التنمية العربية في ظل الربيع العربي

04/04/2012

لاتنحصر خلاصة المحاضرة التي نظمها مركز «الرأي» للدراسات حول «التنمية العربية في ظل الربيع العربي» وتحدث فيها المختص في التنمية مدير المركز الكندي لدراسات الشرق الأوسط– كندا د.سميح مسعود، في الدعوة إلى تسريع تأمين متطلبات التكامل الإنمائي العربي، بل تطرق الحديث إلى المعايير التي تشكل مرجعاً أساسياً لتقييم المستقبل والحكم على الأنظمة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، والالتزام بجدية وبإرادة حقيقية بالتنمية الإنسانية المتكاملة بمفهومها الشامل.

أمام هذا الواقع، بحسب مسعود والمتداخلين في المحاضرة، فإن مستقبل الربيع العربي يعتمد أولاً على مستقبل التنمية العربية، وهذا يتوقف على مدى تنفيذ الأدوات الأساسية للإصلاح القادرة على إحداث تغييرات أساسية وجذرية في المجالات السياسية والاجتماعية والاقتصادية.

وقد حلّل مسعود في محاضرته التي أدارها مدير مركز «الرأي» للدراسات د.خالد الشقران، أسباب فشل التنمية العربية التي شكلت حافزاً قوياً للتحركات الاجتماعية التي ساهمت بشكل كبير في انفجار انتفاضات الربيع العربي،فيما تعرض الحضور إلى إشكاليات «الزواج الكاثوليكي» بين السلطة السياسية والفعاليات الاقتصادية،وعدم حسم الصراع العربي الإسرائيلي، وتصاعد الديون على الدول العربية، والاعتماد على المساعدات الخارجية.. ما يُبقي التنمية العربية نازفة رغم كل الجهود المبذولة.

تالياً نص المحاضرة:masood

مركز الرأي للدراسات

إدارة الندوة:د.خالد الشقران

أعدها للنشر: جعفر العقيلي

نيسان 2012

مسعود: فئات رأسمالية جديدة همّها الكسب السريع

استهل مسعود محاضرته بقوله إن الربيع العربي بتداعياته التي تشهدها بعض الدول العربية، يقدم إجابة عن العديد من المسائل السياسية والاجتماعية والاقتصادية، فهو «الرد على تخلف مؤسسات الحكم التي سيطرت على زمام الأمور لعقود من دون مساءلة، وبقلة كفاءة واستئثار بالسلطة»، وهو «الرد على الاستبداد والفساد والظلم وغياب الحرية والديمقراطية والحقوق المدنية والسياسية»، وهو الرد أيضا ًعلى «فشل التنمية العربية»، وانعكاساتها السلبية على مجمل الحياة العامة، بما في ذلك ارتفاع معدلات الفقر والبطالة والجوع والأمية،والانكشاف الغذائي والمائي والأمني والتهميش الاجتماعي.

وفي إطار الخلفية العامة لموضوعه، بيّن مسعود أن الدول العربية اهتمت طيلة العقود الخمسة الماضية بالتنمية الاقتصادية، وترتب على ذلك إجراءات وخطط وسياسات وآليات كثيرة، ساهمت في ظهور تجارب تنموية خاصة بها، تباينت في تفاصيل تكاليفها وغاياتها المنشودة والنتائج التي تمخضت عنها، وجدية الجهود التي بُذلت فيها، كما تباينت بصيغها ومفاهيمها وقيمها ومناهجها ومواصفاتها وعناصرها الأساسية، وكذلك بدروسها وتجاربها المستفادة.

ورغم الاختلافات في تجارب التنمية العربية، إلا أنها تشابهت بحسب مسعود، في فتح الأبواب لفئات رأسمالية جديدة يهمها الكسب السريع على حساب غالبية الناس في ظل انتشار الفساد، بمعزل عن الضوابط والمعايير القيمية المجتمعية..كما تشابهت في ضآلة حصادها، وعدم قدرتها على بناء اقتصادات متوازنة ومتطورة، وإحداث نمو اقتصادي مقبول..إضافة إلى أنها نُفذت بتكلفة اجتماعية مرتفعة وهدر للموارد، ولهذا عُرف باسمتجارب «تنمية الفرص الضائعة»، إذ ارتُكبت فيها أخطاء كثيرة، وجرى فيها تكريس التنمية القطرية بعيداً عن أي عمل تكاملي عربي.

ضآلة الإنجازات

ومما توقف عنده مسعود في سياق حديثه عن فشل التنمية العربية، ما دعاه «ضآلة الإنجازات»، إذ قدر قيمة الاستثمارات التي نُفذت في تجارب التنمية العربية منذ بداية السبعينيات حتى نهاية العقد الماضي، بنحو 3.2 ألف مليار دولار. والمؤسف أن تلك الاستثمارات لم تتمكن من تحقيق حصاد مقبول طيلة العقود الماضية، كما أنها لم تتمكن من تصحيح التشوهات الهيكلية في الاقتصادات العربية، وأبقتها على ما هي عليهمن الضعف والتفكك والاعتماد الزائد على الدول الغربية، كما لم تتمكن من المواءمة بين الإنماء الانساني والمادي، وإجراء تغييرات في البنى الاقتصادية الاجتماعية والسياسية والثقافية، تتيح إقامة أنظمة حكم صالحة، وتنمّي حس المسؤولية المجتمعية.

على العكس من ذلككما يرى مسعود، ساهمت تلك الاستثمارات في تعزيز تداخل المال والسلطة، وتكريس الفساد في إدارة الدولة وتوزيع المنافع على رموز الأنظمة المستبدة، وترك مجموعة كبيرة من المجتمعات العربية تحت خط الفقر في مناطق مهمشة خارج نطاق النمو.

إذ تفيد البيانات أن نسب النمو المحققة في الناتج المحلي الإجمالي في معظم الدول العربية أقل من النسب المخططة، ولهذا فإن النمو الاقتصادي فيها اتسم بالركود شبه الكامل على مدى عقدين ونصف بعد العام 1980. ولم يتجاوز نمو نصيب الفرد الحقيقي من الناتج المحلي الإجمالي في البلاد العربية 0.5 % سنويا طيلة تلك الفترة.

وبحسب أدبيات التنمية، فإن التغيرات التي شهدتها الدول العربية لم تتمكن من بلوغ مستوى عملية تنمية مستدامة، ولم تكن أكثر من تغيرات فجائية وعشوائية متقلبة، عاجزة عن توسيع الخيارات المتاحة للأجيال المتعاقبة، بسبب قصورها عن تنمية القدرات وإطلاق الطاقات اللازمة لاستدامة مستويات المعيشة وخلق فرص العمل الكريمة المجدية اقتصادياً.

واستدرك مسعود، أن هذه النتيجة لا تنفي وجود إنجازات محدودة أسفرت عنها تجارب التنمية العربية، في مقدمتها إنجازات تحققت في قطاعات البنى الأساسية، تتجسد في إقامة شبكات من الطرق البرية، وشبكات أخرى للكهرباء ومياه الشرب الآمنة ووسائل الصرف الصحي، والاتصالات السلكية واللاسلكية، فتركت بصماتها على المراكز الحضرية، وجعلت الحياة فيها أكثر يسراً.

لكن، رغم أهمية هذه الإنجازات إلا أن مسعود أكد أنها تعدّ متواضعة في آثارها وأبعادها، لا تلبي الطلب الكبير في الدول العربية على خدمات البنى الأساسية، بسبب النمو المضطرد في عدد السكان، والتوسع الحضري وتزايد سكان المدن بفعل الهجرة الداخلية، وما ينجم عن ذلك من زيادة في الضغوط على خدمات مرافق البنى الأساسية المختلفة.
واستعان المحاضر بما جاء في التقرير الاقتصادي العربي الموحد، منأن أكثر من نصف سكان الدول العربية لم يصله الكهرباء بعد، خاصة في الأرياف والمناطق النائية، وأنه ربع سكان هذه الدول ما يزالون محرومين من مياه الشرب الآمنة، ونحو ثلثهم لا تتوفر لهم شبكات مرافق الصرف الصحي المناسب، وثمة توقعات متشائمة في هذا الخصوص تفيد بعدم قدرة بعض الدول العربية على تحقيق الأهداف الإنمائية للألفية في عام 2015 الخاصة بهذه الخدمات بسبب الوتيرة البطيئة لتحسينها وتطويرها.

وكي تُلَبّى هذه الخدمات المتزايدة، يؤكد مسعود على ضرورة تعبئة استثمارات ضخمة يقدرها خبراء التنمية بنحو تريليون دولار حتى عام 2025، بلإن السعودية بمفردها بحاجة إلى نحو 80 مليار دولار لزيادة القدرة التوليدية للكهرباء فقط بحلولعام 2015للوفاء بالطلب المتنامي على الكهرباء.

