مستقبل الثقافة العربية ما بعد الربيع العربي

29/07/2012

لحظة تاريخية، ما نزال نعيش فيها ما اصطلح على تسميته بالربيع العربي؛ أنتجت ثقافة جديّة جديدة غير الثقافة التي كانت سائدة،.. الثقافة التي كثيراً ما وجهنا لها الاتهام بأنها جامدة ومستكينة لطروحاتها غير البناءة.

 

الثقافة العربية، اليوم، وضعت على المحك؛ محكّ هذا (الربيع)؛ حيث الإنسان مصنوع بها صانع لها في الوقت ذاته، تتكون بظروفها الطبيعية والتاريخية والاجتماعية والسياسية الأكبر من كل الأفراد، بصفتها وسيطاً ذهنياً، يتشكل به التفكير، ويتحدد وفقه الانتماء، وتتكون من خلاله الميول، وتؤطّر عن طريقه العلاقات، وتحفز في سياقه الدوافع، وتقرر به الأهداف.

فالرهان المهمّ، عند الأمين العام لمنتدى الفكر العربي د.الصادق الفقيه، الذي استضافه مركز الرأي للدراسات وقدّمه وزير الثقافة د.صلاح جرار،.. هو على ثقافة المستقبل التي تتفاعل مع الثقافة الكونية، لتلبية حاجةٍ ملحّة في بلورة القيم الكونية على قاعدة ندية تحترف وتحترم ثقافة الآخر من منظور متساوٍ ضد المخاطر المهددة للإنسان.
من هنا كان اليقين لدى المحاضر بأنّ مشاكل الأمّة لن تحلّ إلا بالديمقراطيّة؛ بشرط أن تصبح خلقاً متأصلاً، ومنهجاً راسخاً، وطريقاً قويماً مضبوطاً ومدققاً، يُحتكم إليه عند الخلاف، وتعتمد نتائجه عند الاختلاف.

 

مركز الرأي للدراساتfaqeh

 

أعدها : هادي الشوبكي

 

حررها: إبراهيم السواعير

 

تموز 2012

 


السياسي والمثقف

 

الفقيه يعرب عن أمله بألاّ يسقط أيٌّ من القوى السياسية العربية في تحدي الامتحان الديمقراطي العربي. وفي مقابل ذلك؛ فإن العنصر الأهم يبقى في الوعي السياسي للفاعلين الشباب الذين يجب عليهم تعميق ونشر مقاربتهم للمفاهيم المرتبطة بالوطن والمواطنة والمدنية. ومن وجهة النظر هذه، يعتقد الفقيه أن حقبة جديدة قد بدأت في العالم العربي والإسلامي.

 

حدثٌ كبير، بحجم (الربيع العربي)، ما يزال يتردد صداه، ويتعمّق تأثيره، لا بدّ من حوار حوله؛ يثريه، ويقرأه مفهوماً جديداً، أعمّ من مجرد إحلال نظامٍ بآخر؛ مفهوماً يتعلق بتجريدات ثقافتنا ومعنى وجودنا، فنفهم- كما يرى الفقيه- الحاضر بشكله المغاير الذي ننفذ به إلى مستقبلنا ومستقبل ثقافتنا العربيّة، لنفهم المعنى المهم، معنى الوجود.

 

حراكٌ، في تغييره وتحرره من قيود التنظير والحماسة، وادعاء امتلاك الحقيقة، أو المقدس، أو كليهما معاً، يرينا صورة انتهاء صلاحياتٍ، لم تغيّر أوضاعها، أو تتصالح مع الثقافة، فاتخذتها عدوّاً، لتظلّ على خصامٍ مع السياسيّ المتسلط، خاصةً في بلدان تحولت فيها الدولة الوطنية إلى أنظمة استبدادية، أفرزت طلاقاً بين المثقفين والسلطة.
ليست الثورات العربية المستمرة الآن بعيدةً عن الثقافة؛ بل هي فعلٌ ثقافيٌّ بالدرجة الأولى، كما أنّ المثقفين بكل أشكال طيفهم لم يكونوا بعيدين عنها، ويدلل الفقيه بمصر، تحديداً، حيث الرموز الثقافية المستقلة من فنانين مبدعين وتشكيليين وموسيقيين شاركت في فعاليات الثورة. فكلّ أوجه الثقافة، كما وجد الفقيه، تأثرت بالأحداث العربية الأخيرة سواء في الدول التي شهدت الثورات والدول التي لم تشهدها، وهو ما ترك تأثيراً ليس، فقط، في الأنظمة السياسية، بل وفي حياتنا الاجتماعية والاقتصادية، بطبيعة الحال.

