أكد أمين عام منتدى الفكر العربي د.الصادق الفقيه أن «الشرق الأوسط» يواجه تحدياً رئيساً يتمثل في إعادة النظر في خريطة المنطقة وتقسيمها من جديد وفق رؤى الغرب، وذلك بسبب عدم تعلُّم المجتمعات في هذه المنطقة احترامَ التنوع.
وحذّر الفقيه في المحاضرة التي نظمها له مركز «الرأي» للدراسات بعنوان «الشرق الأوسط وصراع الأولويات بين هيمنة المصالح والتحولات الديمقراطية»، من سيناريوهات مختلفة يتم رسمها لمستقبل المنطقة, أخطرها ذلك المتعلق بـ «حدود الدم» والذي كشفت عنه مجلة عسكرية أميركية في مقالة توقعت خريطة جديدة للمنطقة تقوم على صراع الأديان والإثنيات والمذاهب والأقليات.
ورأى المحاضر أن مفهوم «الشرق الأوسط» ما يزال شكلياً بسبب تنازع «الجغرافيا» و»الديمغرافيا»، والجدل المستمر بين هاتين السمتين. مؤكداً في سياق متصل على إمكانية الموازنة بين مصالح الأمة والمصالح الأميركية والأوروبية، وذلك في تم التوافق على تشكيل رؤية مشتركة أو وضع تعريف مشترك للمصالح التي يتطلع لأن يتم تبادلها مع الغرب أو الشرق.
وقال الفقيه إن كثيراً من التفاؤل الذي جاء مع «الربيع العربي» يمكن أن يظل موجوداً لو تم تحويل ما حدث الى «فعلاً إيجابياً»، نظراً لأن المؤشرات الإيجابية فيه كثيرة، ويمكن أن يستمر البناء عليها. مدللاً على ذلك بنجاح التجربة الإصلاحية في دول مثل الأردن والمغرب لم تشهد حراكاً عنيفاً أو دموياً مثلما شهدته ساحات أخرى.
ولفت إلى أن الفرصة ما تزال أمام المفكرين لتوجيه مسارات «الثورات العربية»، بدل أن تظل الأمور بيد للشارع، داعياً إلى وجوب الاستفادة مما يحدث الآن، وتعظيم فرص الحراكات و «الثورات» ومحاولات الإصلاح. مؤكداً أن كل من يستطيع أن يسحب نفسه من إلحاح الحاضر، عليه أن يعمل على التفكير في المستقبل.
حررتها: بثينة جدعون
أعدّها للنشر: جعفر العقيلي
تموز 2013
تالياً أبرز ما تناولته المحاضرة التي أدارها مدير مركز «الرأي» للدراسات د.خالد الشقران:
استهل الفقيه حديثه بقوله إنه يصعب التكهن بالمسار الذي يقود إليه حاضر المنطقة، فالحقائق الموضوعية «لا تتوفر في فترات الأزمات»، مضيفاً أننا إذا لم نستطع أن ندرك كيف يسير الحاضر فمن الصعب جداً أن نُكيّف رأياً حول المستقبل.
وتابع الفقيه: يمثل «الشرق الأوسط» كمفهوم إشكالية في الماضي والحاضر والمستقبل، متسائلاً: هل هو جغرافيا أم ديمغرافيـا؟ فإذا كان جغرافيا فهناك مناطق يصح أن تكون جزءاً منه، لكنها في واقع الأمر ليست جزءاً منه. وأوضح أن الشرق الأوسط كان موضوع دراسة للآخر، وما كان «الشرقُ الأوسط» لبعضهم هو «غربٌ أوسط» لبعضهم الآخر، وهناك من يرى فيه «جنوب أوسط» أو «شرق أدنى» و «شرق أبعد».. إلخ. وإذا عددنا تركيا جزءاً من «الشرق الأوسط» فيصح أن نطلق على الدول المتاخمة للبحر المتوسط الصفة نفسها، لأنه يمتد غرباً إلى جبل طارق. وبذلك، فإن الجغرافيا ليست ضامنة لصحة هذا الوصف الذي نطلقه على «الشرق الأوسط».
وأوضح الفقيه أن التسمية إذا كانت منطلقة من الديمغرافيا، فهذا يمثل إشكالية أخرى. متسائلاً: «لِمَ يدور الصراع حول الشرق الأوسط؟»، مشيراً إلى ما تم تداوله في السنوات الأخيرة من جدل حول «خريطة جديدة، ورؤية جديدة، وتصورات جديدة، وشرق أوسط جديد، وديمقراطية ممكنة أو محتملة له، وإعادة توزيع وإعادة تقسيم»، حتى صارت المنطقة موضوعاً للدراسة في مجال الديمغرافيا من جديد.
وقال الفقيه إن الغرب بدأ يرى منذ فترة طويلة أن الجغرافيا بحسب التقسيم الذي وضعته اتفاقية «سايكس بيكو» ومؤتمر «لوزان»، لم تعد ممكنةً وظيفياً، أو أن الشكل الوظيفي للدولة لم يعد ممكناً بسبب التقسيمات التي اجترحت الكثير من الأخطاء في ما يتعلق بديمغرافيا المنطقة، ولأن هناك «إشكالات سكانية» لا بد من إعادة النظر بها، كما أن هناك «فاعلاً جديداً» جاء إلى المنطقة لا بد من استيعابه بشكل من الأشكال، فإذا كان لا ينتمي إلى جغرافيا المنطقة فهو ينتمي إلى ديمغرافيتها لأنها ليست وحدة واحدة.
وبيّن أن رؤية بعضهم تقوم على أن هناك الكثير من التكوينات العرقية والعنصرية والثقافية والمذهبية والدينية ليتشكل «الشرق الأوسط» على أساسها، لا على أساس الجغرافيا والحدود، كالحديث عن الدولة الكردية والدولة اليهودية، والعديد من المسميات التي يحاولون إيجاد تبرير موضوعي لها.
احترام التنوع
وأوضح الفقيه أن مجتمع الشرق الأوسط من أقصاه إلى أقصاه لم يتعود العيش في ظل التنوع، ولم يتعلم احترام التنوعات داخل مجتمعاته المختلفة، لذا يذهب بعضهم إلى ضرورة إعادة تقسيم الشرق الأوسط على ضوء هذه التنوعات، وإعادة «رسم الخريطة» من جديد. مشيراً إلى العديد من الخرائط التي توزَّع بين الحين والآخر حول «الشرق الأوسط الجديد»، وأبرزها ما نشرته مجلة (The Arm Forces) العسكرية الشهرية في عددها الصادر في حزيران 2006 ضمن مقالة بعنوان «حدود الدم» ترى أن المواضعات الجغرافية القديمة ائتلف عليها كثير من القوميات داخل حدود المنطقة، وإن أي محاولة لإعادة رسم المنطقة من جديد لا بد لها من تجمُّع إرادات، وهي غير متوفرة في منطقة «الشرق الأوسط»، لذا لا بد من التفكير في «جراحة يسيل فيها الكثير من الدم»، حتى يُعاد ترتيب المنطقة من جديد. فإذا تم تقسيم الجغرافيا تحت ظل الاستعمار بشكل سلمي، فإن «الحدود الأخرى» لا بد لها كذلك من دم، وتشمل المذهب والدين والعرق والعنصريات المختلفة.
وأشار الفقيه إلى أن مقالة «حدود الدم» والخريطة المصاحبة لها تشتملان على كثير من التفصيلات منها: مَنْ مِنَ الدول ستقسَّم؟ ومَن يُضاف إليها وكيف يُضاف إليها؟ وكيف يتم ترتيب عيش القوميات وتجميعها ومحاولة دمجها بعضها مع بعض، على أساس أن النقاء الديني والمذهبي والعنصري ستنشأ معه دويلات أكثر استقراراً.