ومن الإنجازات التي حققتها تجارب التنمية العربية، بحسب مسعود، أنها ساهمت بنشر وتعميم الخدمات التعليمية، وتحسين الخدمات الصحية.ورغم ذلك، إلا أنالدول العربية لم تنجح في دمج الموارد البشرية بعملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية، كما لم تتمكن من مواءمة سياساتها السكانية والتعليمية والتدريبية مع احتياجات التنمية، إضافة إلى فشلها في الحد من الزيادة الكبيرة في نمو السكان، التي تآكلت بفعلها نسب النمو المحققة، وزادت ضغوطها المتنامية على معدلات الاستهلاك وخدمات المرافق الصحية والتعليم والمواصلات والاتصالات، وساهمت في تنامي الواردات بمعدلات تفوق نمو الإنتاج.

نتائج متواضعة في قطاعَي الزراعة والصناعة التحويلية

وأشار المحاضر إلى نتائج متواضعة لتجارب التنمية العربية، في إنتاج قطاعي الزراعة والصناعة التحويلية، لكنها لم تتمكن من معالجة ضعف القاعدة الإنتاجية وتخلفها، ورفع مستوى مساهمة هذين القطاعين في الناتج المحلي الإجمالي، إذ تشير الإحصاءات إلى أن حصة الزراعة6.1 % والصناعة التحويلية 9.3 % من الناتج المحلي الإجمالي لكل الدول العربية في عام 2010. وهي نسبة متدنية بالمقارنة مع مثيلاتها في الدول الأخرى،بحيث بلغت 28 % في كوريا و34 % في الصين و 16 % في الهند مثلاً.

كما أن الدول العربية لم تُلَبِّ نسبة مقبولة من الطلب على المنتجات السلعية، ما أدى إلى تنامي الاعتماد على الاسواق الخارجية، خاصة في مجال استيراد السلع الغذائية والاستهلاكية والرأسمالية، ما يعكس ضعف الاقتصادات العربية، وحساسيتها الكبيرة إزاء تقلبات الأسعار في العالم الخارجي.

ورأى مسعود أن الإنجازات التي حققتها الصناعة التحويلية العربية، لم تتمكن من خلق أنماط إنتاجية تسند النمو الاقتصادي المستمر، كما عجزت عن تحقيق تغيرات في الصناعات الاستهلاكية والوسيطة والرأسمالية، ودليل ذلك علو معدلات تصدير المواد الخام من الدول العربية، واستمراراعتماد القطاع الصناعي العربي على الصناعات الاستخراجية، ما يجعله عرضة للتأثر بحدة لتقلبات الطلب العالمي على المواد الأولية، وهذا يثبت تدني قيمة صادرات الصناعة العربية التحويلية، إذ إنها بلغت 5 % من إجمالي الصادرات العربية في عام 2010، فيما بلغت صادرات النفط نحو 72 % من السلع المصدرة في العام نفسه.

المفارقة وفق مسعود، أن حال الدول العربية قد كان قبل عقود أفضل مما هوعليه الآن، فقد أشار تقرير التنمية الإنسانية العربية للعام 2009، إلى أن الدول العربية في عام 2007 أقل تصنيعاً منها في عام 1970، وذلك بسبب ما شهدته من تباطؤ وانكماش في مجال التصنيع، طيلة العقود الخمسة الفائتة، واهتمام زائد بالبنى الأساسية والعقارات والقطاع الخدمي والمالي.

كما اتسمت اقتصادات الدول العربيةفي فترة الستينيات بمستوى مرتفع من الأداء، تجاوز في نمو الدخل المناطق كافة ما عدا شرق آسيا، وتجاوزها جميعاً في توزيع الدخل، نتيجة التوسع في إنتاج النفط، والزيادة في تدفق عائداته.

المعيقات المحلية للتنمية

وتوقف مسعود مطوّلاً عند المعيقات المحلية للتنمية، وأبرزها عدم توفر الاستقرار الاقتصادي، وعلى وجه الخصوص عدم استقرار السياسات المالية والنقدية، وتطبيق سياساتساهمت في ظهور تشوهات خطيرة في الاقتصادات العربية أثناء تنفيذ الخطط الإنمائية، فعلى سبيل المثال، أثرت أسعار الصرف الزائدة عن قيمتها الحقيقية في بعض الدول على إعاقة الإنتاج، كما أعاقت أسعار الفائدة المرتفعة تنامي الاستثمار لأنها روجت للودائع المصرفية قصيرة الأجل وزادت منها في المصارف.

وما رأى فيه مسعود مثيراً للدهشة والغرابة في مجال الاقتصاد الكلي، هو وجود تضارب في السياسات الاقتصادية والاستثمارية في كثير من الدول العربية، وعدم وضوح التوجهات الحكومية تجاه قضايا الاستثمار، بل حتى عدم توفر سياسات واضحة في بعض الدول حول معاملة الاستثمارات القادمة من الخارج وتحديد مجالات نشاطها، إضافة إلى عدم وضوح الدور الذي تلعبه الدولة في الحياة الاقتصادية، والعلاقة بين القطاعَين العام والخاص، إضافة إلى تدني كفاءة الإدارة الاقتصادية وضعف المؤسسات العامة التي تشرف على تنفيذ الخطط الإنمائية.

ويتضح أيضاً، غياب شبه كامل للسياسات الاقتصادية التنموية في بعض الدول العربية، وتغيير شبه دائم للخطط الإنمائية مع تغير الحكومات، وعدم استقرار التشريعات الناظمة للاستثمار في أغلبية هذه الدول، بل حتى عدم وضوح نصوصها، وقصور لوائحها التفسيرية، وكذلك توقيف بعض أحكام القوانين بتعليمات أو ببلاغات رسمية، ما يعطي دلالة واضحة على عدم مصداقية السلطات العامة في احترامها للقوانين النافذة.

ولفت المحاضر أن هذه الإجراءات تؤدي إلى فقدان الثقة بمناخ الاستثمار بكامله، وتحد من جذب الاستثمارات اللازمة لتنفيذ المشاريع الضخمة ذات الإمكانات القادرة على تحقيق أفضل النتائج للتنمية، لأن كثرة التعديلات التشريعية، وعدم ثباتها، تجعل المستثمر في قلق دائم.

أما المعيق الثاني، فهو عدم توفر الاستقرار السياسي في كثير من الدول العربية، ناهيك عن تخلف مؤسسات الحكم فيها وعدم تطويرها، واستمرارها في السيطرة على زمام الأمور لعقود طويلة من دون مساءلة،وفي ظروف تعمها البيروقراطية والاستبداد والفساد، وغياب الديمقراطية ونقص في الحقوق المدنية والسياسية للمواطنين.

هذا الأمر أثر سلباً فيتجارب التنمية العربية، لوجود ارتباط واعتماد متبادل بين الديمقراطية والتنمية، إذ يمكن بالديمقراطية إخضاع السلطات الحاكمة للمساءلة والمحاسبة وتطبيق القانون، وتحفيزالأجهزة الرسمية للاعتناء بصياغة الخطط الإنمائية، وحشد الطاقات والموارد اللازمة لها، وتنفيذها بالطريقة التي تحقق أفضل النتائج.كما يمكن بالديمقراطية فتح المجال أكثر لحرية التعبير والشفافية وإبداء الرأي حول قضايا الفساد والبيروقراطية، والمعوقات التي تحد من عمل المؤسسات الحكومية والمرافق العامة، وذلك من قبل ممثلي الشعب في البرلمانات، ومن قبل مؤسسات المجتمع المدني، ومن قبل المواطنين والصحافة أيضاً. مما يساعد على إيجاد الحلول الناجعة لتلك المعوقات، وإرساء دعائم الاستقرار الاقتصادي اللازم لدفع عجلة التنمية الاقتصادية والاجتماعية.

وثمة معيق ثالث، يتعلق بتنامي الاضطرابات الأمنية والقلاقل الداخلية التي أدت إلى زيادة حذر رجال الأعمال، بل هروب الأموال وتدني نشاط الاستثمار الخاص في تنفيذ الخطط الإنمائية، ولا يمكن إغفال الأثر السلبي للحروب في تحقيق الأهداف المنشودة للتنمية العربية،وفي مقدمتها حروب الصراع العربي الإسرائيلي، والحرب العراقية الإيرانية، وتداعيات غزو العراق للكويت، وسلسلة حروب الخليج، والحرب الأهلية اللبنانية.

فهذه الحروب تداخلت مع تجارب التنمية العربية، وساهمت في تضييق الخيارات الإنمائية المتاحة، وفي إجراء تغييرات غير متوازنة في توزيع اجمالي الإنفاق العام على المجالات المختلفة، إذ أثرت في زيادة مخصصات الإنفاق على الدفاع والأمن بأكثر من ثلاثة أضعاف المستوى المتوسط في الدول النامية، ما أثر سلبا ً في المقتضيات الأساسية اللازمة للتنمية.

وهناك معيق آخر يتمثل كما يرى مسعود، بمحدودية البنى الأساسية اللازمة للتنمية، لأن ما أنجز منها في شتى مجالاتها على المستوى العربي ما زال غير كافٍ، وقد أثر قصورها كثيراًفي إعاقة تنفيذ المشاريع الانمائية، بل حتى إعاقة جذب الاستثمار لبعض الدول ذات الموارد الواعدة للاستثمار الزراعي كما هي الحال في السودان.
ولفت المحاضر إلى تأثير وسائل النقل في تدفق مدخلات الإنتاج إلى المشاريع الزراعية، ونقل مخرجاتها إلى الأسواق، وتأثير إمدادات الطاقة (الكهرباء) على تشغيل المصانع وتكاليف الإنتاج،وكذلك تأثير الخدمات الحديثة من الاتصالات السلكية واللاسلكية على جذب المستثمرين، وتمكين إدارة المشاريع المختلفة من الاتصال بالعالم الخارجي بالسرعة اللازمة وفي الوقت المناسب.