 

المهمّ الذي كشفت عنه المحاضرة، التي دار في إطارها نقاش متصلٌ نخبوي، أنّ الثورات أثبتت أن الثقافة العربية التي بدت دوماً عصية على التغير المحسوس، هي ثقافةٌ من الممكن أن تتغيرح بل هي تحتاج، فعلاً، إلى تفكيك وإعادة تركيب في الكثير من مقوماتها، والدليل أنّ أحداً، كما يرى الفقيه، لم يكن يتوقع يتوقع حدوث ثورات بهذا الحجم.
وهذا ليس معناه، عند الفقيه، أن الواقع في العالم العربي كان بخير، ولكن عدم التوقع ناتجٌ عن ثقافتنا الاجتماعية المتوارثة التي اتصفت بالجمود، ولم تكن تؤمن بالتغيير. وبالرغم من أن الثورات لم تنته بعد، فإن البلدان التي شهدت ثورة والتي لم تشهد في المقابل هي اليوم في حالة تشكل عقلي وفكري واجتماعي جديد ربما يفسح المجال لظهور مجتمع عربي آخر يقوم على أسس بنيوية مغايرة لتلك التي عرفناها على مدى عقود طويلة.

 

العرب، أنفسهم، ظلّوا، كما يجد الفقيه، يواجهون معركة مستمرة بين التقدم إلى الأمام، إلى المستقبل، وضعف القدرة على دمج المهارات المستحدثة المكتسبة، في ظلّ الأفكار والمثل العليا التي تعيش تصورات الماضي وتقاليده... ناهيك، كما يقول المحاضر، عما تعرضت له الثقافة العربية من ضغوط هائلة واجهتها؛ مصدرها من الأنظمة السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة، التي كانت قائمةً، مثلما حوصرت بتحقير العالم الخارجي لمساهماتها الحضارية.

 

التحوّل المجتمعي

 

الآن، دخل المجتمع العربي مرحلة غير مسبوقة من التحول المجتمعي؛ تتميز بالرغبة العارمة في استهداف التغيير الثقافي، والسياسي والاقتصادي، بالرغم من عمق التحديات الأمنية وحالة عدم الاستقرار السياسي واشتداد التعقيدات، وهي تعقيداتٌ، كما يراها الفقيه، تهدد بقاء الثقافة العربية على قيد الحياة. ومن الصعب جداً فهم الثقافة في غير الواقع الذي نشأت فيه، كما يصعب إجراء أي تحليل وتقييم علمي بالنظر إليها من الخارج؛ إذ هي بحاجة لأن توضع في سياقاتها المناسبة؛ التاريخية والحضارية، قبل محاولات دراستها وتقييم دورها في المجتمع.

 

بيد أن المجتمع العربي يواجه، كما يرى المحاضر، التحدي المتمثل في تسخير المهارات الإبداعية في المجتمعات المحلية؛ ولا يحسن كثيراً تحويل المعرفة الفردية لتعزيز المعرفة الجماعية، بالرغم من أن الثقافة والقيم العربية لهما أثرهما الفعال في تشكيل الروح الفردية للتنمية؛ بمعنى أنهما يساعدان على تشكيل آمال الناس اليومية، والمخاوف، والطموحات، والمواقف والأعمال، وهما أيضاً يؤثران في الجوانب التكوينية لأنهما غالباً ما يقدمان المثَل الأعلى الناس، ويشكلان مصدر إلهام أحلامهم لحياة الوفاء لأنفسهم وللأجيال القادمة. يصف الفقيه ثقافة المجتمعات العربية بالديناميكية، مع القدرة على التقدم إلى الأمام؛ إلى المستقبل المعولم.

وفي شأن الديمقراطية، ينقل الفقيه عن علماء السياسة ما يقولونه من أنّه من أجل أن تصل الديمقراطية لتحقيق النجاح، لا بد أن يكون لديها شروط معينة، من بينها وجود الطبقة الوسطى الواعية والواثقة، والصحافة الحرة، وثقافة التسامح، والتعددية السياسية، والانتخابات المنتظمة، التي تؤدي إلى إدارة التداول السلمي للسلطة في المجتمع.

 

في السياق، يصحح الفقيه ما يمكن أن يُشاع؛ فليس المقصود بالديمقراطية تحقيق الوحدة، ذلك لأن الحرية والمساواة هي التي تشجع وتحاول حماية الديمقراطية، إذ هي وصفة للتنوع الثقافي والاجتماعي والسياسي، لا وصفة للوحدة السياسية، أو الانسجام الاجتماعي الكامل، أو التجانس الثقافي التام.

 

ومع ذلك، يتم في الصراع الديمقراطي حل مشاكل المجتمع، وهو ما يُعدّ علامة على حيوية المشاركة، من خلال الحوار والوسائل السلمية، التي تستند في معظمها إلى توافق في الآراء، هو الحل الوسط، الذي يكون مقبولاً من جميع الأطراف المعنية، لأنه يلبي المقاصد العامة لوحدة الهدف في هذا المجتمع أو ذاك.