ولفت الفقيه إلى أن هناك حجة يتم اعتمادها لتبرير هذا المشروع، هي أن «الصومال» مثلاً، شكلت أول فشل حقيقي لدولة قُطرية في العالم، رغم أنه لا توجد دولة في الأرض متجانسة مثل الصومال، فسكانها ينتمون إلى قبيلة واحدة ولهم لغة واحدة ويتبعون ديناً واحداً ومذهباً واحداً.
وبيّن الفقيه أن هذه النظرية يمكن محاججتها بنماذج موجودة في أكثر من مكان، مضيفاً أن النقاء العنصري والمذهبي والديني لا يشكل ضمانة حقيقية لاستقرار الدولة الجغرافية أو القطْرية أو «الدولة الأمة» كما تسمى، فهناك كثير من الدول تتشعب فيها الاختلافات ورغم ذلك تستقر فيها الأحوال بشكل مثالي جداً كما في أوروبا وفي غيرها من الأماكن، في حين أن كل هذا التنوع داخل الشرق الأوسط يُستخدم ليس لمصلحة إغناء الحالة الاجتماعية أو الوطنية أو السياسية لكل دولة، بل لتهييج عواطف المجموعات المختلفة داخل بلدانها، حتى تصير مصدراً دائماً للقلاقل والإزعاج، وسبباً في ضعف الدولة القُطرية في هذه المنطقة التي تضم العالم العربي في وسطها.
وتساءل الفقيه: كيف يمكن للدول الغربية التي تعمل بهذا الاتجاه أن تحصّن مصالحها؟، مضيفاً أن الاستعمار كان محاولة لهيمنة المصالح حول العالم بشكل مباشر أو عبر المواد الأولية أو الأيدي العاملة التي شكلت الجانب الاقتصادي والثقافي في الاستعمار القديم، لكن وقتنا هذا يشهد أشكالاً أخرى من المصالح، فالغرب يتحدث حول مستقبله المرتبط بـ «الآخر»، وعندما يتحدث الغرب عن عسكرة السياسة الخارجية في أكثر من مكان، وعندما يعاد توزيع مناطق النفوذ حول العالم، وعندما تتشكل رؤى ونظريات وتصورات حول ذلك، فإن علينا أن ننتبه إلى هذه المحاولات التي يراد بها الهيمنة من جديد، وهي هيمنة تبتغي المصالح بشكل جديد، ولا تفتصر على المواد الأولية.
وتابع الفقيه: لقد تحدث «توني بلير» عن ضرورة عسكرة السياسة الخارجية للحفاظ على مستوى عيش مناسب (Standard of living)، للمجتمعات الغربية وعندما ينشأ أي صراع في منطقة الخليج فإن مصالح الحضارة الغربية لا يمكن أن تسمح بوجود أي نفوذ غير ذلك الذي يسمح بمرور الطاقة من هذه المنطقة الحيوية في العالم.
وبيّن الفقيه أن الحفاظ على مرور الطاقة والمواد الأولية الأخرى من أطراف العالم هو ما يشكل نظرية هيمنة المصالح الجديدة في العالم، مضيفاً أن منطقة الشرق الأوسط ستظل منطقةً للصراع بأبعادها الجغرافية والسكانية المختلفة، ومنطقة لتحقيق المصالح ممثلة بالموارد الغنية وخاصة موارد الطاقة، وبوصفها أيضاً منطقة عبور مهمة، منذ طريق الحرير إلى يومنا هذا.
ورأى أننا نشهد محاولة اقتسام المناطق واستعادة نفوذ هذا البلد أو ذاك في هذه المنطقة أو تلك، ونحن منشغلون بالتفاصيل التي أُشغلنا بها، ومحاولة معالجة الاحتكاكات الدائمة بين السكان والقوى المختلفة داخل المجتمعات. مضيفاً أن وزارة الخارجية الأميركية والبلدان الأوروبية تتحدث عن ضرورة أن يتوجه الدعم الخارجي للمنطقة من خلال منظمات المجتمع المدني، مستدركاً أن الكثير من الفاعلين في منظمات المجتمع المدني وطنيون وحريصون على خدمة مجتمعاتهم، لكن هناك منظمات وفاعليات وطنية في المنطقة تُتَّخذ كمداخل للتأثير والنفوذ ولإعادة صياغة المنطقة ثقافياً وسياسياً أو سوى ذلك من الصياغات التي يراد أن تترتب على ضوئها هذه المنطقة في الحاضر والمستقبل.
وأضاف الفقيه أننا نشهد صراعا روسياً-أميركيا في المنطقة، ونلحظ نشاطاً صينياً فيها أيضاً، لكن ليس لدينا الوقت لنفكر كيف يؤثر هذا في مستقبلنا؟، لافتاً إلى أهمية وعي حجم الوجود الصيني والروسي والهندي في المنطقة، إضافة إلى القوى الناهضة مثل تركيا وإيران التي تحاول أن تجد لها حصة في موارد هذه المنطقة من العالم وتعمّق مستقبل نفوذها فيها.
تكامل المصالح الاقتصادية
وحول كيفية تشكل هذه المنطقة، وكيف يمكن لها أن ترعى مصالحها داخل هذه المجموعات المتصارعة من القوى العالمية الكبيرة والصغيرة، قال الفقيه إن هناك قوى فاعلة تؤثر تأثيراً مباشراً، وهناك قابلية كبيرة لاستقبال هذا النفوذ، ليجد من الذرائع ما يحقق له المطامع التي يريد في المنطقة، إضافة إلى وجود قابليات عالية جداً توفر للنفوذين الغربي والشرقي أن يفعلا فعلهما في هذه المنطقة، وفي المقابل هناك قوى كثيرة تستقبل ما يأتي من الخارج وتدعمه، إذ لم تعد هناك قابلية للاستعمار فقط، بل هناك أيضاً اشتغال على تمويله وتعزيز إمكانية وجوده من جديد، تحت مسميات مختلفة.
وأضاف الفقيه أن العلاقات بين الدول تعدّ شكلاً من أشكال النفوذ وإتاحة للمساحة الداخلية للآخر ليفعل فيها ما يريد، وأننا نجتذب الكثير من النفوذ الضارّ والصالح إلى هذه المنطقة وندعمه، مستشهداً بما صرح به أحد السياسيين في مناسبة حضرها «ديك تشيني» في الحرب الأخيرة على العراق، إذ تحدث عن أهمية المنطقة رغم التكلفة «الباهظة جداً» في غزو العراق وأفغانستان، خصوصاً غزو العراق في تقدير الكثيرين، وأضاف أن العراق كالشركة التي تستطيع أن تدمرها عشرات المرات وأن تجني أرباحاً كثيرة كل مرة. بمعنى أن المنطقة يمكن أن تُستغل بحيث يكون الفعل أو التدخل الخارجي رابحاً في كل الحالات.
وتابع الفقيه: شهدنا كثيراً من الحالات والغزوات التي أوجدت نفوذاً غربياً أو شرقياً في هذه المنطقة بدعم مباشر مادي وسياسي وثقافي، إذ إن خلق القابلية وإيجاد الذرائع والتهيئة الثقافية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية التي مكّنت هذا النفوذ من أن يأتي ويحتل المياه الإقليمية ويكون له وجود مباشر على الأرض العربية أو الأراضي في الشرق الأوسط، تم بفعل مباشر أو بدعم مباشر من قوى في المنطقة. مضيفاً أنه ليس هنالك إجماع في المنطقة على الحفاظ على مصالحها أمام هيمنة المصالح الغربية المتصارعة فيها.