وهناك من المعيقات، تخلف الأوضاع العامة للجوانب الإدارية في الدول العربية، بكل ما فيها من أنظمة وأشكال تنظيمية، وهيمنة للإدارة الحكومية التقليدية، المعروفة بخضوعها لمؤثرات سياسية ولوائح وقوانين ومستويات بيروقراطية عديدة تساعد على تنفير المستثمرين ونشر الفساد والرشوات وغيرها من الممارسات التي لا تساعد على خلق مناخ جاذب للتنمية.

يضاف إلى ذلك، فقر الدول العربية بالخبرات الإدارية والكوادر الفنية المتخصصة، وندرة القيادات الإدارية ذات المهارة اللازمة في إدارة المصالح الاقتصادية، وعدم اعتماد الأساليب العلمية في العمل كنتيجة لمحدودية قدرات وتجارب الإدارة العليا، وفقر الدول العربيةبأنظمة المعلومات، وتضارب البيانات والأرقام الإحصائية التي تصدر عن الأجهزة الإدارية، وعدم توفر فرص وخرائط استثمارية جاهزة ومعدة على أسس علمية لتعزيز التنمية.

وأشار مسعود إلى معيق في وجه التنمية العربية، هو تخلف الدول العربية في استيعاب وتوطين التقنيات اللازمة للتنمية، وعدم اتساق سياساتها التعليمية مع مقتضيات اكتساب المعرفة الفنية، والبحث والتطوير التقني، واعتمادها فقط على استيراد منتجات التقنيات الأجنبية في شتى المجالات من الخارج دون تحقيق تقدم ملموس في إدارتها وتطويعها، والاعتماد المفرط على الشركات والخبرات الأجنبية في الاستشارة والتشغيل والصيانة.

ومن المعيقات التي أوردها المحاضر، قصور التمويل المحلي عن تلبية متطلبات الاستثمار في الخطط الإنمائية لبعض الدول العربية، خاصة في الدول الأقل دخلاً، حيث غطت نصف احتياجاتها التمويلية بالاستدانة من الخارج، كما استدانت الدول متوسطة الدخل نحو ثلث احتياجاتها التمويلية، بينما مولت الدول العربية المصدرة للنفط جزءاً كبيراًمن استثماراتها الإنمائية من مواردها المحلية.

وتقدر قيمة الديون القائمة على الدول العربية في منتصف عقد الثمانينيات بنحو 100 مليار دولار، وفي عام 1997بنحو 200مليار دولار، ثم استقرت في عام 2010 عند مستوى 453 مليار دولار، وبلغت خدمة هذه الديون نحو 15 % من الإيرادات الكلية لصادرات السلع والخدمات، وقد شكلت هذه الديون التزامات متنامية على الدول المعنية، وتحولت أعباء مدفوعات خدمة الدين المرتفعة في مرحلة لاحقة إلى أشد معوقات التنمية، حتى في بعض الدول الخليجية في وقت انخفاض العوائد النفطية.

قصور العمل الاقتصادي العربي المشترك

ومن المعيقات، قصور العمل الاقتصادي العربي المشترك، وعدم قدرته على تحقيق غايات التنسيق والترابط والتكامل الاقتصادي العربي،بسبب عدم تنفيذ اتفاقيات وآليات متعددة في مجالات اقتصادية كثيرة كالتجارة والإنتاج والاستثمار، حيث بدأ إقرار بواكيرها منذ منتصف عقد الخمسينيات بهدف تعزيزالتنمية العربية، وتحقيق أقصى حد من التطويرللعلاقات الاقتصادية العربية.

ولفت مسعود إلى وجود تشوهات في أولويات الإنفاق على الخطط الإنمائية، ساهم في تبديد الاستثمارات المخصصة للمشاريع الإنمائية، كما ساعد على تنامي الإنفاق العشوائي على حساب مخصصات التنمية الحقيقية، وخاصة الإنفاق المرتبط بالإسراف الزائد على المظاهر، والتقليد الأعمى للدول الغربية، إضافة إلى المباهاة، باختيار مشاريع ضخمة لمجرد الانبهار بتقانتها المتطورة وضخامة استثماراتها، دون مراعاة لصلاحيتها وجدواها من الناحيتين الاقتصادية والفنية، ما أدى في بعض التجارب الإنمائية إلى الاستدانة من الخارج لتمويل تلك المشاريع، ولسد احتياجات مالية أخرى تكميلية لها، ارتبطت في كثير من الحالات بالرشاوى والفساد وانحراف التوجهات الإنمائية.

ومما وضعه المحاضر في قائمة «المعيقات»، التلكؤ في تطبيق الإصلاحات اللازمة في شتى المناحي الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية، وتراجعبعض الدول عن الالتزام بها، ما زاد من حدة الاختلالات الهيكليةفي الاقتصادات العربية، وعجزها عن توفير فرص عمل جديدة لإيقاف تفشي البطالة، بالإضافة إلى انخفاض مستوى فاعليتها وأدائها، الأمر الذي جعلها في مكانة متخلفة عن دول آسيا وأميركا اللاتينية وبعض الدول الإفريقية.

فالإصلاحات الهيكلية على جانب كبير من الأهمية لزيادة معدلات النمو وتجاوز صعوبات البطالة المتصاعدة، وربما تكون أهم من الاستثمارات. فقد بلغت الاستثمارات في بعض البلدان نسباً عالية تراوحت بين 30 % و40 %من الناتج المحلي الإجمالي، لكنها لم تساعد على تنامي الناتج المحلي الإجمالي، إذ بلغ متوسط نموه للفرد 1% سنوياً، خلال السنوات الخمس عشرة الأخيرة، كما لم تساعد في حل مشكلة البطالة كونها كانت استثمارات ذات كثافة رأسمالية وليست تشغيلية، وأدت البطالة بطبيعة الحال إلى إهدار أهم قوى تطوير الإنتاج كمّاً وكيفاً.

وأوضح مسعود أن الاقتصادات العربية أسيرة لتقلبات الأسعار العالمية للنفط، ما يجعل تأثير النفط حاسماً على مستوى النشاط الاقتصادي وحركة عوامل الإنتاج وأنماط الاستهلاك، كما أنه المكون الرئيس للناتج المحلي الإجمالي العربي، وللصادرات العربية، والمحرك الفاعل للتنمية. وفي هذا السياق، يشكل الناتج المحلي الإجمالي لعشر دول عربية نفطية (دول مجلس التعاون الخليجي، ومصر والعراق وليبيا والجزائر) نحو 70 % من الناتج المحلي الإجمالي العربي، ويشكل الناتج المحلي الإجمالي لدول مجلس التعاون الخليجي وحدها نحو نصف حصيلة الناتج المحلي الإجمالي العربي، مع أن عدد سكانها لا يزيد على 11 % من مجموع سكان الدول العربية.

وكما يرى مسعود، فإن هذا النمو الذي حققه الناتج المحلي الإجمالي العربي منذ عام 2005، وتخطى به حاجز التريليون دولار بالأسعار الجارية، وبلغ نحو 2 تريليون دولار في عام 2010، لا يعكس القدرة الإنمائية والإنتاجية للدول العربية، بل يعكس حقيقة النفط كمحور استراتيجي وحيوي.

ومن الشواهد التي تؤكد تراجع أداء الاقتصادات العربية في الوقت الحاضر عما كان عليه في الفترة الممتدة حتى أواسط الثمانينيات من القرن الماضي، انحدار معدلات الاستثمار والإنتاجية، وعدمقدرة النمو على التناسب مع العدد المتزايد للسكان، وانخفاض معدلات دخل الفرد الحقيقي، وانخفاض حصة الدول العربية في التجارة العالمية من 9.8 % في عام 1983 إلى 3.3 % عام 2010، ومن 4.5 % إلى 2.2 % خلال هذين العامين عند استثناء الصادرات النفطية.

وقال مسعود أن الأوضاع العربية المتردية قد بُحثت في دراسات وتقارير كثيرة طيلة السنوات الماضية، من أهمها سلسلة تقارير التنمية الإنسانية العربية (2002-2005) التي أعدها مجموعةمن الخبراء العربوأصدرها برنامج الأمم المتحدة الإنمائي بالتعاون مع الصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي، وتم فيها تشخيص الأزمة التي تعيشها الدول العربية في مطلع الألفية الجديدة، كما طالبت الدول العربية بتنفيذ إصلاحات جذرية حقيقية سياسية واقتصادية واجتماعية تساعد على تجديد حيوية أنظمتها السياسية وتحديث اقتصاداتها بما يتلاءم والتغيرات المتسارعة والمتلاحقة على الصعيدين الإقليمي والعربي.

