا الدين».

دفاع عن الوطن

ولم يتوقف إشراك غير المسلمين في الدولة الإسلامية على الجوانب المدنية من إدارة الدولة، بل تعداها إلى الجانب العسكري، مما يعني أعلى درجات ثقة الدولة برعاياها من غير المسلمين، ومما يؤكد ان الدولة الإسلامية تقوم على أساس المواطنة، فمنذ البدايات الأولى لفتح الشام اتصل قادة الفتح بعرب الشام الغساسنة المسيحيين واستعانوا بهم على اعتبار انهم عرب، وقد استجاب عدد كبير منهم لدعوة الجيوش الإسلامية فساعدوها، خاصة في فتح دمشق. وظل الخلفاء حريصين على إشراك من يرغب من غير المسلمين في الدفاع عن الوطن، حيث كان يعفى مَنْ ينخرط في الجيش مِنْ دفع الجزية، لأن الجزية في جوهرها بدل الخدمة العسكرية. لذلك كانت تسقط عن الشيخ والمرأة والطفل، وعن العاجز عن حمل السلاح، وعمن يرغب في القتال إلى جانب المسلمين، كما كانت تُرد إلى المدن التي لا يستطيع المسلمون الدفاع عنها.
وقد أصل فقهاء المسلمين جواز اشتراك غير المسلمين في جيش الدولة، دون إجبارهم على هذه المشاركة لأن الأصل في أن أحد مهمات الجيش المسلم هو إزالة الحواجز أمام نشر الإسلام مما لا يؤمن به غير المسلم.
فقد أجاز الإمام الشافعي اشتراك غير المسلمين في الجيش الإسلامي، مستندًا إلى أن الرسول عليه السلام استعان في غزوة خيبر بعدد من يهود بني قنيقاع، كما استعان في غزوة حنين بمشرك هو صفوان بن أمية. وذكر البلاذري أن أبا زيد الطائي وهو مسيحي حارب إلى جانب المسلمين في واقعة الجسر.
وفي عهد الخليفة المعتضد أوكل إلى مسيحي، يدعى إسرائيل أمر تنظيم الجيش، وفي أيام المقتدر تولى ديوان الجيش مسيحي كما لا يخفى على أحد اشتراك العرب المسيحيين مع صلاح الدين في رد الهجمة الصليبية على بلادنا، وهذه كلها شواهد تؤكد شراكة أبناء الوطن في الدفاع عنه.
إذن فالتاريخ مليء بالممارسات والتجارب والأدلة، التي تؤكد ان الدولة الإسلامية ليست دولة دينية بالمفهوم الغربي الذي ساد في القرون الوسطى، لكنها دولة مواطنة، يتمتع بها المواطن بكل حقوقه، وأولها حق العبادة بحرية، ورغم أن بعض أتباع الديانات الأخرى من مواطني الدولة الإسلامية استغلوا الحرية التي مُنحت لهم، والمكانة التي احتلّوها في الدولة الإسلامية فسعوا لإضعافها، بل إن منهم من تآمر مع أعدائها، لكن ذلك لم يجعل الخلفاء والسلاطين يفكرون بحرمان غير المسلمين من حقوقهم، بل لقد تصدى الفقهاء لمن حاول ذلك منهم كما حدث مع السلطان العثماني سليم الأول الذي فكر بإخراج غير المسلمين من البلاد، فتصدّى له شيخ الإسلام قائلاً:»ليس لك على النصارى واليهود، وليس لك أن تزعجهم عن أوطانهم».
خلاصة القول: إنه إذا لحق ظلم أو أذى في أية فترة من فترات التاريخ بغير المسلمين في بلادنا، فقد كان هذا الظلم والأذى يعمُّ فيصيب المسلمين مع غيرهم، (كما نلحظ)، الآن فإن العنف لا يصيب المسيحيين وحدهم سواء في العراق، أو سورية، أو لبنان، أو أي بلد من بلداننا، لكنه يصيب المسلمين والمسيحيين، مما يفرض علينا جميعًا كمواطنين أن نتوحد لمواجهة التطرف، والإرهاب، والتخلف ببناء وعي الأمة الحضاري، فهذا هو الحل أما الهجرة فليست حلاً.