وأوضح الفقيه أن جزءاً من التفكير الذي يدور الآن، يرى أن الحل في بعض القضايا الرئيسة في المنطقة لا يتم إلا عبر إيجاد مصالح اقتصادية بين المجموعات التي يمكن أن تشكل التنازع الرئيس فيها، بحيث يستعان بالاقتصاد لحل فشل السياسة وقضايا المنطقة.
وتساءل الفقيه: هل الديمقراطية مطروحة كخيار لأي حل؟ مبيناً أن هنالك الكثيرين الذين ينادون باستمرار بتحول ديمقراطي وبإصلاحات جذرية تقيل عثرات السياسة والاجتماع والثقافة والاقتصاد في هذه المنطقة المضطربة، لكن جميعها لم تنجح على ما يبدو. وأوضح أن هناك هجمة من الغرب لتأكيد المصالح نفسها والنفوذ نفسه، كي تعاد صياغة المنطقة صياغة جديدة من مدخل الديمقراطية، مستشهداً بما أسماه «الهجمة الديمقراطية المعسكرة» في فترة جورج بوش الابن التي كانت محاولة عنيفة لفرض حالة من الديمقراطية على المنطقة. كما تتبدى أمامنا الأمثلة التي أُنفق الكثير عليها لتوجد في هذه المنطقة.
ورأى الفقيه أن «الربيع العربي» جاء بإرادات محلية في أكثر من بلد، إذا استبعدنا المؤثرات والتدخلات ونظريات المؤامرة التي تشكك في هذا أو ذاك. وأضاف أن المطلب الأول لهذا «الربيع» كما عبّرت عنه الشعارات التي انطلقت في الميادين والشوارع العربية، تَمثَّل في استعادة الحياة السياسية الصحيحة، وإصحاح الحياة الاقتصادية بما لحق بها من فساد وإفساد، مضيفاً أننا نشهد بعد أكثر من عامين كيف تتبدى الصور المختلفة للحياة السياسية الجديدة في المنطقة العربية وفي أكثر من بلد، متسائلاً: هل تُبشرنا هذه الحالات الجديدة؟ وهل نستطيع أن نستبعد المؤثرات الخارجية ونحن في هذا الاضطراب؟ وهل نحن أفضل في السيطرة على ما استطعنا أن نوجده في أكثر من بلد؟ أم إن «الآخَر» ما زال له من الإمكانات داخل بلداننا ما يتيح له التأثير في مجريات الأمور؟
وتابع الفقيه: ربما يكون «الربيع العربي» قد أثر إيجاباً وبشكل مباشر وواضح يمكن قياسه، في بلدان لم تشملها «الثورات»، كون الاستجابة ومحاولات الإصلاح في تلك البلدان كانت سريعة قبل أن تصلها هذه الثورات. فهناك دول من المغرب إلى المشرق حاولت استباق الحراكات السياسية في ميادينها وحاولت أن تستجيب للمطالب بعمليات إصلاحية، قبل أن تصل تلك المطالب إلى الشارع، مثل الأردن والمغرب.
وتساءل الفقيه في هذا السياق: هل يستمر الإصلاح فتنجو البلدان من الاضطراب؟ وهل ستنجو البلدان التي أصابها الاضطراب، ويتم تعديل مسارات العنف التي تنشأ هنا وهناك؟ وهل الحالة المصرية وما حدث فيها من تغيرات يمكن أن تكون هي المؤشر على ما يمكن أن يحدث في بلدان أخرى؟ وهل الأولويات صحيحة؟
وقال الفقيه إن هناك سؤالاً حول موضوع الأولويات، مؤكداً أن فقه الأولويات من «أضعف الأشياء» الموجودة في ذاكرتنا وفعلنا الفكري والسياسي، إذ إننا لا نستطيع أن نرتب الأولويات ترتيباً صحيحاً، مورداً قصة حدثت لأحمدي نجاد إبان رئاسته لإيران، فعندما أراد نجاد زيارة صديق له في السجن، منعته المحكمة العليا من ذلك، ووُزع تصريح عقب قرار المنع فحواه أن هناك خللاً لدى الرئيس في فهم الأولويات، إذ إن هناك قضايا اقتصادية وقضايا سياسية معقّدة أهم من زيارة سجين وينبغي أن يهتم بها الرئيس، وبالتالي لم يستطع نجاد أن يعارض قرار المحكمة.
وتابع الفقيه: أصبحت الأولويات حديث الصحافة الإيرانية التي ركزت على اختلال الأولويات لدى حكومة أحمدي نجاد، وبعدها صارت نواقص الحكم في إيران تُعالَج على ضوء هذه الحادثة الصغيرة التي أعطت إشارات إيجابية بأن هناك شكلاً من أشكال المؤسسية والتوازن بين السلطات في إيران.
وأضاف في سياق آخر، أن الاشتباك بين التصورات كبير في بلداننا العربية، مما يولد كثيراً من القلق الذي لا يساعد على إيجاد الحلول المطلوبة لهذه المرحلة الدقيقة لمنطقة الشرق الأوسط، إذ إن هناك ترتيبات متحققة ويومية في المستقبل القريب في المنطقة، فما يراد لهذه المنطقة هو عمليات الإدماج القسري لدولة مثل «إسرائيل» ولغيرها من الحالات، وفرض تشكلات جديدة وتحالفات جديدة داخل المنطقة، إضافة إلى أن تقسيمها عرقياً يؤدي إلى مشاكل إضافية، بحيث لن تنتهي إراقة الدماء في فترة قريبة.
وأشار الفقيه إلى لقائه مع وفد أجنبي أشعره أعضاؤه بالخوف عبر توقعاتهم بأن هنالك دماء سيطول نزفها في منطقتنا، وأن الصراعات المذهبية والطائفية إذا انفجرت، ستظل لفترة طويلة جداً ولن تسْلم كثير من دولنا منها، مستشهدين بالحروب المذهبية في أوروبا التي استغرقت 30 عاماً بين البروتستانت والكاثوليك.
وأكد أن منطقة الشرق الأوسط يراد لها أن تتقسم بأشكال مختلفة وعبر حدود مختلفة، وتكون الحدود فيها للدم، لا للتصالح والتآخي والتنمية التي تطلبها الأجيال التي تبحث عن الوظيفة ولقمة العيش في أكثر من بلد.
وأضاف الفقيه أن مما أخافنا في بعض «الثورات العربية» التي قامت، المطالبة الشاملة بإسقاط النظُم، لافتاً إلى أن الحكومات كانت فاسدة، وهناك ضرورات حقيقية للتغيير، لكن ما يُفْعَل بالأنظمة والنظم الحاكمة في الدول يُعَدّ من الأخطار التي تتطلب معالجتها الكثير من الوقت والإمكانيات. ورأى الفقيه أن الشباب في منطقتنا أصبحوا لا يحترمون القانون، إذ إن هناك الكثير من المفكرين يتحدثون عن حالة الثورة والفوران والهياج لدى الشباب، بحيث صارت القوانين والنظم داخل الدول «غير مرعية»، مشدداً على أن الديمقراطية لن تقوم إذا لم يتعود الناس على احترام النظم والقانون، ولن يكون هناك نظام صحيح إذا لم يتعلم الناس احترام ما لديهم من مؤسسات.