لكن المؤسف أن الدول العربية لم تتجاوب مع هذه المطالب المهمة، ما أدى إلى زيادة منسوب الأوضاع العربية المتردية، واختلطت فيها التناقضات والركود والتأزم وانخفاض مستوى الفعالية والإنجاز، وساعد هذا على تكديس الإختناقات وتوفير الأرضية الخصبة لظهور ثورات الربيع العربي في عدد من الدول العربية، وتوقع ظهورها وامتدادها في دول أخرى.

تحديات التنمية العربية

ثم انتقل المحاضر إلى «تحديات التنمية العربية»، مقسماً إياها إلى نوعين. الأولىخارجية لا تقع مسبباتها تحت سيطرة الدول العربية، تفرزها مستجدات الساحة الدولية، وأهمها اتساع الفجوة مابين الدول العربية والدول المتقدمة في مجال العلم والمعرفة والتقنيات المتطورة، واشتداد حدة المنافسة في السوق الدولية، وتكييف شروط التجارة لصالح الدول المتقدمة، بما يزيد من تبعية الدول العربية لها تصديراً واستيراداً، لا سيما في مجال تصدير النفطواستيراد التقنيات وتوفير الغذاء.إضافة إلى الدور المتنامي للشركات عابرة القارات وللتكتلات الاقتصادية الإقليمية على المسرح العالمي بهيكلية جديدة فاعلة ومؤثرة لصالح الدول المتقدمة، تظهر في ظلها الدول العربية كأسواق استهلاكية للسلع الأجنبية.

أما النوع الثاني من التحديات فنابع من الأوضاع العربية نفسها، منها ما هو مرتبط بالاستبداد السياسي وتدني مستوى الحريات المدنية والحقوق السياسية، وحرية التعبير، وغياب الديمقراطية، واختلال التوازن الاجتماعي، وتهميش دور المرأة السياسي وممارسة التمييز ضدها في القانون والأعراف، إضافة الى ضعف البنية القانونية والإدارية، وانتشار الفساد بمختلف أشكاله وصوره.

ووفق مسعود، فإن الدول العربية تأتيفي المرتبة الأخيرة عالميا ًمن حيث حرية التمثيل والمساءلة، وتأتي في مركز متقدم جدا ًعالمياً من حيث انتشار الفساد الذي يشكل أحد أهم معوقات التنمية.

وركّز المحاضر على خمس تحديات خطيرة تواجه الدول العربية في الوقت الراهن، يتوقع ان تشتد حدتهامسقبلاً، وتتكاثر انعكاساتهاالسلبيةعلى مجمل الحياة العربية، وعلى تشكيل مستقبل التنمية العربية في العقود القادمة وعلى مستقبل الربيع العربي ومقدرته على تحقيق أهدافه في إرساء دعائم التحولات السياسية والاقتصادية اللازمة.

أول هذه التحديات: النمو السكاني، لمؤثراته السلبية التي تزداد إحكاماً حولامتصاص نتائج التنمية، وزيادة الطلب على المرافق العامة والخدمات الصحية والتعليمية، وعلى هدر الموارد المتاحة وإعاقة تنميتها، والحد من متطلبات خطط التنمية الطموحة، خاصة في مجال خلق فرص عمل جديدة في كل عام لتلبية طلبات العمل المتزايدة.

وأوضح مسعود أن هذا النمو تزايد خلال السنوات الماضية، بنسب مرتفعة تعدّ من أعلى المعدلات في العالمعلى الإطلاق، فبلغ عدد سكان الدول العربية في عام 2010 نحو 355 مليون نسمة، بمعدل نمو 2.6 %عن عام 2009، يفوق مثيله في جميع أقاليم العالمالرئيسية، باستثناء إفريقيا جنوب الصحراء، كما أنه يزيد أيضاً على معدل نمو السكان العالمي البالغ 1.6 %.وتشير الإحصاءات السكانية إلى أن عدد سكان الدول العربية يتضاعف كل ثلاثة عقود تقريباً، مقارنة بنحو 116 عاماً في الدول المتقدمة.

ويرجع التزايد الكبير في عدد السكان إلى المستوى المرتفع لمعدلات الخصوبة في معظم الدول العربية، وإلى التأثير الإيجابي لتحسن الخدمات الصحية، بالإضافة ٌالى قصور السياسات السكانية الخاصة بتنظيم النسل والأسرة، وتناقص عدد الوفيات بسبب ارتفاع المستوى الصحي والمعيشي، فقد انخفض معدل وفيات الرضع في الدول العربية إلى الثلث خلال العقود الثلاثة الماضية.

وأوضح مسعود أن زيادة السكان في الدول العربية تعيق النمو الاقتصادي المتوازن، وتقلل من قدرة الدول المعنية على خلق ما يحتاجه السكان فيها من فرص عمل جديدة في كل عام لتلبية متطلبات العمل المتزايدة، وتحسين مستوى معيشتهم.

ومن الآثار السلبية للمعضلة الديموغرافية في الدول العربية، انخفاض حصة الفرد من الأرض المزروعة التي تقدر حالياً بنحو نصف هكتار فقط، مع انخفاض كبير لحصته من المياه المتجددة سنوياً، وزيادة الضغوط على الإمدادات المحدودة من المياه العذبة، بحيث يُتوقع ألاّ تبقى دولة عربية واحدة بمأمن من الضائقة المائية، ما سيؤدي الى ظهور كوارث بشرية وبيثية هائلة.

ومن الآثار الأخرى لهذه المعضلة، وجود قاعدة فتية عريضة من الفئة العمرية التي تقل عن 15 سنة تبلغ نحو 36% من سكان الدول العربية، وهي النسبة الأعلى بين الأقاليم الرئيسة في العالم. ومن الطبيعي أن يزيد ذلك من معدلات دخول الشباب العرب سوق العمل، ويزيد بالتالي من عبء توفير فرص عمل جديدة، في وقت ترتفع فيه معدلات البطالة في الدول العربية.

وثمة ظواهر اجتماعية سلبية متصلة بالمعضلة الديموغرافية، أوردها مسعود، منها تفشي البطالة والفقر، وارتفاع معدلات الأمية وتراجع معدلات التنمية الإنسانية، إضافة إلى زيادة مساحة المناطق العشوائية ومدن الصفيح، وتكدس المواطنين في المدن وازدحامها وتلوثها، وضآلة الخدمات المقدمة فيها، إضافة إلى نقص عدد المساكن، وارتفاع معدلات الفقر، حيث تقدر نسبةالسكان الذين يبلغ متوسط دخلهم اليومي دولاراً واحداً بنحو ربع سكان الدول العربية، أي حوالي 89 مليون نسمة، وتقدر نسبة الذين يتراوح دخلهم بين دولارين وخمسة دولارات يومياً بنحو نصف إجمالي سكان الدول العربية، أي حوالي 178 مليون نسمة.

لذلك يرى مسعود أن الدول العربية مدعوة الآن أكثر من أي وقت مضى لاتباع سياسات ناجعة للحد من زيادة أعداد السكان، وللحيلولة دون تعرضها لمزيد من المشاكل في المستقبل.

التحدي الآخر الذي يتوقف عنده مسعود، هو اكتساب المعرفة. إذ تعدّ المعرفة في الوقت الحالي من العناصر الأساسية للإنتاج، ومحدد أساسي للإنتاجية، تبدلت بفعلها مصادر المزايا التقليدية من كثافة نسبية في الموارد، إلى كثافة نسبية في المهارات والمعرفة الفنية والابتكارية والتقانية المتطورة، وبهذا أخذت المعرفة تؤثر مباشرة في زيادة القدرة التنافسية للدول

وقال مسعود إنه رغم الجهود التي بذلتها الدول العربية طيلة العقود الماضية في مجال اكتساب المعرفة في شتى المجالات، فإنها ما زالت تعاني من نقص يظهر بصورة صارخة في مجال إنتاج المعرفة ونشرها في ظل منظومة معرفية ضعيفة في بناها الأساسية، تظهر بها الدول العربية تابعاً لمصادر المعرفة الأجنبية.

فهناك ركود في عدد من مجالات إنتاج المعرفة، وبخاصة في مجال نشاط البحث العلمي، إذ إن عدد العلماء فيه يقل عن ثلث المستوى العالمي البالغ 979 لكل مليون من السكان، كما أن حجم الإنفاق لا يتجاوز 0.2 % من الناتج القومي للدول العربية.

يضاف إلى هذا، ضعف إنتاج الكتب في الدول العربية، إذ لا يتجاوز عدد الكتب المنتجة، 1.1 % من الإنتاج العالمي، رغم ان العرب يشكلون نحو 5 % من سكان العالم، ولايتجاوز عدد الكتب الأدبية والفنية 0.8 % من الإنتاج العالمي، وهو أقل مما أنتجته دولة مثل تركيا التي لا يتعدى سكانها ربع سكان البلاد العربية.

وأوضح المحاضر أنه على الرغم من ضخامة إنفاق الدول العربية على التعليم، وتحقيق معظم هذه الدول إنجازات في مجاله خلال العقود الماضية، إلا أنها ركزت فيسياساتها التعليمية على الكم في مخرجات التعليم عوضاً عن الكيف، ولهذا لم تتمكن من تلبية احتياجات سوق العمل المحلي من حيث التخصصات والكفاءة العلمية.