 

هذه الديمقراطية تمثل للثقافة العربيّة قضيةً كبرى ومعقدة، وبالتالي، كما يرى الفقيه، لا يمكن معالجتها في فترة قصيرة تبدأ وتنتهي بسقوط الأنظمة الدكتاتورية الحاكمة. فهي تتطلب بذل جهود فكرية لخلق ديمقراطية تؤسس نفسها كنظام سياسي للحكم، يستوعب تحولات القيم الاجتماعية والتقاليد الثقافية، التي ينبغي أن تعترف أن الآخرين يقفون معنا على قدم المساواة في الحقوق السياسية وغير السياسية.

 

الحاضر المأزوم

 

إذا نجحت الديمقراطية قيمةً اجتماعية وثقافية، فإنها سوف تنجح نظاماً سياسيّاً، وإذا ما فشلت فإنّها بالتأكيد ستفشل. يضيف المحاضر أنّ من النتائج المستخلصة من بدايات التغيير، هي أن هناك قوى جديدة بدأت تتسنم الهرم السياسي العربي، وإذا كانت الاتجاهات الحالية، الثقافية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية، في الدول العربية ستستمر دون تغيير لمدة العقدين أو الثلاثة عقود المقبلة، فإن القوى المحافظة ستواصل تقدمها السياسي، بل من المرجح أن تحقق نصراً حاسماً على نظرائهم في القوى السياسية الليبرالية الأخرى لسنوات تأتي. وإذا كان لهذا أن يحدث، فإن على الليبراليين إدارة نقاش حقيقي لتجديد القدرة على التواصل مع الواقع، مثلما عليهم أن يستمروا في المطالبة السلمية الديمقراطية حول مزيد من التحول الثقافي والاجتماعي والاقتصادي، الذي قد يوفر لهم فرصاً أفضل للمشاركة في المستقبل.

 

متى نشعر بأن المستقبل هو المستقبل؟!.. سؤالٌ طرحه الفقيه؛ مهتماً بأن سؤال المستقبل إنما هو عنصر تكويني في الوعي العام وعلامة عليه، سواء في حرصه على الارتقاء بالإنسان من مستوى الضرورة إلى مستوى الحرية، أو الانتقال بالمجتمع من التأخر إلى التقدم. فالمعطى الآن هو أن (مستقبل النشاط الثقافي العربي في طريقه إلى ازدهار، ما لم يسيطر على العقل العربيّ الاعتزاز المستمر بالماضي، أو الانعزال عن الثقافات المختلفة!).

 

فالمستقبل هو حالة انتقال قلقة من حاضر مأزوم إلى غد غير معلوم، مما يجعل الخيال العربي في العقود القادمة معلقاً على رؤىً وتصورات تبدو أحياناً غريبة ومثيرة للاهتمام، يواصل الفقيه، وذلك بسبب كثير مما لدينا الآن من خلفية ثقافية ماضوية؛ حيث لا يزال الكثير من الناس يتصرفون كما كان يفعل آباؤهم الأوّلون، "هذا ما وجدنا عليه أباؤنا"، ويفعلون الآن كل ما من شأنه أن يؤكد هذه الحقيقة التاريخية؛ لأنهم يحبون هذا الماضي وكأنهم منه، ويحتفون بكل ما فيه وكأنهم صانعوه، ولا يشعرون أنهم جزء من الحاضر، ويتوجسون خيفة من كل ما هو في المستقبل. ومع ذلك، أظهر الحراك العربي أنه سيأتي وقت، تتغير فيه ثقافة الإنسان العربي، ويراجع فيه نفسه، ويتمكن من أن يحدث تغييراً جذرياً في فهمه وسلوكه، وبشكل دائم.

 

إننا نتطلع إلى أن نمتلك في المستقبل القدرة على تبادل الأفكار وأحلامنا مباشرة دون وسيط من وكلاء النظام العربي القديم. يتعجب المحاضر: ونحن نفهم حقاً، من دون الحاجة إلى التخمين، من أين نحن قادمون؛ من عالم الحقيقة العربية، لا عوالم الواقع الافتراضي الذي صنعته لنا الثقافة الحداثية. إذ يمكننا أن نتصور بسهولة كبيرة منحى هذا الشعور، ومع ذلك - فإنّ الربيع العربي بالتأكيد سوف يغير حياتنا وثقافتنا؛ ففي التحرر من حالة الانغلاق الثقافي والاحتقان السياسي والتململ الاجتماعي تعزيز لقدراتنا المعرفية، فثقافتنا ستخضع قريباً جداً لتحول جذري، غالباً ما يعني أننا سنصبح أكثر حكمة، لو تقصّدنا منابت هذه الحكمة.