وأوضح الفقيه في هذا السياق أن الرئيس لا تتماهى معه كل المؤسسات، وأن هنالك جراحات لا بد منها في كثير من النظم والمؤسسات، لكن إسقاط الدولة والنظام أمر آخر، مشيراً إلى أن محاولات استعادة الدولة والنظام مكلفة كما يتبدى في أكثر من بلد، كما أن الشعارات «المنفلتة» في الميادين العربية تخيفنا من المستقبل، ولا نستطيع أن نقرأ معها تحولاً جديداً في المستقبل القريب، مشدداً على أن ذلك لا يمكن أن يتم إلا باحترام شكل الديمقراطية الذي يتراضى عليه الناس. وقال إنه ليس هناك ديمقراطية في العالم إلى يومنا هذا مبرأة من العيوب، وإننا نحتاج إلى الصبر حتى نؤسس لمستقبل غير مأزوم، فالوضع المأزوم يعطي الإحساس بمستقبل غير معلوم، ونحن لا نستطيع أن نفكر جدياً في مستقبل لا تتوفر له أي حقائق موضوعية تتيح لنا أن نبني حكماً سليماً في المستقبل.
المداخلات
القيادة والأولويات
قال الباحث د.عبد الباري الدرة: ما دمنا نتحدث عن إمكانيات التنبؤ بالمستقبل، فإن العالم العربي بعد رحيل جمال عبد الناصر لم يشهد وجود قيادة تُوحّده، مشيراً إلى أن أهمية القيادة تكمن في أنها تستطيع وضع أولويات ورؤية مستقبلية واضحة، مستشهداً بقيادات من التاريخ المعاصر، مثل جواهر آل نهرو الذي استطاع تأسيس حزب المؤتمر وبالتالي التأسيس للديمقراطية بالرغم من الاختلافات الكبيرة الموجودة في شبه القارة الهندية، ومثل مهاتير محمد الذي تحدث عن الرؤية المستقبلية في ماليزيا بالرغم من الاختلاف العرقي بين مكونات المجتمع الماليزي، مضيفاً أن الديمقراطية في هذين البلدين وسواهما سارت وما زالت تعمل من دون أن يكون هناك كثير من المشكلات، وذلك بالرغم من كل الاختلافات المشار إليها.
دور الأحزاب
قال الإعلامي والكاتب الصحفي موسى الصبيحي إن المحاضر عبّر عن نوع من التخوف من الشعارات التي تطرحها الحراكات الشعبية المطالبية في المنطقة. ولفت إلى أن شارع المنطقة العربية مأزوم بكل الأحوال، معتقداً أن الكثير من الشعارات كانت وما تزال صاخبة إلى حد ما وتنطوي على نوع من العنف، مضيفاً أنه لا وجود حتى اللحظة لدور فاعل للأحزاب العربية، فهي مغيبة عن الساحة وعن الشارع، وعن مطالب الشباب الذين يفتقرون إلى التوجيه.
ورأى الصبيحي أن الأنظمة الشمولية هي السبب وراء تغييب الأحزاب، ووراء اكتوائها بنار الحراكات الشعبية والمطالبية، مضيفاً أننا «لم نكن لَنواجه هذا الواقع المأزوم لو أن تلك الأنظمة أتاحت الفرصة للحياة الحزبية لكي تنشأ بصورة طبيعية وأن تأخذ دورها في تداول السلطة».
وبخصوص الإصلاحات، قال الصبيحي إن هناك أنظمة قامت بعدد من الإصلاحات، لكن القريب إلى الشارع على مستوى الأردن يجد أن كل الإصلاحات التي تمّت «لم تقنع الشارع»، راداً ذلك إلى «تغييب العدالة الاجتماعية»، وتعيين حكومات فاشلة.
وأضاف الصبيحي أن هناك غياباً حقيقياً وصارخاً للطبقات في المجتمع، وشعوراً مؤلماً لدى الطبقة المسحوقة من الشعب ينعكس عنفاً في الجامعات والمدارس وفي كل المناطق، وأن هناك اقتناعاً لدى كثيرين بأن معظم الإصلاحات «صورية»، والدليل على ذلك «أن الفساد ما يزال موجوداً، وأن الكثير من الفاسدين والمفسدين يتداولون السلطة من وقت إلى آخر، فكيف يقتنع الشارع بأن هناك إصلاحاً حقيقياً؟».
ورأى الصبيحي أن المجتمعات العربية تعاني حالة من «الاحتقان الشديد جداً والمخيف الذي قد ينفجر في أي لحظة»، داعياً إلى اتخاذ «إجراءات وقائية» تحول دون ذلك.
إخفاق التيارات الدينية
قال الخبير المصرفي مفلح عقل إن الشعوب العربية ازدادت إحباطاً فوق الإحباط الذي تعاني منه، مضيفاً أن الوطن العربي منذ 100 عام ينتقل من فشل إلى فشل.. من فشل الانقلابات العسكرية إلى فشل الأحزاب والنخبة السياسية التي لم تستطع أن تجدد المجتمع، كما أننا لم نستطع أن نتعايش مع أنفسنا أو مع غيرنا في العالم العربي، وحتى لو كان الاختلاف الديموغرافي بسيطاً، فإننا «نخلق الأسباب لإشعال هذا الانقلاب».
وأضاف أن التيارات الدينية لم تستطع أن تتقدم ديمقراطياً وأن تتصالح مع المجتمع وتتعايش مع فئاته المختلفة، فقد «اختبرت نفسها كنخبة أرسلها الله لخلاص العالم، وبقية العالم الذين لم يسيروا في الخط الذي رسمته للخلاص كَفَرة يجب إقصاؤهم من المجتمع».
وأوضح عقل أن الشباب يقومون حالياً بردود فعل عنيفة على الواقع المؤلم والمستقبل البائس الذي ينتظرهم، وأن الشباب الذين قاموا بثورة 25 يناير في مصر لم يكونوا منظمين سياسياً، كما أن حركة «تمرد» التي خلخلت نظام حكم «الإخوان المسلمين» في مصر بدأها 5 شباب منذ شهرين من مقهى بالقاهرة، واستطاعوا تحريك الجماهير بسبب التقائهم مع تطلعاتهم، مشيراً إلى أن الجماهير بحاجة إلى الديمقراطية والعيش الكريم.
البحث عن حالة عقلانية
توقف خبير التنمية والخدمة الاجتماعية د.فيصل غرايبة، عند النظرة التشاؤمية للمستقبل التي أنهى الفقيه محاضرته فيها، لافتاً إلى أن المحاضر استبعد أن تنشأ حالة عقلانية عند العرب، بحيث يُعيدون تنظيم أنفسهم تنموياً وسياسياً في مناخ ديمقراطي يُستمع فيه إلى جميع وجهات النظر ويشارك في تحديد النظرة المستقبلية للوطن، خاصة أن «الربيع العربي» لم يُنتج حالة ديمقراطية أو حالة تنموية ناجحة في الدول التي شهدته، فهي ما زالت تعيش حالة من الانفلات الأمني والتسيب الإداري والتجاوزات وظهور النزعات التحيزية، كالطائفية والجهوية والإقليمية، مشيراً بذلك إلى أن مصير هذه الدول سيكون كمصير النموذج السوداني أو العراقي.
وتساءل غرايبة عن إمكانية أن تنشأ هناك حالة عقلانية تهدّئ الأوضاع في بلدان ما يسمى «الربيع العربي»، وتُزيل التوتر وتستبعد قوى الشر من بناء المجتمع العربي الجديد، على غرار ما حدث في النموذج المغربي الذي اتخذه الأردن كنموذج بديل لنموذج الفوضى والمطالبات الشعبية الحادة.