واستدرك أن الإنجازات التي حققتها الدول العربية في مجال التوسع الكمي في مجال التعليم خلال العقود الماضية، هي في حقيقتها محدودة ومتواضعة مقارنة بإنجازات دول أخرى حتى النامية منها، وثمة دلالات كثيرة تبين صحة هذه النتيجة، تتمثل بتدني نوعية وجودة التعليم المتاح، وانخفاض نسب الالتحاق بالمراحل العليا من التعليم النظامي مقارنة بالدول المتقدمة، وارتفاع معدل الأمية، فنسبة الأمية بين البالغين (15 سنة فما فوق) بلغت في عام 2008 نحو 30 % (100 مليون)، وهي بذلك تفوق مثيلاتها في جميع أقاليم العالم، باستثناء إقليمَي جنوب آسيا وإفريقيا جنوب الصحراء.

ودعا مسعود إلى إجراء مراجعة جذرية لكل ما يتعلق باكتساب المعرفة في الدول العربية، على مستوى المؤسسات والسياسات، وخاصة في مجال الأسس والنظم التي يقوم عليها نظام التعليم في كل المراحل الدراسية من الابتدائي حتى الجامعي، بما يؤدي الى اكتساب المزيد من المهارات والكفاءات الحديثة، اللازمة للمساهمة في تحقيق نهضة تقنية تلبي إحتياجات التنمية،من خلال زيادة مخصصات الاستثمار في التعليم والبحث العلمي وتطوير المناهج والمقررات الدراسية وطرق التدريس، وأنشطة البحث العلمي والتطوير، وبرامج التدريب والتأهيل المهني المتواصل، بما يمكن من المواءمة بين التعليم والتنمية، وربط التعليم ومخرجاته من مختلف المهارات بالتغيرات في أوضاع سوق العمل.

ثم انتقل المحاضر إلى «البطالة»، بوصفها من أهم التحديات التي تواجه الدول العربية، لما تشكله من هدر في استعمال الموارد البشرية، وإفناء للطاقات الإنتاجية، إذ هي شكل من أشكال الحرمان، من حيث أنها تعني خسارة في الدخل ومصادر الرزق، واستشراء الفقر، والتأثير سلباً في المواطنين في مجالات كثيرة نفسية واجتماعية ومرضية وأمنية، تؤدي إلى فقدان الثقة بالنفس، وازدياد العلل المرَضية، وحتى زيادة معدلات الوفيات، وإفساد العلاقات الأسرية، وزعزعة الأمن والاستقرار الاجتماعيين، بما في ذلك انتشار الجريمة وأعمال العنف والارهاب.

وأورد مسعود وصف منظمة العمل العربية الوضع الحالي للبطالة في الدول العربية بـ«الأعلى» و«الأسوأ» في العالم، فبحسب أحدث البيانات الإحصائية الصادرة عنها (2008) تراوحت نسبة البطالة على المستوى العربي بين 14 % و20 % من القوى العاملة، وهي أعلى معدل بطالة بالمقارنة مع مختلف أقاليم العالم الأخرى،ما يعني وجود 14 مليون عاطل عن العملفي الدول العربية، غالبيتهم من الشباب، لن يتوقف عددهم عند هذا الحد، بل سيزيد ويتضخم إلى أن يبلغ الذروة في السنوات العشرين القادمة.

وقدّر المحاضر خسائر الدول العربية من جراء البطالة بنحو 115 مليار دولار، وهو مبلغ يكفي لتأمين نحو ستة ملايين فرصة عمل بحسب تقديرات منظمة العمل العربية، علما أن كل زيادة 1 % سنوياً، تنجم عنها خسارة في الناتج المحلي الإجمالي بمعدل 2.5 %.

ولفت إلى أن ما يزيد في سلبية دلالات البيانات المتاحة، هو إرتفاع نسبة البطالة بين أصحاب الشهادات الجامعية، وفي أوساط الشباب، حيث تبلغ 25% بين الشباب، وهي الأعلى في العالم، وتعادل نحو ضعف ماعليه الحال في كل الدول، وتزيد هذه النسبة لتبلغ نحو 40 % بالنسبةلخريجي الجامعات والمدارس الثانوية ممن لا يجدون فرصاً في سوقالعمل.

وخطورة هذا التحدي، أن 70 % من السكان هم من الشباب دون 30 سنة، الكثير منهم يتوجهون الى التعليم في المجالات التقليدية غير المطلوبة في أسواق العمل، مع ضرورة التأكيد على أن البطالة بين الشباب تتفاوت بين بلد عربي وآخر، حيث تبلغ حدها الأعلى 46 % بين شباب الجزائر، والأدنى 6.3 % بين شباب الإمارات.
ولفت مسعود إلى ارتفاع معدلات البطالة بين النساء في الدول العربية، مقارنة بمعدلات الرجال، إذ إنها الاعلى في العالم أجمع، أكبر من البطالة بين الرجال بما يعادل 50 %، بما يؤكد وجود تحيز اجتماعي متأصلومقنن ضد عمالة النساء، يتجلى بانخفاض المشاركة الاقتصادية للمرأة العربية، إذ إنها لا تتجاوز 33 % من إجمالي النساء، وهي الأدنى في العالم.

ومن المتوقعأن يزداد الأمر تعقيداً مع تزايد نسبة السكان في الفئة العمرية في سن النشاط الاقتصادي (15-65) التي تقدر حاليا بنحو 63 % من إجمالي عدد السكان في الدول العربية، لهذا تتوقع منظمة العمل العربية أن تحتاج الدول العربية بحلول عام 2020 إلى 51 مليون فرصة عمل جديدة، لاستيعاب الشباب الداخلين إلى سوق العمل.كما يتوقع البنك الدولي ومنظمة العمل الدولية أن تزداد البطالة تعقيداً في الدول العربية،وأن يصل هذا الرقم الى اكثر من 100 مليون فرصة عمل جديدة، على افتراض أن حجم القوى العاملة العربية سيتضاعف بفعل الزيادة السكانية، ليصل الى 220 مليون نسمة في عام 2020.

وأوضح أن مواجهة البطالة تتطلب مضاعفة الاستثمارات الحالية لتصبح 20-25%من الناتج المحلي الإجمالي للدول العربية، وخلق المناخ المواتي للاستثمار في المجالات ذات الكثافة التشغيلية.

استفحال البطالة

وردّ المحاضراستفحال البطالة إلى أربعة أسباب رئيسة هي: النمو السكاني المرتفع مع ما يصاحبه من اختلالات في هياكل الاقتصادات العربية، وتدني جودة ونوعية التعليمفي الدول العربية، وافتقاره إلى الجوانب الفنية والمهنية المطلوبة في أسواق العمل، وانكماش القطاع العام الذي يستخدم ثلث القوى العاملة العربية، وكذلك محدودية القطاع الخاص وعدم قدرته على خلق فرص عمل جديدة تساهم في حل معضلة البطالة.

وبيّن أن تقليص البطالةإلى مستوى معقول يتطلب استحداث 5 ملايين فرصة عمل جديدة سنوياً،ما يستوجب اعتماد حلول جذرية تكمن في إصلاح أنظمة التعليم، والتركيز على التعليم المهني والتدريب لجعل مخرجات التعليم ملائمة لحاجات سوق العمل وأولوياتها، إضافة إلى تعزيز قدرات القطاع الخاص، وحثه على توجيه استثماراته نحو إقامة مشاريع كثيفة العمالة من المشاريع الصغيرة والمتوسطة، وتطبيق برامج تحفيزية لتأهيل الشباب وتدريبهم وترغيبهم للعمل وفق آليات تدعم هذه المشاريع.

أما تحدي العجز الغذائي، فتعبّر عنه «الفجوة الغذائية» كظاهرة اقتصادية تنصب أساساً حول الأمن الغذائي العربي، بكل ما له من أبعاد اقتصادية وسياسية واجتماعية ومالية وأمنية بالغة الخطورة والأهمية.وهي تعني الفرق بين الإنتاج المحلي وصافي الواردات لمختلف السلع الغذائية، وقيمة هذه الفجوة في اتساع دائم، فقد بلغت نحو 35.3 مليار دولار في عام 2009، تشكل مجموعة الحبوب 58.3 % منها، ويأتي القمح في صدارة هذه المجموعة حيث يمثل وحدهأكثر من نصف قيمة فجوة الحبوب، وبسبب هذه الفجوة أصبحت الدول العربية من أكثرمناطق العالم اعتماداً على مصادرالغذاء المستوردة.

واللافت عند استقراء أرقام الفجوة الغذائية العربية خلال السنوات الماضية، أنها تزداد إتساعاً عاماً بعد آخر، وهذا يدلعلى إخفاق تجارب التنمية العربية في تحقيق الأمن الغذائي العربي، وعلى تزايد اعتماد الدول العربية على الأسواق الخارجية، ولهذا المنحى سلبيات كثيرة، تتمثل في هدر الموارد المالية وتحويلها للخارج، وتقويض الاستقرار الو طني، بعد أن اصبحت السلع الغذائية ورقة ضغط سياسية، تمارسها الدول المتقدمة اقتصادياً ضد الدول النامية المستوردة بصفة عامة والدول العربية بوجه خاص، بهدف تطويعها وإخضاعها لمصالحها الخاصة.