الحراك العربي الراهن أبان عن الحاجة الملحة في المستقبل لعدد من المطالب، تأتي في طليعتها أولوية تقوية مساحة التوافق في مجتمعاتنا والمزيد من التأكيد والاتفاق على المشترك بين مختلف مكونات وقوى وتيارات الأمة، وهذا مطلب، كما يؤكّد الفقيه، يرتبط بضرورة الاجتهاد الجماعي في صياغة مشروع حقيقي وجامع للتغيير؛ يستوعب الإمكانات والطاقات ويكون ثمرة لقراءة شاملة ومستوعبة للواقع المحلي والعالمي؛ مسألة أخيرة تتعلق بضرورة العمل على "عودة السياسة" للمجال العام، فرغم أن المبادرات الراهنة كانت مطلبية واحتجاجية بالأساس، فإن ذلك لا يغني عن عودة السياسة بمعناها الشامل الذي يعني تكريس ثقافة العمل العام كمكمّل ضروري إلى جانب الخطاب الاحتجاجي.

 

هذا التشكّل الجديد لبلدان "الربيع العربي" جعلها تمر بحالة تشكل فكري وثقافي جديد، وهناك تساؤلات عدة حول توقع مستقبل الثقافة العربية في خضم التحولات العاصفة التي نشهدها اليوم، وإمكانية تحرر الفكر من رواسب الماضي... يقول المحاضر، ونظراً لما أنتجه هذا الواقع من أسئلة مستمدة ومستلهمة من أفق (انتظارات) الثقافة العربية، فالثورات العربية مليئة بالتناقضات، يسعى بعضها للقطيعة مع الماضي، ومنظوماته الاستبدادية التي عمّرت طويلاً، وبعضها ما يزال.

 

وهو صراعٌ يقوم الآن بين جيل جديد يملك آليات جديدة للعمل والفعل وجيل قديم يعيش بعقليات قديمة وماضوية؛ فيجتهدان في سبيل من يكسب جولة المستقبل. صراعٌ يراه الفقيه،مع أهميّته، يحتاج وقته حتى يتضح بعض معالمه الأساسية، إذ أنّ الربيع العربي ما يزال يتفاعل، ولم تنجز الكثير من مهامه المنوطة به بعد، وخاصة المتعلق منها بالثقافة.

 

الأسئلة الملحة التي يوجب الفقيه طرحها تتعلق بكيف نقرأ مستقبل الثقافة العربية في ضوء هذه التحولات والمتغيرات الجديدة، مع التركيز على التحول الثقافي، قبل الاجتماعيّ والسياسي، ومع أخذ التناقض الذي كان قائماً بين السلطة والإبداع على محمل الجد؛ حتى لا تنتهي هذه العلاقة في العهد الجديد إلى الافتراق. وهي أسئلة تدور في رحاها أسئلة، من مثل: عن أية ثقافة نتحدث عنها الآن؟!..أهيَ الثقافة العربية أم العالمية؟!.. أم أننا نتحدث عن معالم ثقافة جديدة؟!

 

أية ثقافة عربية للمستقبل العربي في ضوء المتغيرات؟!.. يسأل المحاضر، وأيّ مستقبل للثقافة العربية في ضوء المتغيرات الاجتماعية الجديدة؟!.. بل كيف يمكن التعبير عن واقع وأحداث ما تزال تتنامى؟!..وهل هذه التحولات الحاصلة الآن سيكون لها من أثر إيجابي على الثقافة؟!..هل خلخلت هذه الثورات المسلمات والذهنيات القديمة؟!..وهل سينعكس هذا على الخطاب الإبداعي والثقافي في المستقبل؟!

 

براغماتيّة الثقافة

 

الانضباط في الحراك العربي هو من الأهميّة بمكان؛ وبوجود براغماتية الثقافة العربية التي يمكن أن تستوعب كل مطلوبات التغيير، على اتساع نطاقها، يمكن اختبار النظم الأخلاقية القائمة من خلال مناشدة مشاعر التزام أخلاقي جديد، فضلاً عن تطوير التجارب الحسية السلوكية للإنسان العربي. يقول المحاضر.

 

تتطلب التحولات، التي يجتازها العالم العربي، سواء في مجال الثقافة، أو السياسة، أو في المجال الاجتماعي الوضوح في الرؤية والشمول في المعرفة، لأنها تمثل المظهر الأمثل لفكر الإنسان، ووجدانه، وتطلعاته في الحياة، ورغبته الدائمة في التطور والتمييز. فالثقافة وعي ورؤية وقيم تترجم جهد الإنسان الخلاق النزاع لإحسان وإجادة التغيير، لأن الربيع العربي هو نهاية الابتزاز السياسي وفرصة جديدة لهذا التغيير.

 

بيد أن على ثقافة المستقبل، كما يرى الفقيه، أن تعالج القضايا المركزية؛ الفلسفة، العلم، الدين، الفن، التاريخ، القانون، السياسة، والأخلاق، من وجهة نظر شمولية، فنجسر الهوة التقليدية بين الحقيقة التحليلية والتركيبية، فضلاً عن توفيقنا بين الإيمان الأخلاقي والعلمي.