«حدود الجماجم»
أكد الكاتب والصحفي أسعد العزوني أن «شرق أوسط» فيه «إسرائيل» لن يشهد لحظة أمن أو استقرار أو ازدهار مهما هتفنا من الشعارات، ومهما ادّعينا أننا قادرون على تجنب خطر «إسرائيل». وأضاف أن وصولنا إلى هذه الحالة ناتج عن سكوتنا عليها منذ البداية حتى وصل الأمر أن تصبح «إسرائيل» صديقاً، مشيراً إلى القرار الذي صدر في العام 1907 بتسمية الشرق الأوسط بـ «الوسيع»، موضحاً أن الغرب منذ ذلك التاريخ وهو يسعى إلى إدخال «إسرائيل» في المنطقة مع علمهم أنها «غريبة»، وقد طرح الأوروبيون في مؤتمر «كامبل» (1907) هذا الطرح، ثم جاء «برنارد لويس» و «بيريز» بمشاريعهما التي تخدم «الشرق الأوسط» بحسب تعريفهما له، فقد أسموا ما سيحدث: «حدود الجماجم»، مضيفاً أن «الشرق الأوسط الوسيع والكبير» لن يصل إلى المرحلة التي تريدها «إسرائيل»، وإننا «سنبنيه بجماجمنا ونعجن ترابه بدمائنا»، مؤكداً أن الوقت قد حان لنعيد التذكير بذلك ونعيد النظر في علاقتنا مع «إسرائيل».
الصراع التاريخي
قال الباحث د.بديع العامر إن المحاضر أهملَ الصراع التاريخي بيننا وبين الغرب، وأن القضية الإثنية والعرقية والديمغرافية ليست هي المشكلة الأساسية، فهناك في أغلب الدول الأوروبية وفي الاتحاد السوفياتي سابقاً وروسيا الاتحادية الآن، وحتى في أميركا، العديد من القوميات والإثنيات المختلفة المتعايشة بسلام. وأكد أن القضية هي صراع تاريخي أُقحمت «إسرائيل» في وسطه، مضيفاً أن حل مشاكل الشرق الأوسط لا يكون إلا إزالة «إسرائيل».
وأوضح أنه لا يفضّل استخدام مصطلح «الشرق الأوسط» كونه تعبير سياسي يُقحَم فيه بلد دخيل هو «إسرائيل».
وأضاف العامر أن الأوضاع لا يمكن أن تستقر في منطقة العالم العربي ما دامت «إسرائيل» موجودة، فهي سبب كل المشاكل، وهي من ثمار الصراع التاريخي، ولا بد من التكافل والتعاضد لإزالة هذا «الورم السرطاني» حتى تستقر الأوضاع في عالمنا العربي.
التعددية هي الأصل
قال الباحث د.سمير عميش إن الاستقرار الاجتماعي في أي مجتمع مبني على ثلاثة أسس رئيسة متزامنة ومتكاملة ومُدَسترة ومُقَوننة، هي التعددية والديمقراطية والحرية، وإن الحرية يجب أن تكون مطلقة ومن دون شروط.
وأضاف أن التعددية موجودة منذ الخليقة، وهي «صيغة سماوية»، وأننا عندما نجد مجتمعاً يفعّل التعددية والحرية والديمقراطية فإنه سيكون مبنياً على أسس يمكن أن يستقر عليها.
الإسلام والغرب
قال المفوض العام لحقوق الإنسان د.موسى بريزات إن العلاقة بين منطقة الشرق والدول الكبرى موجودة منذ الأزل، فاليونان وفكرها ودويلاتها تشكلت بتأثير مما كان يحدث من تجارة في آسيا الصغرى، وبدأت العلاقة بين الاتجاهين منذ أيام الاسكندر والرومان، ثم جاء الاسلام وعبر إلى أوروبا، ووصل الأتراك إلى «فينّا».
وتساءل بريزات: إذا أردنا أن نغير الواقع الذي نحن فيه فمن أين نبدأ؟ هل نبدأ من الإنسان العربي أم من الدين، أم من الأنظمة والقيادات؟
وأوضح بريزات أننا نعاني من أزمة، فعندما كان الغرب يعاني من الحروب الدينية، قاموا بفصل الدين عن الدولة، متسائلاً: هل نستطيع في العالم العربي فصل الدين عن الدولة، كون الإسلام دين له خصوصيته؟ وهل نستطيع أن نسوّق هذه الفكرة في ضوء دور الإسلام السياسي واستهداف الغرب للإسلام، والفوضى الفكرية السياسية بعد تصفية الأحزاب القومية وفشل الأحزاب الإسلامية؟
كما تساءل: هل الأزمة في الفكر، أم في البنى، أم لأننا لا نستخدم العقل قبل الدين؟، مشيراً إلى أن مفكري الأنظمة والحكام يقولون إن المشكلة في المجتمع، بينما يرى مفكرو المجتمع إن الأزمة في الحكام.
حماية «إسرائيل»
سألت الكاتبة والباحثة د.عايدة النجار المحاضرَ في ما إذا كان يعتقد أن الاستعمار يطمع فقط بالاستيلاء على الطاقة في المنطقة، أم إنه يريد توفير الحماية لـ «إسرائيل» التي جعل وجودُها المنطقة «مهمة جغرافياً».
جهل فكري
قال الباحث في الشؤون الاستراتيجية اللواء المتقاعد عبد السلام الحرازنة، إن المخاطر التي تهدد الشرق الأوسط، بعيداً عن الجغرافيا والديموغرافيا، هي في أننا ما زلنا نعيش جهلاً فكرياً، ونعيش عصرَ داحس والغبراء. وتساءل: «هل سيبقى الصراع بين السنة والشيعة؟»، داعياً إلى ضرورة تجاوز هذه المسألة عبر توحيد المذاهب في فكر إسلامي موحد، مضيفاً: «يكفينا شر الأطماع الغربية التي تعزف على نقاط ضعفنا ومنها اختلاف المذاهب».
وفي ما يتعلق بالأولويات، قال الحرازنة إن العالم الغربي هو الذي وضعها، وإن الأولوية للعالم الغربي تتمثل بالعامل الديني، ولذلك نرى أن القيادات الجديدة للدول العربية هم من الإسلاميين، مثل المرزوقي وعبدالجليل ومحمد مرسي، أو أنهم يمثلون التيارات الإسلامية مثل جبهة النصرة وجماعات الجهاديين والسلفيين، والمقصود من ذلك «إبراز الوجه السيئ للمسلمين في العالم».
إعادة تقسيم النفوذ
قال الباحث العراقي كمال القيسي إن علم الاجتماع أقَرّ مقولة اقتصادية هي أن المجتمع قادر على تصحيح نفسه بنفسه عبر آليات خاصة به، كما أن درجة التصحيح تعتمد على الإمكانات والإدراك والوعي ونوعية الآليات والقوى الذاتية، فإذا تُرك المجتمع فإنه قادر على تصحيح نفسه لأنه أدرى بحاجاته ومكامن القوة فيه.
وأضاف القيسي أن منطقة الشرق الأوسط شُكلت في «سايكس بيكو» و «سان ريمو»، وجرى الحديث لسنين عن حاجة المصالح الغربية إلى «خريطة جديدة»، وبالتالي إعادة تقسيم النفوذ. موضحاً أن العوامل الخارجية المدفوعة بالمصالح أثّرت في التشكيلات المجتمعية بالمنطقة، فهناك شركات عملاقة «جاهلة»، سعت وراء المصالح من دون أن تهيئ مؤسسات حقيقية تساعدها في إدارة مشاريعها.
ورأى القيسي أن قضيتنا ليست قضية فنية، إذ لا يوجد هناك قصور في العقول أو في كيفية تشكيل العناصر المادية أو البشرية أو إعادة تشكيل المجتمع أو إيجاد آليات لتحقيق تشبيك المصالح.