هذا العجز الغذائي، يرى مسعود أنه محصلة عدد من الأسباب، في مقدمتها تزايد السكان بمعدلات تفوق معدلات الزيادة المتحققة في إنتاج السلع الزراعية، وتدني إنتاجية الأراضي الزراعية في الدول العربية، وعدم كفاية مصادر المياه وسوء استغلالها، وانخفاض مساحة الأراضي المزروعة، بالإضافة إلى فشل العمل العربي المشترك في مجال الزراعة.. حيث اتجهت الدول العربية نحو الاهتمام بالمشاريع القطْرية على حساب المشاريع المشتركة، في إطار إمكاناتها المحدودة من حيث الأراضي والمياه.

وانتقل مسعود للحديث عن تحدي ندرة الموارد المائية، من حيث متوسط نصيب وحدة المساحة، أو نصيب الفرد من المياه، أو من حيث عدم ملاءمة توزيعها الجغرافي وصعوبة السيطرة على الكثير منها واستغلاله، لأن أكثر من 85 % من المياه المتوافرة في الدول العربية تأتي من مصادر خارج حدودها، وتعدّ اتفاقيات الموارد المشتركة الخاصة بها عديمة الفعالية، وتتأثر دوماً بالنزاعات والتوترات السياسية بين الدول المتشاطئة.

ووفق تقرير قدمه المجلس العربي للمياه للمنتدى العالمي الرابع للمياه (2006) فإن الحصة المتاحة للفرد الواحد من المياه في الدول العربية قد انخفضت من 4000 متر مكعب سنوياً عام 1950، إلى أكثر قليلاً من 1000 متر مكعب في 2008، مقابل أكثر من 7000 متر مكعب في المتوسط في بقية دول العالم، ومن المتوقع أن تهبط حصة الفرد على المستوى العربي إلى 577 متراً مكعباً بحلول عام 2050.

ويضع التقرير الاقتصادي العربي الموحد صورة مستقبلية أكثر حدة للوضع المائي العربي، إذيقدّر أن نصيب الفرد سينخفض إلى 500 متر مكعب في عام 2025، في ضوء معدلات النمو السكاني المرتفعة، وتناقص كميات المياه التي ترد للدول العربية من الأنهار المشتركة، التي تنبع من الدول المجاورة. كما يقدّر التقرير نفسهأن يرتفع العجز المائي العربي في الزراعة العربية إلى نحو 378 مليار متر مكعب في عام 2030، ما يؤثر سلباًفي تحقيق الاكتفاء الذاتي الغذائي العربي.

وأوضح مسعود أن مستقبل المياه في الدول العربية ينذر بخطر كبير في مجال الزراعة، لأنها تستهلك 89 % من جملة الموارد المائية السطحية العربية المتاحة، وذلك ليس فقط بسبب محدودية هذه الموارد، بل لأن غالبية المنابع المائية الرئيسية العربية تقع في دول غير عربية، وليست لها سيطرة كاملة عليها، وهو الأمر الذي يفاقم من حدة المشاكل المائية، ويساعد على ظهور خلافات اقتصادية وسياسية خطيرة حول توزيع الموارد المائية إقليمياً، قد تؤدي إلى نزاعات وحروب في المستقبل.

لذلك، فإنه يرى أن تنظيم استثمار الموارد المائية العربية المحدودة، يشكل حجر الأساس للتنمية العربية بأبعادها المختلفة، وهذا يتطلب تعزيز التعاون العربي من أجل حماية المصالح المائية العربية، والحصول على حصص مائية عادلة، من خلال ترتيبات إقليمية بعيدة المدى، يتم بها التوصل إلى حلول مرْضية في اقتسام المياه مع الأطراف المعنية.كما يتطلب تعزيز التعاون العربي في مجالات الاستغلال الأمثل للموارد المائية المتاحة وتنميتها وترشيد استخدامها والحفاظ عليها وتطوير الري الزراعي.

مستقبل التنمية العربية

بعد هذا العرض لواقع التنمية العربية، ومعيقاتها وتحدياتها، انتقل الباحث د.سميح مسعود إلى مستقبل التنمية العربية، مستهلاً حديثه بقوله إن أزمة الدول العربية السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية من الجسامة والتعقيد والتشابك، بحيث نجد لسوء الحظ أن مستقبل التنمية العربية لا يبشر بالخير، إذ تبدو التنبؤات غائمة، وتتوقع المزيد من التباطؤ في النمو الاقتصادي خلال السنوات المقبلة، مع استمرارية الصعوبات المالية على حالها، واستمرار انحدار الاستثمارات العامة، وبقاء القطاع الخاص ضعيفاً وغير فعال، لدرجة لا تمكنه من تقديم بديل يمكن الاعتماد عليه في إيجاد حلول ناجعة للبطالة، بالإضافة إلى استمرارية نواقص التنمية البشرية المتمثلة بنقص الحرية، ونقص المعرفة، وتمكين المرأة، إضافة إلى توقع ارتفاع منسوب انتفاضات الربيع العربي وإمكانية انتشارها في نطاق دول عربية أخرى.

وأضاف مسعود أن تجنب مستقبل يكرر دروس الماضي الفاشلة، يتطلب توفير بيئة مستقرة سياسياً وأمنياً، تساعد على بناء نظم سياسية جديدة تعزز فيها الديمقراطية والحريات العامة بالتزامن مع تنفيذ سياسات اقتصادية تنموية تلبي مطالب المواطنين.

وتابع أن مستقبل التنمية العربية مرهون بإعادة النظر في النظام الاقتصادي العربي كنموذج اقتصادي ريعي مبني على تزاوج المال بالسلطة المستبدة ولا يراعي أبسط قواعد توزيع الدخل ونتائج التنمية، وهذا يستوجب بذل جهود جماعية مستمرة ومخلصة من كل الدول العربية لتوفير المتطلبات اللازمة لهذا التحول.

ومن هذه المتطلبات: اعتماد مفهوم للتنمية العربية يربط ما بين النمو الاقتصادي والتنمية البشرية، ويأخذ في الحسبان «التنمية الشاملة» كما نصت عليها العديد من قرارات الأمم المتحدة بوصفها «حقاً من حقوق الإنسان في تحسين نوعية الحياة»، تتشابك فيها جوانب كثيرة اقتصادية واجتماعية وسياسية وإدارية وتنظيمية وقانونية وثقافية.

فالتنمية الاقتصادية المطلوبة،بحسب مسعود، هي عملية مجتمعية إنسانية مستدامة تسعى إلى تحقيق زيادة في إنتاجية الفرد ومتوسط دخله الحقيقي عبر فترة زمنية طويلة، وكذلك تحسين الأحوال البشرية عموماً، وإحداث تغييرات هيكلية في شتى المجالات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، تساعد على تعميق البعد الإنساني للتنمية وتوفير الحريات السياسية والصحافة الحرة وتمكين المرأة من نيل حقوقها، وتعمل أيضا ً على تحقيق المشاركة السياسية لجميع المواطنين في العمليات التي تؤثر في حياتهم، وعلى بناء أنظمة حكم أكثر شفافية وأفضل حوكمة خاضعة للمساءلة الديمقراطية.

وثاني هذه المتطلبات: إعادة صياغة أساليب التنمية العربية في إطار تنموي إقليمي تكاملي يتيح للاقتصادات العربية أن تتكامل عمودياً وأفقياً، وأن تكمل موارد بعضها البشرية والمالية والمادية مواردبعضها الآخر، في إطار سوق عربية كبيرة. فالمطلوب هنا هو السعي الجاد، نحو الاستفادة المتبادلة من الموارد والإمكانات المتوفرة لدى الدول العربية، في أطر تكاملية على أساس من المنافع الاقتصادية الحقيقية، وبعيداً عن الشعارات العاطفية، فمن غير الطبيعي في ظل عالم "معولم" مفتوح اقتصادياً ومالياً، أن تنكفئ الدول العربية في إطار أسواقها القطرية الضيقة، وفي ظل تداعيات التجزئة والتشرذم والانقسام التي تعيشها الآن.

وأوضح مسعود أن آفاق وأبعاد التكامل الإنمائي المطلوب، يجب أن تتمحور في المستقبل حول مجالات حيوية أهمها: دمج القوى العربية التفاوضية في قوة حقيقية واحدةتمكن الدول العربية من اتخاذ مواقف إستراتيجية فاعلة لحماية مصالحها المائية، والحصول على حصة عادلة من الموارد المائية المشتركة مع الدول المجاورة تتلاءم مع احتياجاتها المائية الفعلية اللازمة للتنمية الزراعية ولمختلف الاحتياجات الأخرى.

ومن هذه المجالات: توسيع القاعدة الإنتاجية العربية بكل أبعادها، وارتياد الأنشطة الإنتاجية الزراعية والصناعية القادرة على الوفاء والنهوض بالاحتياجات التنموية العربية على نسق تكاملي، بما يؤدي في النهاية إلى رفع مرونة استجابة العرض لتغيرات الطلب، والتحول من اقتصاد متقلب يعتمد على المواد الأولية والطبيعية، إلى آخر مستقر ومتنوع، قادر على خلق فرص عمل جديدة قادرة على استيعاب العاطلين عن العمل والخريجين الجدد.