 

نحن نعيش حالة تفاؤل في عصر القلق الثقافي، كثافة التحديات، تعادل الطموحات والمخاوف، أمل الوحدة ومخاطر التجزئة، ويضيف المحاضر، ومنا من يرى أن الربيع العربي هو ورطة سياسية كبيرة. لهذا يجب الآن وأكثر من أي وقت مضى بناء جبهة ثقافية عربية موحدة لكي تعمل على مزيد من توطين المقاربات التاريخية مع مستحدثات التغيير. وذلك، كما يرى الفقيه، من أجل التحرك إلى الأمام في المستقبل المعولم، مثلما يجب على المجتمع العربي أن يتيح الحرية الفردية في الاختيار على جميع المستويات في المجتمع، وذلك بإزالة الممارسات الموثوقة التي فيها إكراه للأفراد على اتخاذ الخيارات؛ ثم هي ممارسات لا يسمح لهم فيها الاختيار بمحض إرادتهم؛ فحرية الاختيار هي حق أصيل في الحقوق الأساسية لجميع البشر.

 

سيرورة.. وصيرورة

 

نحن نحتاج إلى سيرورة تؤثر على فعل يمهد لتغيير التاريخ، رغم أن الصيرورة التاريخية ستأخد أمداً، يقول الفقيه؛ مهتماً بالشباب ضامناً لهذه السيرورة واستمرارها، فهؤلا عليهم، فقط، أن يدركوا الصراع بين سيرورة ثورية تحتاج إلى الاكتمال والنضج استناداً الى قوة الشباب، وصيرورة وطنية ماضوية تريد أن تبحث عن خلاصها في الماضي وملابساته.

 

الفقيه يشترط إدراك الأولويات والأسـس الاستراتيجية لعملية الانتقال من السلطة السياسية إلى السلطة الثقافية، مثلما يؤكّد أهميّة استبدال الانطباعات عن الثقافة العربية؛ الانطباعات التي تميل إلى التغاضي عن حقيقة أن هذه الثقافة ظلت تشتمل على القيم والتقاليد وتشكل القناعات والمواقف، رغم أن بعض هذه القيم والتقاليد هي الأكثر مقاومة للتغيير.

 

من ناحية أخرى، هناك ضرورة لترسيخ الخصوصية الثقافية العربية لاستنهاض القوى القومية التقليدية، والدعوة لتكثيف التوعية من أجل تطوير (ثقافة المقاومة)، منادياً بالعمل من أجل وضع خطة شاملة للثقافة العربية التي تتوافق مع متطلبات العصر.

 

لا بد أن يعمل المثقفون والمفكرون على تبني رؤية شمولية في تطوير منظومة معرفية تؤدي إلى تآزر مكونات المجتمع الفاعلة، وتناسـق خططـهـا، وتوثيق روابطها، وتفاعلها مع الأنشطة السياسية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية، وتوجيـه وسـائل التوعيـة المختلفة لتعميق إدراك أفراد المجتمع عامة بالدور الحاسم للثقافة، واعتماد اللغـة العربيـة مرتكزا رئيسا لتنمية مكونات هذه الثقافة.

 

مما يهتم به المحاضر تفعيل دور مؤسسات التعليم والبحث والتدريب ورفع كفاءتها اتساعـاً وتنوعـاً بما يتفق واحتياجات التقدم العلمي والتقنـي المنشـود، والتأكيد على استمرار مواكبتهما للتطورات العلمية والمستجدات التقنية العالمية وتحدياته. وتطوير المناهج العلوم الاجتماعية والإنسانية نحو مزيد من فهم الواقع العربي، بمـا يفضـي للاستشراف المستقبلي.

 

ولا بد من تهيئة السبل الكفيلة لتعزيز القدرات الوطنية وتطويرها في كل بلد عربي؛ في البحث العلمي وفي التطوير التقني، وتنسيق جهود هذه القدرات، وضمان تلبيتها وتكاملها مع احتياجات المجتمع ومتطلبات التنمية المستدامة .. يقول الفقيه، وذلك من خلال إيجاد آلية مناسبة وفعالـة تشـارك بها الجهـات البحثيـة والمستفيـدة فـي القطاعين الحكومـي والخـاص، وتعمـل علـى تنسيـق جهـود المؤسسـات البحثية وتكاملها.. ومن خلال إيجاد الآليات والوسائل الكفيلة بالاستفادة من العلماء والباحثين المتميزين في تطوير قدرات الأمة للبحث والتطوير في مجالات استراتيجية رائدة.

 

من المهم العمل على تبني اتجاهات إيجابية في الثقافة تلبي متطلبات أولويات الأمن الإنساني الشامل والتنمية المستدامة، ولا بدّ، عند الفقيه، من جعل الثقافة الهوية ذات ارتباط وثيق بقضايا التنمية والمعاش، بمعنى الربط بين الثقافة والإنتاج والأبعاد الاقتصادية الأخرى.