وأكد القيسي أن التأثيرات الخارجية متعددة الأبعاد هي التي أثرت تأثيراً سلبياً في بناء هذه المجتمعات وفي السعي لعدم توظيف مواردها المادية والبشرية بشكل صحيح، وفي عدم تحقيق التنمية في البلد الواحد.
وأضاف أنه يمكن للمصالح الغربية أن تتحقق، وأن يتحقق التوازن عندما يكون هناك دول ديمقراطية ومؤسسات حقيقية وآليات فاعلة تعمل على تحقيق المصالح المتوازنة على المستوى الثنائي أو المتعدد، والعكس صحيح.
الديمقراطية والتكنولوجيا
قال أحمد الموسى إن الديمقراطية التي تحدث الآن والتي تُفاجئنا وتُفجعنا في الوقت نفسه، وتدهشنا بطريقة سلبية أحياناً، سببها الثورة التكنولوجية، إذ إن سهولة التواصل بين المجتمات التي لا يوجد لديها فكر تعني أن الآليات إلى جانب المصالح وأهمية المنطقة بالنسبة للمصالح الخارجية كافية لتحقيق الديمقراطية أو للبدء بها.
وأضاف: التكنولوجيا سهّلت التواصل، لكن المجتمعات البسيطة في ثقافتها أصابها نوع من التخبط وعدم الفهم، واتجهت إلى الانفتاح الواسع غير المدروس على المجتمعات الأخرى، ما جعلنا في حالة من عدم التوازن، وفي النتيجة شيوع التخوف من الديمقراطية ونتائجها.
التحول الديمقراطي والهيمنة
قال مدير مركز «الرأي» للدراسات د.خالد الشقران: بينما كنا نفكر بعنوان المحاضرة مثلت أمامنا حقيقتان: مطالبات الشعوب العربية لتحقيق مزيد من التقدم للتحول الديمقراطي، ووجود محاولات هيمنة من لاعبين حقيقيين سواءً في الإقليم أو على مستوى الساحة الدولية.
وأضاف أن جميع الأمم، سواء في أوروبا أو في شرق آسيا، مرت بـ «مراحل جهل» أكثر من تلك التي مرت بها الدول العربية، لكنها استطاعت أن تبدأ بخطوات تجاوزت فيها هذه الحالة.
وتساءل الشقران: ما الإجراءات المطلوب من العرب القيام بها لنخطو نحو التقدم في ظل تحولات ديمقراطية تفاجئنا وتأخذنا في منحنيات نحو أمور غير محمودة؟
ردود المحاضر وتعقيباته
في ردوده على مداخلات الجمهور وتساؤلاته، قال الفقيه إن كثيراً من التفاؤل الذي جاء مع «الربيع العربي» يمكن أن يظل موجوداً لو جعلنا من هذا الذي حدث «فعلاً إيجابياً»، نظراً لأن المؤشرات الإيجابية فيه كثيرة، ويمكن أن يستمر البناء عليها.
وأشار الفقيه إلى مقالة كتبها في الأيام الأولى لـ «الثورات العربية» حول المخاض الطويل للوحدة العربية، عالج فيها فشل الأيديولوجيات في الوحدة، وتأثير ذلك في ما حدث في تونس والمغرب ومصر ومنطقة الخليج، وكيف أوجد هذا التداعي شعوراً إيجابياً بأن الأمة العربية واحدة، والمشكلات والعاطفة والرغبات والقدرة على آليات التغيير واحدة أيضاً.
وبيّن أن هذا الجانب هو الذي لم تلتقطه الأنظمة القائمة، واصفاً إياه بـ «الخيط المهم في تداعي الثورات العربية»، إضافة إلى الشعارات المشتركة وظهور القضية الفلسطينية في وسط هذه الشعارات، إذ اختلطت تفاصيل الحالات القُطْرية ببقية مسيرة «الثورات العربية»، وكانت الشعارات جامعةً وقُطْرية في آن.
وأضاف الفقيه: «لو كان هناك نظام عربي حقيقي في مصر لما انفصل جنوب السودان»، لافتاً إلى أن القضية ليست قضية مصر، إنما تكمن في البعد الاستراتيجي الحيوي للسودان ولكثير من البلدان العربية.
كما أشار الفقيه إلى مقالة له كتبها بعد شهرين من بدء الثورات عن «مشروعية التساؤل»، يقول فيها: هل لنا أن نتساءل؟ فقد سقط النظام في مصر وتونس، ولكن لماذا لم نعتمد المنابر؟ ولماذا لا نبدأ بمشروع الديمقراطية الذي يبدأ بالمنابر والحوار وإعمال الفكر؟
ورأى أن قضية الفكر قضية أساسية، لا مَخرج بغيرها، فهناك مشكلة فكرية لا بد من النظر فيها ملياً إذا أردنا أن نخرج من هذه الحالة. وتابع بقوله إن الكثير من المتحمسين لـ «الثورات العربية» عابوا عليه تساؤله هذا في وقت انهمك فيه الجميع بتمجيدها، مضيفاً أننا صرنا نمجّد بالعاطفة نفسها التي انطلقت بها التظاهرات من دون أن نبذل أي جهد لتوجيه المسارات.
وأكد الفقيه أن هناك فرصة واسعة ما تزال أمام المفكرين لتوجيه مسارات «الثورات العربية»، لكن الأمور ما تزال بيد للشارع، في حين أن النخب تتعاطف مع ما يقوله الشارع وتنساق إلى ما يقوله لا ما تراه هي مناسباً، مشيراً إلى أن المشكلة في النَّخَب العربية التي كان يمكن أن تقود مسيرة التغيير في المنطقة، هو في كونها تعاني مما تعانيه الأنظمة العربية نفسها.، وأن مشكلة الأحزاب هي نسخة عن مشكلة السلطوية في الدولة، فالأحزاب التي لا يتغير زعماؤها ولا الهيئات الحاكمة فيها، وكذلك منظمات المجتمع المدني التي لا يتغير زعماؤها هي الأخرى قط، ولا يمارَس فيها أي شكل من أشكال التداول والديمقراطية.
ولفت إلى أن هذه التنظيمات والقوى السياسية والأحزاب والمؤسسات المدنية لا تستطيع أن تُنتج نظاماً ديمقراطيا سوياً لا يأتي بعلل النظام السابق، بل قد تكون أحياناً نسخة أكثر تحجُّراً من النُّظم السابقة، فزعماء أحزابنا هم أنفسهم من العشرينات إلى اليوم، لم يتغيروا، كما أن المخلّدين من الأحزاب العربية والقوى السياسية هم أنفسهم، مضيفاً أننا لم نعطِ أنفسنا فرصة التجرؤ على التشكيك في أهلية أيّ من هؤلاء وفي أنهم قد لا يصلحون، حتى نتعود على ممارسة الديمقراطية.
وتابع بقوله: عندما جاءت هذه «الخبطات العنيفة» التي قادها الشباب، لم تجد القوى السياسية غير الانسياق، محاولةً التمجيد المستمر لـ «الثورات»، ومحاولة الصعود على ما أنتج الشارع ومحاولة اتباعه، من دون أن تحاول تعديل مسارات هذه «الثورات».
وأشار إلى أن القيادات التي يحترمها الجميع، والتي شكلت جزءاً من تاريخ هذه الأمة، وحّدت الشعور العربي، وهذه إيجابية كبيرة، لكنها كانت سبباً في انقسامات حقيقية داخل الأنظمة أو النظام العربي الكلي، ولم يكن هناك قائد عربي واحد وحّد الأنظمة.