وهناك أيضاً مجال آخر يتعلق بتعزيز مشاريع الربط الضرورية لتوثيق الأواصر التكاملية، في مجال الكهرباء والاتصالات والطرق، وغيرها من المجالات المفعمة بالإمكانيات الكبيرة القادرة على تعجيل الخطوات التنموية العربية بما يتلاءم ومتطلبات الدول العربية وإمكانياتها.

ودعا مسعود في هذا السياق إلى تفعيل منطقة التجارة الحرة العربية الكبرى التي أقيمت عام 1997، لكونها وسيلة مهمة لتجديد الالتزام بالتكامل التجاري بين الدول العربية، إذ ستساهم في تشكيل سوق كبيرة لنحو 355 مليون مستهلك عربي، وستساعد على حفز نمو الشركات العربية التي تستطيع الاستفادة من وفرة الإنتاج، وخفض التكاليف بفضل إلغاء الرسوم الجمركية على جميع السلع ذات المنشأ العربي المتبادلة بين الدول الأعضاء، بالإضافة إلى تأثيرها في تسهيل انتقال الاموال بين الدول العربية، وجذب الاستثمارات العربية والخارجية الضرورية للتنمية، ودفع التجارة العربية البينية وتعزيزها.

كما دعا إلى تعزيز القطاع الخاص العربي، وربطه بمضمون التنمية، وتفعيله وتوسيع أنشطته، وتوجيه مواردهنحو مجالات أكثر إنتاجية، تساعدعلى تقليص الدور الذي يؤديه الإنفاق العام في تحريك النشاط الاقتصادي، مع ضرورة حث الجامعات على انتهاج سياسات تعليمية تعمل على تطوير المناهج والبرامج، وإعطاء الأهمية اللازمة لفروع الاختصاص التقني، والتدريب المهني، على نحو يجعلها مواكبة لاحتياجات القطاع الخاص ومتطلباته.

وكما يرى مسعود، لا بد من تطوير دور وفعالية العون الإنمائي العربي من خلال الصناديق الإنمائية العربية والوطنية والإقليمية،بما يؤدي إلى تحقيق مساهمة أكبر لها فيتوفير احتياجات التمويل لمشروعات الإنماء العربية، خاصة المشروعات المشتركة، في مجال تطوير استغلال الموارد الطبيعية والمياه والتنمية الزراعية، والمشاريع الريفية المندمجة الموجهة نحو إشراك المرأة في جهود التنمية، وخلق فرص إنتاجية جديدة للعمالة الزراعية.

ومن المتطلبات الضرورية للتحول نحو مستقبل أفضل للتنمية العربية، تطبيق برامج إصلاحية هيكلية جادة في المجال الاقتصادي مستمدة من داخل الدول العربية نفسها، تستهدف مواجهة الاختلالات والعجوزات المالية، وكبح تشوهات سوق العمل، ودعم التوظيف، وتعزيز الاستقرار الداخلي ومناخ الاستثمار، ومعالجة قصور النظم والإجراءات المتبعة في مجال مسؤوليات المالية العامة وعملياتها، وتطوير القدرة الإدارية لمواجهة متطلبات التنمية، واستخدام الموارد المالية بأعلى درجة ممكنة من الكفاءة، بالإضافة إلى تطوير نظم التعليم بما يتوافق ومعايير القرن الحادي والعشرين المحكومة بمبادئ علمية، وكثافة المعرفة، مع مواءمة مخرجاتها مع احتياجات سوق العمل المتغيرة والنمو الاقتصادي وبناء القدرة التنافسية.

وقال المحاضر إن هذا يعني أن الإصلاح الجزئي والانتقائي التي اهتمت به الدول العربية في السنوات الأخيرة أصبح غير كاف لتلبية مطالب الربيع العربي، ما يستدعي الأخذ بالإصلاح الشامل اللازم للتطوير والتغيير لكل الجوانب السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتعليمية، مع التأكيد على جودة واستمرارية هذه الإصلاحات، وخلق قوة دافعة لها من منظمات المجتمع المدني، مع الأخذ في الحسبان أن أولويات الإصلاح تبدأ باجراء إصلاحات في مجالات الحرية والديمقراطية والتعليم والثقافة، مع إعطاء عناية أيضاً لتحسين أداء المؤسسات الحكومية والعامة، والأجهزة القضائية.

وتابع مسعود: هذا يستوجب تصحيح الأوضاع الدستورية والتشريعية، لإرساء دعائم الحرية والديمقراطية، بما يحقق التعددية السياسية، وتداول السلطات، واحترام الحقوق كافة في الفكر والتنظيم والتعبير عن الرأي للجميع، ويحقق وجود قضاء مستقل، وحكومة خاضعة للمساءلة الدستورية والشعبية، وأحزاب سياسية بمختلف تنوعاتها الفكرية والأيديولوجية، وصحافة حرة، ودور أكبر للمجتمعات المحلية، وأن يقترن هذا بتحقيق أقصى قدر من الشفافية في الحياة العامة، بما يعني القضاء على الفساد، ويؤكد على الحكم الرشيد ودعم حقوق الإنسان وفق المواثيق الدولية، وفي مقدمتها المرأة والطفل، والأقليات الإثنية والدينية، وحقوق الضمانات الأساسية للمتهمين في المحاكمات الجنائية، وضمان المعاملة الإنسانية في تعامل سلطات الدولة مع مواطنيها.

• تأمين متطلبات التكامل الإنمائي العربي

ودعا مسعود إلى التسريع في تأمين متطلبات التكامل الإنمائي العربي، لأنها على جانب كبير من الأهمية في وقتنا المعاصر، وذلك لإزالة تداعيات الإحباط العامة التي يعيشها الانسان العربي، وتداعيات الخلل والتخبط التي تعيشها الدول العربية، ولمعالجة ما ترسب فيها من أخطاء متراكمة على مر السنين السابقة، ساعدت على جعلها أرضاً خصبة للبطالة والفقر والتطرف، وعدم الاستقرار الأمني الذي بدأ يمس دولاً كثيرة في المنطقة.

وقبل أن يختم محاضرته، قالمسعود إن الدول العربية مدعوة لمضاعفة جهودها في السنوات القادمة بقوة أكبر وكفاءة أعلى، لإحداث تشابكات بينها تساعد على ترسيخ درجات من التكامل تفوق في مقدارها وأبعادها واستمراريتها واستقرارها ماتم حتى الآن من تعاون وتنسيق محدود، وتظهر في تكتل اقتصادي كبير، ينسجم مع مصالحها الاقتصادية ومتطلباتها الاقليمية المستقبلية.

وربطَ بين حدوث ذلك وبين توفير إرادة سياسية قادرة على تنفيذ القرارات، وتحسين كفاءة الأجهزة والمؤسسات التي تتولى العملية الإنمائية، وإعادة ترتيب أولويات التنمية التكاملية، بما يحقق أفضل استخدام للموارد المتاحة، وتجنب الازدواجية في إنشاء المشاريع المحورية، وإقامتها على أساس تكاملي مشترك.

وختم مسعود بقوله: إن مستقبل الربيع العربي سيعتمد على مستقبل التنمية العربية، وهذا يتوقف على مدى تنفيذ الأدوات الأساسية للإصلاح القادرة على إحداث تغييرات أساسية وجذرية في كل المجالات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وفي زيادة روابط الصلة التكاملية بين كل أطراف الوطن العربي.

• حوار ومداخلات

• العلمي: "زواج كاثوليكي"

قالد.مهدي العلمي إن الدول العربية تشهد منذ استقلالها في الخمسينات "زاوجاً كاثوليكياً" بين السلطة السياسية والفعاليات الاقتصادية، بحيث أن السلطات السياسية في الدول العربية تريد أن تحشر أنفها في الأمور الاقتصادية. واقترح العلمي"إجراء طلاق بائن بينونة كبرى" بين الاقتصاد والسياسة. وأضاف: "آن الأوان لأن يتنحى رجال السياسة جانباً، وأن تعطى العجلة الاقتصادية إلى التكنوقراط الاقتصاديين الأمناء على مصلحة الأمة العربية من الناحية الاقتصادية".

• د.فايز الخصاونة : "الحديد أرز الصناعة"

وردّ د.فايز الخصاونة على فكرة الطلاق بين السياسة والاقتصاد، بقوله إن دخل الفرد في كوريا كان أقل من دخل الفرد في أوغندا، فتدخلت السياسة في الاقتصاد، وخدما بعضهما بعضاً، فرفع رئيس كوريا شعاراً بأن الحديد هو أرز الصناعة.
وقال: في الأردن يعيش 80 % من السكان في عمان واربد والزرقاء، و6,5 % يعيشون في 80 % من مساحة الأردن، فلا بد من إقامة مدينة متوسطة في الجنوب، عدد سكانها من نصف مليون إلى 750 ألف نسمة.