 

الثقافة والهويّة

 

هذه المتطلبات يضيف إليها المحاضر شرط تمكين السلطة الثقافية في المجتمعات العربية، وذلك بإيجاد مقاربة جديدة لدور المثقف في الحياة العامة؛ لأن انطلاق الفكر في مجال الحياة، هو الوسيلة الكبرى للتثقيف، وذلك هو سر تجدد مفاهيم الثقافة، وتطورها وشموليتها. ولا بد أن يستمر المثقف في الاعتزاز بهويته لأنها مصدر قوته، يقول الفقيه، وأن يرفض الرضوخ للظلم وأن يرفع رأسه بعزّةٍ مطالباً بحقوقه.

 

ينبغي رفض المقاربات الغربية في تجربة الانتقال الديمقراطي، وينبغي التوجه إلى مقاربة سياسية بالأساس: الثورة، هي علاقة قوة؛ فتتطلع قوى سياسية جديدة إلى قصم ظهر القوى السياسية القديمة، التي تقاوم هي أيضاً، ولها بشكل عام أدوات المقاومة ووسائلها. ويضيف الفقيه إلى ذلك التصالح مع المكونات الإسلامية والعروبية والحداثية بوجودها الطبيعيّ في المجتمعات، ووقف الحملات الإعلامية المتوترة.

 

أما الاهتمام بعالم الفكر بعد الثورة فهو في غاية الأهمية؛ بوصفه مصدر الاختلالات، التي قادت للانزلاقات التاريخية، وأسست للوضع السابق. وقد يدمر الفكر المتخلف الفرصة الحاضرة، كما يقول الفقيه، مضيفاً أنّ تركة الماضي ثقيلة؛ لهذا ينبغي الاشتغال بفرص الحاضر والمستقبل، وأن تركز الجهود لمعالجة احتقانات الماضي، وتعمل لصناعة المستقبل.

 

علينا أن نتوقع ظرفاً صعباً يجتاح العالم العربي، لكن يمكن ترشيد التطورات أكثر عن طريق الحوار الجاد بين مكونات الوطن الواحد، وعدم الخروج عن سكة الحوار المتبادل، والبحث عن التوافقات ونقاط الالتقاء لتوسيعها وتعميقها، وجعل نقاط الاختلاف مجال تنافس صحي "ديمقراطي"... هكذا يرى المحاضر، مؤكداً أهمية أن يستمر الإصرار على سلمية الثورات ما وسع الأمر، وأن تقدم الثورات نفسها جزءاً من حالة نهضوية عربية، وليس مجرد حركات مطلبية.

 

ما نحتاجه، اليوم، هو أن يتم الابتعاد عن الطروحات الطائفية والنعرات العرقية، ومحاربة أية انقسامات من هذا النوع. ويتطلب الأمر توسيع دائرة التحالفات ما أمكن بين قوى الثورة للتمكن من اجتياز المرحلة الانتقالية واحترام الإرادة الشعبية ونتائج صناديق الاقتراع... هذه المطلبيات يختمها الفقيه بضرورة توقف بعض القوى عن التحدث باسم الجميع غصباً، وضرورة التخفيف ما أمكن من استعداء القوى الخارجية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية، حتى يتم الانتهاء من ترتيب البيت الداخلي.

 

حتمية التغيير

 

من المعروف أن الثورات الناجحة في التاريخ هي التي تملك القدرة على تغير الإنسان وليس فقط أنظمة الحكم. والثورات التنويريّة يمكن أن تُسمّى كذلك لأنها لا تُطيح بنظام حكم بقدر ما تُطيح بعقلية وثقافة سلطويّة مُنتشرة في المجتمع.

 

ومن هذا المنظور، فمن الممكن القول عند الفقيه إنّ النتائج الثقافية للثورات العربية الحالية لا يمكن رؤيتها بوضوح إذا ركّزنا أنظارنا فقط على الحراك السياسي في مرحلة الثورة وما بعدها، وهو حراك تمثله بشكل أساسي الديناميات الحزبيّه والعقليّات الدستوريّة.

 

أمّا إنجازات الثورة في ثقافة المجتمع فلا يمكن رؤيتها بوضوح إلا بعد سنوات عديدة من الثورة، يعزو الفقيه ذلك إلى أنّ الثقافة تتغيّر بأساليب تختلف عن أساليب تغيير السياسات والأنظمة، بافتراض أنّ التغيير الثقافي هو في نهاية المطاف تغيير لعقل ولرؤية للعالم، وليس فقط لأساليب حكم الدولة أو تقنيات أدارة المجتمع.