وأوضح الفقيه أن هذه الانقسامات جرّت علينا نفوذ الخارج، إذ وفرت ذرائع الاحتماء من هذه الأنظمة الجديدة في المنطقة، كما وفرت أسباباً إضافية للتدخلات الخارجية والوجود الخارجي والنفوذ الخارجي، وأيضاً للمصالح الخارجية في المنطقة، إذ لم تلد المنطقة «نهرو» خاصاً بها ليوحد القوميات ويُنهي الانشقاقات ويلغي التباينات فيها، رغم أن المجتمع الهندي ضخم، فالهند فيها آلاف الديانات والكثير من الثقافات والكثير من القوميات واللغات، وهي مزدحمة بكل أشكال التنوع، لكنها استطاعت أن تتوحد مباشرة بعد التجربة الاستعمارية التي كانت مريرة جداً، فقد كانت «جوهرة التاج البريطاني»، وما وقع عليها لم يقع على كثير من البلدان التي وقعت تحت نير الاستعمار.
وأكد الفقيه أن هنالك مشكلة في «الرؤية والفكرة»، مضيفاً أننا جميعاً نستشعر هذا الهَمّ المشترك، ونستشعر هذه الإحباطات، ونتأذى بهذا الشعور المميت لتجارب الفشل المختلفة، ولكن لا نمتلك رؤية واحدة موحدة لنخرج بها من هذه الأزمة.
وتوقف الفقيه عند مسألة التخوف من الشعارات، خاصة إذا تبعتها ممارسات على الأرض، فعندما كان الشعار: «الشعب يريد إسقاط النظام»، ظنّ الكثيرون أن النظام هو الشخص الحاكم أو المؤسسة الحاكمة فقط، لكن الممارسات تعدّت إسقاط النظام إلى إسقاط النظم كلها وإلى اسقاط احترام القانون أياً كان شكله.
وحول دور الأحزاب، قال الفقيه إن الإصلاحات لم تُقنع الشارع، ولا يُتَوقع لها أن تُقنعه، لأن الإصلاحات دائماً «بطيئة جداً، بينما «الثورات» انقلابية وسريعة. وتساءل في هذا السياق: «بحساب العقلانية والعقل، إذا كان بالإمكان الإصلاح فلِمَ الثورة؟»، ذلك أن جراحات «الثورات» عميقة جداً، كما أن الثورات قد لا تُنتج الإصلاح المطلوب.
وأشار الفقيه إلى التجربة المغربية، وكيف أنها تجاوزت الثورات فعلاً، رغم أن الكثير مما يُحسب لمصلحة الصراع في المغرب لم ينتهِ بعد، كصراع القوى السياسية، وصراع المواطن مع قضايا العيش اليومي، لكن الناس اقتنعوا على الأقل أن هناك فرصة للإصلاح ينبغي أن يستثمروها.
وأكد الفقيه أن قضية الثورات توجب الانتباه لموضوع «صراع المشروعيات»، مستشهداً بالتجربة المصرية كونها تجسد هذا الصراع بين المشروعيات، فالمشروعية الانتخابية في عهد الثورات ليست كافية لأن المشروعية الثورية إذا امتلكت قرار الشارع ستظل تُحاكم المشروعية الانتخابية باستمرار، وستظل تُطالب بمشروعية الإنجاز، ولفترة طويلة، ولهذا فإن جراحات «الثورات» أكثر عمقاً وقد لا تعالَج إذا لم تكن هناك مؤسسات حقيقية في المجتمع ومؤسسات فكرية ومدنية وحزبية تستطيع أن تنتقل مباشرةً بالحالة الثورية إلى حالة سوية اجتماعية سياسية اقتصادية.
وأضاف أن الإصلاح في أكثر من بلد يتم تجريبه، لكن ثماره لا تأتي في اليوم التالي، إضافة إلى أن «الثورات» وسيلة للزهو الكبير بالحرية، أو قتل الخوف في النفوس، وقد قتلت «الثورات» الخوف من النفوس، لكن يُخشى أن يظل انعدام الخوف موجوداً ضد القانون وضد كل شيء آخر ينظم حياة الناس التي لا بد من تنظيمها.
كما أكد الفقيه أن الحرية المطْلقة «بشعة»، ويمكن أن تؤدي إلى الحرية غير المسؤولة التي فيها من البشاعة ما يُناقض الحرية نفسها، لذا لا بد أن تنتظم مجتمعاتنا حول فكرة، وأن يكون هناك تيار سياسي أو فكري يستطيع أن يقنع الجمهور بضرورات التغيير للأفضل بدلاً من تبني شعار «التغيير» الذي يمكن أن يهدم.
وقال المحاضر إن غياب العدالة الاجتماعية كان واحداً من الأسباب الرئيسة في كل «الثورات»، وهو سببٌ في كل ثورات التاريخ البشري. أما «النظرة التشاؤمية» التي أشير إليها في المداخلات، فأوضح الفقيه أنها ناتجة عن إحساس مُباشر بالأزمة الطاحنة الضاغطة على كل فرد في هذا الإقليم، «فالمؤشرات لا تساعد كثيراً على تجاوز حالة الإحباط التي نعيشها، كما أننا نحاول أن نتفاءل بقدر الإمكان، أو نحاول أن «نتشاءل» بأن نوجد منطقة وسطى بين التشاؤم والتفاؤل حتى نستطيع أن نفكر بسويّة، كون مشكلة التفكير هي المعضلة القائمة أبداً».
وبخصوص إعادة تنظيم المجتمعات العربية، قال الفقيه إنه لا يمكن تنظيمها إلا بمؤسسات وأفكار، فهي بحاجة ماسة إلى فكرة ناظمة تستطيع أن تبيّن طريق المستقبل بالنسبة للمجتمعات العربية.
أما النموذجان السوداني والعراقي، فقد أوضح الفقيه أنهما يُعَدّان نماذج شاخصة، ويكشفان عن جزء من آليات الصراع المستمر في المنطقة. فقد كانوا في جنوب السودان ينكرون الصلة بالغرب وبـ «إسرائيل» دائماً، وبعد أن تحققت الدولة لهم، ها هم الآن يعتزون بأن «الطلقة الأولى جاءت من هنا»، مضيفاً أن فكرة تمرد أول ضابط في الجيش السوداني كانت في العام 1955 قُبيل استقلال السودان في كانون الأول 1956، وها هم أهل جنوب السودان يتحدثون عن تاريخ نضالاتهم، وأن أول ضابط متمرد على الجيش السوداني فعل ذلك بدعوة من القنصلية «الإسرائيلية» في أوغندا ونُقل إلى «إسرائيل» عبر سفارتها في كينيا قبيل فترة حكم «غولدا مائير»، وهناك أُعْلِم أن مكاناً قد جُهز في منطقة جنوب السودان المحاذية لإثيوبيا، وأن شُحنات الأسلحة بدأت تصل إليه، وما على هذا الضابط إلا أن يقوم بتجنيد جنود إضافيين لمعركة ضد العرب.
وتابع الفقيه: إنهم يشرحون هذا الأمر باستفاضة، وكيف تأسست العلاقة بينهم وبين «إسرائيل»، ويكشفون أن التجنيد والتدريب والسلاح كان موجوداً في كل غابات جنوب السودان قبل أن يبدأ التمرد أو قبل أن يفكر جندي واحد بالتمرد على النظام السوداني القائم في ذلك الوقت. ورأى الفقيه أنه إذا حصلت انشقاقات أو انفصالات أو تقسيمات في البلاد العربية سيروي الناس التاريخ المسكوت في الحال، وسنعلم عندها أن أصل الداء واحد في كل الصراعات.