• د.بسيسو:الاستفادة من النظام الاقتصادي في الإسلام

وقال المستشار الاقتصادي د.فواز بسيسو إن المحاضر قدم جولة مؤلمة، ولكنها ضرورية حول التنمية العربية وتطوراتها،محدداًوسائل الخروج منها.

وأضاف: "أشار د.سميح مسعود إلى أن المحدد الرئيسي للخروج من الأزمات العربية الاقتصادية المتتابعة على مستويات الوطنية والإقليمية، مرهون بالأنظمة السياسية بوصفها المحدد الرئيسي للتنمية والتطور الاقتصادي. كما أشار إلى أن مستقبل ثورات الربيع العربي مرهون بمفهوم التنمية، وأوضح أن التنمية البشرية هي التنمية الإنسانية بجوانبها السياسية الاقتصادية والاجتماعية".

وتابع: هناك معايير تشكل مرجعاً أساسياً لتقييم المستقبل والحكم على الأنظمة السياسية والاقتصادية والاجتماعية.. أما مكونات هذه المعايير فهي ترتبط بالالتزام بجدية وبإرادة حقيقية، بمفهوم التنمية الإنسانية المتكاملة، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً. فلا بد من الاستفادة من أساسيات النظام الاقتصادي في الإسلام، الذي يتضمن العديد من الأسس التي تضمن الرشادة في النظام السياسي والاقتصادي، والاستفادة منه فيما يتعلق بحقوق المواطنين صحياً وتعليمياً وإسكانياً، وكل ما يتعلق بمشاكل الفقر والبطالة.

وأوضح أن الإسلام يتمتع ببعض التطبيقات التي يُستفاد منها في صياغة نظامنا الاقتصادي المستقبلي، والتي تمكنت من معالجة الانحرافات الهيكلية في السوق الحرة من خلال تدخلات رشيدة.

وختم بقوله إن الصراع العربي الإسرائيلي ما دام لم يُحسم، وما دامالضعف العربي مستمراً،وما دامت الديون على الدول العربية تتصاعد، ويزداد الاعتماد على المساعدات الخارجية.. فستبقى التنمية العربية نازفة مع كل الجهود المبذولة لأجل تحقيق هذه التنمية.

• الموسى: الديمقراطية أساس التنمية

وقال أحمد الموسى إن الديمقراطية أساس التنمية، وإننا ليس لدينا قدرة على إنتاج مفاهيم عميقة ومدركات وقيم. فالديمقراطية ليس قراراً يُتخذ، بل هي مران ومسايرة حياة وترويض أصيل، وله قيم قديمة وحديثة ومرتقية. عندما نُقيّم ذاتنا ونعرف ما لنا وما علينا، تصبح الأمور أفضل.

• الخريشا:تقييم خطط التنمية

وقال الباحث السياسي خالد الخريشا إن هناك عناصر مهمة جداً لنجاح عملية التنمية تتمثل في الديمقراطية والعدالة والمساواة.وأضاف أن من وضع اقتصاديات الدول العربية أشخاص تربوا وتعلموا في الخارج، ومع أنهم تبوأوا مناصب تخطيطية وأصبحوا أصحاب قرار، إلا أنهم يعملون بتوجيهات من الخارج لتفشل كل المحاولات والسياسات، ونجد من هؤلاء الأشخاص من استغل منصبه ونهب وسرق، وهرّب الأموال وأودعها في بنوك في الخارج، وحرم الشعوب والأوطان من استثمارها في مشاريع تفتح مجالات للعمل وتزيد من الإنتاجية.

وتابع: لقد جرّبنا خطط تنمية في الأردن (1973-1974)، وكان يشرف عليها أردنيون، درسوا في الخارج واعتنقوا المذهب الاقتصادي، وجاءوا لوضع خطط تنمية عدة، وكانت فاشلة، وربما كانوا موجَّهين لكي تفشل، فمن غير المعقول أن تضع خطة لمدة 3 سنوات من دون تقييم، ومن دون أن تعرف: هل نجحت أم فشلت؟ وكيف يمكن معالجة الخطة التالية، وتجنب الأخطاء في الخطة الأولى.. إلى أن انتهينا سنة 1989، إلى الأزمة الاقتصادية في الأردن، التي أوقعت البلد في كارثة وجلبت لنا صندوق النقد الدولي، فوضعوا برنامج التصحيح الاقتصادي الذي كان عبئاً ثقيلاً قاسياً تحملّه الشعب لسنوات عدة.

وتساءل الخريشا: ما موقع صناعاتنا وما مدى قوتها أمام الصناعات الأوروبية ودول جنوب آسيا وأميركا واليابان.

وتابع: التكنوقراطيون استمروا في العمل والتخطيط، ووجهوا الوطن إلى أسواق مثل السوق المالي، ومحفظة الأوراق المالية.. الخدمات المساندة ليس لها نتاج ذو قيمة، حتى إن القيمة المضافة في صناعاتنا ضعيفة جداً، وليس لها أهمية لجلب إيراد جيد للاقتصاد.

• برقان: تحدّي الطاقة في الأردن

قال د.باسل برقان إن من تحديات التنمية العربية، الفساد وعدم الشفافية في القرارات والسياسات والمشاريع التنموية، وعدم المحاسبة،وغياب الاستقرار السياسي والتجاري والتشريعي..مضيفاً أن هناك خططاً للدول الغربية لهدم التنمية العربية.

ولفت إلى تحدٍّ آخر هو الطاقة في الأردن، فالدول النفطية سينضب بترولها بعد 40 سنة، والغاز خلال 50 سنة، ونحن في الأردن نتوجه إلى الطاقة النووية، بينما تركت الدول الغربية هذا التوجه وأصبحت تفضّل الطاقة المتجددة والطاقة الشمسية، فنحن عندنا 330 يوماً مشمساً، وألمانيا لديها 80 يوماً مشمساً، ورغم ذلك يتجهون هم إلى إنتاج الطاقة من الخلايا الضوئية وأشعة الشمس، ونحن لا نفعل ذلك.

• عتيقة:كوارث كبرى أوقفت مسيرة النمو العربي

وقال الدبلوماسي د.علي عتيقة إن المحاضر ذكر أن أحد المعوقات هو تجزئة الوطن العربي وانقسامه سياسياً ومادياً وثقافياً. الدول العربية 21 دولة، كل منها لها خلفياتها، وحصلت على استقلالها في ظروف مختلفة عن الأخرى، وإنجازات هذه الدول متباينة. فعندما نتكلم عن التنمية العربية والاقتصاد العربي نتكلم عن شيء وهمي وافتراضي، وغير موجود.

وأضاف أن هناك ثلاث مصائب مرت على الوطن العربي، رغم وجود أكثر من 800 مشروع عربي مشترك في كل المجالات، استُثمر فيها ما يقارب 40 مليار دولار، فما الذي أوقف هذه العجلة؟

وتابع: كنا متحمسين في السبعينات. جاء أحدهم وكان يقود المقاومة ضد إسرائيل، وترك الفريق وعقد معاهدة مع دولة عدوة ومحتلة، وتبادل معها السفراء، والنتيجة كانت شللاً عربياً. لقد ضُرب العمل العربي المشترك في الصميم.

أما الكارثة الثانية فكانت بعد ذلك بسنة، وتمثلت في أن رئيس دولة عربية نفطية قرر تغيير نظام الحكم في إيران، ثم اندلعت الحرب العراقية الإيرانية سنة1980 وأكلت الأخضر واليابس، ما أدى إلى انهيار أسعار النفط في منتصف الثمانينات.

الكارثة الثالثة من رئيس الدولة نفسه، عندما قرر احتلال الكويت، وبالتالي دمّر ما تبقى من ثقة بين الدول العربية.

هذه الكوارث الكبرى هي التي شلّت وأوقفت مسيرة النمو العربي الذي بدأ بعد العام 1973.

• تعقيب مسعود: تعزيز المساءلة والمحاكمة والشفافية

قال د.سميح مسعود إنه لا يمكن فصل السياسة عن الاقتصاد، ولكن يجب تعزيز المساءلة والمحاكمة والشفافية، ومن خلال مؤسسات المجتمع المدني نستطيع أن نساهم في صياغة الخطط الإنمائية وفي تصحيحها وتنفيذها وتقييمها وفي محاسبة من يخرج عن الخط المستقيم المرسوم.

وأضاف أن المهم عند تعريف "التنمية" الخروج من منطقة عدم نمو إلى نمو في استخدام الكفاءات والموارد المالية والطبيعية، وأن تدار بطريقة عصرية جيدة ومنطقية.

وتحدث عن حاجتنا إلى مجابهة التحديات الكثيرة، سياسية واجتماعية وثقافية، وفي مجالَي الشفافية والفساد، إيماناً بضرورة الاستقرار التجاري والسياسي والتشريعي.

ولفت إلى دليل المشروعات العربية المشتركة الذي أعده بتشجيع من د.علي عتيقة، مضيفاً أن المشروع العربي المشترك عندما ينجح يكثر آباؤه، وعندما يفشل يتبرأ منه الجميع.

وقال إنه وجّه رسائل واستبانات إلى المشاريع العربية المشتركة المهمة، فكانت الإجابات غريبة، وفحواها:"نحن لسنا مشروعاً مشتركاً".

 

لقراءة المزيد انقر هنا