 

وقد تبدو لنا ثورات الربيع العربي كحركات سياسية هائلة، ولكنّها لم تبرز من حركات سياسية منظّمة، ولم تفتح هذه الثورات المجال لقيادة، أو لتنظيم، أو لحزب، أو حتّى لرمز ثوري ليُمثّل، أو يقود الثورة بأكملها. فقد اعتمدت هذه الثورات بشكل أساسي على الحس العفوي كمصدر أساسي لنظرية الثورة وعلى خفّة الحركة كاسلوب أساسي لممارسة الثورة... يتابع المحاضر، من هنا يمكن القول إن الثورات العربية استلهمت نظرية الثورة وأسلوبها من مصدر قريب منها ألا وهو الثقافة الشعبية العامة.

إن هذه اللحظة الزمنية لم تنته بعد، وهي مفتوحة على كل السيناريوهات المحتملة والممكنة،.. وقد آن الآوان للحديث اليوم عن ثقافة المستقبل بمدخل مختلف، مع رصد تحولات الواقع الذي ينتج صوراً صادمة، وأزمات متعددة قد تحدثُ قطيعة مع الفكر الماضي، مع الانتباه إلى اختلاف المرجعيات في الوضع العربي التي تفرز اختلالات تكرس - للأسف - التخلف والانحطاط، بوصف الوضع العربي نخرته الأزمات الاقتصادية المتعددة والانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، وتصاعدت فيه موجات الأصولية الدينية والأيديولوجية... يقول المحاضر، واقع معتل بهذا الشكل والمحتوى لايمكن إلا أن ينتج واقعاً مأزوماً وصعباً.

 

إذن؛ فالرهان الآن على الثقافة التي توجد في ائتلاف تنافسي بين قوى التقليد، وقوى التحديث...يضيف الفقيه، ولو أن هذه الأخيرة عاجزة عن التفاعل مع انتفاضات الجماهير من أجل السمو بقضاياها المصيرية، ولذا يجب (القطع) معها بوصفها ثقافةً مهادنةً، وتبديلها بالثقافة المشاركة؛ ثقافة التغيير والنقد والبناء من أجل ترسيخ تقاليد ثقافة سياسة المدينة مع الرصد الدقيق للتفاعل الثقافي ودوره الفعال في المجتمعات مع طرح البديل الذي هو التوجهات التنويرية، وإقرار ثقافة جديدة منفتحة... ثقافة التقدم وثقافة ذات خلفيات وأبعاد تنموية، في ظلّها نخلق مثقفين يتفاعلون إيجاباً ونقدياً مع هذه التمظهرات. ومع هذا الحراك أو الربيعي العربي، تتضح في الأفق الإرهاصات الأولى لهذا البديل المجتمعي، وطاقته الأساسية هي الشباب.

 

يتوقف إدراك الإنسان لماهية الثقافة على كونه مفكراً..وحراً؛ إذ ينبغي أن يكون مفكراً ليكون قادراً على فهم مُثله و تصورها، وينبغي أن يكون حراً ليكون في وضع يتهيأ له منه أن يدافع عن مُثله في الحياة العامة. فالحرية المادية، ترتبط بالحرية الروحية، ارتباطاً وثيقاً. كما أنّ الثقافة تفترض أناساً أحراراً، لأنّ بالأحرار وحدهم تتحقق مضامين الثقافة، كما يقول الفقيه، وتُشاد أبنية الحضارة.

 

جرار: الثقافة والمجتمع

 

وزير الثقافة د.صلاح جرار أعرب عن تقديره للمفكر العربي د.الصادق الفقيه أميناً عاماً لمنتدى الفكر العربي، يضفي على المشهد الثقافي العربي جديّةً وثراءً معرفياً ومنهجاً علمياً أثبت نجاعته.

 

ساق جرار حقائق مهمة في سياق تقديمه الفقيه، وهي مرتكزات تتعلق بمستقبل الثقافة العربية الذي نتوقعه، مبيناً أنّ العمل الثقافي العربي قبل أحداث ما يعرف بالربيع العربي كان ينزع نحو الابتعاد عن هموم الناس والمجتمعات وقضاياهم وأسئلتهم. ومع أنّ أعمالاً بعينها كانت تنخرط في هموم الناس وقضاياهم، إلا أن الويزر رأى أن العمل الثقافي العربي على وجه العموم كان يحاول أن ينأى بنفسه عن ذلك.

 

لكن الحقيقة الثانية التي ساقها الوزير هي أنّ العمل الثقافي العربي خلال أحداث الربيع العربي لم يكن له انخراطٌ حقيقي ملموس بتحريك الأحداث أو حتى المشاركة فيها. أما الحقيقة الثالثة، فهي أنّ هذه الاحداث أدت الى تفاقم الأزمات السياسية والاقتصادية والمعيشية وأن اهتمام المجتمعات العربية سوف تنصبّ لعقود قادمة نحو تجاوز الأزمة الاقتصادية وتحسين الوضع المعيشي وتجاوز الوضع السياسي.