وحول موضوع القوميات، قال الفقيه إن أحداً لا ينكر أن القوميات موجودة في كل مكان، لكن بعض البلدان التي يوجد فيها قوميات مختلفة استطاعت إدارة هذه القوميات وإدارة العلاقة بين مكونات المجتمعات المختلفة فيها بطريقة جيدة، فالتجربة الماليزية مثلاً فيها الكثير من الحسنات رغم أن توتر القوميات لم ينتهِ بعد، وكذا في الهند واليابان.
وفي أميركا أيضاً المصالح موحدة، إذ ليس هناك قانون مشترك، بل هنالك ولايات متحدة لا يجمع بينها غير جملة من المصالح المشتركة، ولأي ولاية الحق بترك الاتحاد في أي لحظة شاءت، لكن لأن المصالح من القوة بمكان فإنه لا رغبة لأي جهة أن تنفصل عن هذا الاتحاد «الهش جداً، الذي لا لغة له ولا دين ولا قانون ناظم له». فالمصالح وهيمنتها على هذا الاتحاد وغيره من الاتحادات الموجودة عبر العالم كالاتحاد السويسري والاتحاد الألماني هي التي تشكل اللُّحمة الحقيقية بين المجموعات المختلفة، والشعور أن هناك عدالة اجتماعية يخلق نوعاً من التماسك بين القوميات المختلفة.
وأكد الفقيه أنه «لا يوجد مجتمع بلا تنناقضات»، وأن الحالة النموذجية الوحيدة، ممثلة بدولة الصومال، انهارت، بعد أن كان هذا البلد يمثل دولة نموذجية في التمازج والانسجام القومي والعرقي واللغوي والمذهبي، وبالرغم من ذلك كله فشلت ترتيبات الدولة الوطنية فيها بسبب التدخلات الخارجية، والصراع مع إثيوبيا ومع كينيا، ووجود الصومال في منطقة جغرافية حساسة ذات قيمة استراتيجية عالية.
ورأى الفقيه أن الغرب «يتنافس ولا يتصارع»، متمنياً لو أننا نفعل الأمر نفسه في المنطقة العربية، ولافتاً إلى أننا لا نستطيع الاشتراك في أي شيء جامع. وقال إن منتدى الفكر العربي تبنّى منذ فترة طويلة مع الجامعة العربية فكرة إنشاء بنك للإعمار، وخاصة بعد الدمار الهائل الذي يتم بأيدينا وبأيدي غيرنا، كما حصل في العراق ويحصل في سوريا وفي اليمن، وتم التوافق للدعوة لإنشاء مؤسسة تمويلية عربية غير قُطْرية، حتى تستطيع أن تفعل فعلاً اقتصادياً يتجاوز الرغبات الملحّة في الأرباح، لكن الدول العربية لم تستطع أن تتراضى على هذه الفكرة، ومن المفارقة أن هناك بنكاً عربياً للتنمية في إفريقيا مقره في الخرطوم، لكن السودان غير مؤهلة لأن تَسحب منه، كونها تتبع للجامعة العربية!
وأضاف أن المأمول أن يكون هناك بنك عربي له أموال ومشاريع ومال مشترك، لكن يبدو أن تحقيق ذلك يمثل استحالة كبيرة، وكل دولة تكتفي بالقول إن لديها «صندوقاً»، وهو صندوق يمثل في حقيقة الأمر مالاً سياسياً، تُستخدم فيه السياسة القطْرية لأقصى درجات الاستخدام.
وأضاف: لقد تعلمنا في أميركا أن المصلحة في العلاقات الدولية هي الأخلاق، والمصالح العليا لأميركا هي الأخلاق العليا للسياسة الأميركية.
وتابع أن واحداً من أقوى الأسباب التي أطاحت بـ «كارتر» على عظمته، هي أخلاقياته، فقد عُرف الرجل بأخلاقياته، كما هي حال كثير من المشروعات الشبيهة التي يجسدها القادة المثاليون في أميركا. كما أن أحداث السفارة الأميركية في طهران أواخر السبعينات أسست لتقرير حقوق الإنسان، وأصبحت المصالح الأميركية مقيَّدة بحقوق الإنسان في عديد من الدول، فصارت أميركا في كل عام تفرض عقوبات على بعض الدول، مما قيد الكثير من مصالحها.
وأكد الفقيه على إمكانية أن نوازن بين مصالحنا والمصالح الأميركية والأوروبية، ويتم هذا في حال شكّلنا رؤية مشتركة أو تعريفاً مشتركاً للمصالح التي نريد أن نُبادلها مع الغرب أو الشرق أو أي مجموعة أخرى في العالم.
وقال المحاضر إن تعريفات الديمقراطية كثيرة جداً، لكن في حمأة الصراع الذي نشأ بعد «الربيع العربي»، بدأ كثير من المثقفين والنُّخب يحدّثون الشعوب عن تعريفات لا تتفق مع التعريفات الموجودة في العالم والفاعلة والمعروفة من الهند إلى الولايات المتحدة الأميركية، فصرنا نعرّف الديمقراطية تعريفاً معقّداً لا نستطيع أن نتفق عليه في يوم قريب.
ودعا الفقيه إلى وجوب الاستفادة مما يحدث الآن، فهنالك فرصة لذلك، مضيفاً أن علينا أن نعظّم فرص الحراكات و «الثورات» وفرص محاولات الإصلاح، وأن نحسن تعظيم هذه الفرص أو أن نولّد من التحديات فرصاً جديدة في مجتمعاتنا.
وأوضح أن ما نشهده يورثنا حالة من الإحباط، فنحن محبَطون إلا إذا وجدنا إمكانية للخروج من هذه الحالة، فهناك فرص كثيرة وتحديات يمكن أن تتحول، ورجال المال والأعمال يدركون أن كل مشكلة هي فرصة، ولكن كيف نستثمرها؟ وأضاف الفقيه أن الفرص الكثيرة والعقبات انهارت، وهذا الانهيار ولّد مشكلات وتحديات جديدة.
وتابع أن من حسنات الدولة العربية السابقة التي انهارت -إذا كان لها حسنات- أنها أعطتنا «انطباعاً كاذباً» بأن المجتمعات العربية مستقرة وموحَّدة، إذ لم نرَ هذا «الهياج الهائل» للأقليات والمكونات الاجتماعية، ولكن الأمر اختلف عندما ارتفع غطاء الدولة التسلطية ذهب الخوف وظهرت المطالبات التي كانت متوارية في السابق.
ورأى الفقيه أن من النتائج السلبية لهذه المطالبات: ارتكاس الناس بعد أن ضاق الغطاء الأشمل لينحصر في المكونات الصغرى (القومية والعشيرة والإقليمية)، إذ صار الناس يتجهون إلى الهويات الجديدة، ويتعصبون إليها بوصفها «البديل الحامي» بعد أن انتفت حماية الدولة القطْرية، وغابت إدارة الحكومة لزمام الأمور في الدول العربية.
وختم الفقيه محاضرته بقوله إن هناك الكثير مما يمكن فعله، وإن علينا إيجاد فكر موحد، فهناك فرص كثيرة ومفكرون كثر في البلاد العربية، مضيفاً أن علينا أن نعرف كيف نجمع حكماء الأمة ليُخرجونا من هذا المأزق ويعظّموا لنا فرص هذا المأزق المليء بتحديات وفرص علينا أن نعمل جميعاً على تعظيمها، مؤكداً أن كل من يستطيع أن يسحب نفسه من إلحاح الحاضر، عليه أن يعمل على التفكير في المستقبل، وهذا ما يحاول منتدى الفكر العربي القيام به تجاه سوريا واليمن والعراق وغيرها من البلاد العربية التي «نأمل أن تخرج من أزماتها لمصلحة الجميع».