 

ومن ذلك سأل جرار:كيف سيكون مستقبل الثقافة العربية على ضوء هذه الحقائق؟!..كيف نقرأ مستقبل الثقافة العربية على ضوء التحولات والمتغيرات الجديدة مع التركيز على التحول الثقافي قبل السياسي والاجتماعي، مع الأخذ بعين الاعتبار التناقض الذي كان قائماً بين السلطة والإبداع.

 

سأل جرار: عن أية ثقافة نتحدث الآن؟!..، هل هي الثقافة العربية أم العالمية؟!..، أم نحن نتحدث عن معالم ثقافة جديدة؟!.. وفي فتحه الباب للنقاش عقب انتهاء المحاضرة، وصف جرار نظرة الفقيه بالفاحصة المستنيرة، في ظلّ رصيد هائل للثقفاة العربية لم يستفد منها ها الحراك.

 

الكناني: التدخل الخارجي

 

الإعلامي العراقي سعد الكناني قال إنّ قراءته للساحة العربية في حراكها تقوده إلى نهايات غير معروفة سلباً أو إيجاباً، مع أنه راى في الحراك لمسات مفيدة للمجتمع العربي، وهي لمسات تسندها الديمقراطية الصحيحة، مع أنّ هذا المجتمع العربي في الديمقراطية لم يكن واقعياً، معرباً عن أمله في اتجاهات صحيحة تجاه انظمة الاستبداد.

 

وجد الكناني بعدين يؤثران على السياسات العربية عموماً، الخارجي المؤثر على السياسات العربية بما فيها من عناوين وتفاصيل ومؤامرة. أما البعد الثاني، فوجد الكناني أنّه يتمثل بما تتحمله المؤسسات الإعلامية العراقية من حيث الاستقلالية. ورجّح الكناني البعد الخارجي( المؤثر على السياسات) بعداً طاغياً على ما تعيشه منطقتنا العربية.

 

الحسنات: الربيع الأخضر

 

الكاتب محمد الحسنات قال إنّ المحاضر الفقيه رسم مشهداً رمادياً للربيع العربي، شارحاً أنّه لا يتفق مع تشاؤمية المحاضر؛ لأنّ الربيع العربي جاء نتيجة مخاض ومبررات استمرت لعقود من العجز والفضائح. وسأل الحسنات عمن صنع التقاطع بين الثقافة الرسمية والثقافة الشعبية؛ مجيباً بانّه من استبدّ وحكم بالغلبة والقهر، بالوصاية والاحتكار، بالثروة والغاء المعارضة والرأي الآخر.

 

عبد العزيز: الصورة الرمادية

 

الكاتب محمد عبد العزيز، من منتدى الفكر العربي، قال إنّ هذا الموضوع يقلق الكثيرين والمثقفين في ضوء الصورة الرمادية والضبابية التي تعتري المجتمع العربي، وقال إننا لا نتناول الربيع العربي برمته، وإنّما نتناول جزئية هي ما يتعلق بالثقافة.

 

تناول عبد العزيز ما أشار إليه الفقيه في موضوع الثقافة الشعبية التي طغت على غيرها من الثقافات، مؤيده في حالة ميدان التحرير بمصر. وجاء عبد العزيز بدار الكتب المصرية التي أحرقت وما تركته من آثار لن تمحى في أذهان المثقفين، ومع أنّه لا يحمّل الثورة المصرية حرق دار الكتب،ـ إلا أنّه أضاف حادثةً شبيهةً هي حرق المكتبة المركزية ببغداد، وهي تضمّ ما تضمّ من النفائس وأمهات الكتب. قال عبد العزيز إنّ ما يقلق أنّ احتلالاً في العراق يسعى لمحو تاريخٍ بأكمله، منادياً بدور للمثقف افتقده قبل حالة الربيع العربي، فلم يتنبأ المثقف على الأقل لهذا الربيع أو لهذا المستقبل الجديد.

 

مخاوف الطائفية

 

الصحفي العراقي أحمد صبري أعرب عن مخاوفه تجاه الاصطفافات العرقية والطائفية التي باتت تلوح في أفق هذا الربيع، وبخاصةٍ في العراق وسوريا ولبنان، مدللاً بتراجع المشروع الوطني في العراق، ووجود ما يهدد أمن هذا المشروع واستقراره، مهتماً باشتراطات العقد الاجتماعي في مواجهة هذا التعصب، منادياً بدور تحمله الثقافة في الترويج لمشروع الوطن لا الطائفة.

 

هلسة: المال السياسي

 

الكاتب ضرغام هلسة انطلق من موقف أنّه حراكيٌّ يرفض مصطلح (الربيع العربي)، مع أنّه يرى في ما يعيشه الوطن العربي ضورة موضوعيّة أطلقها واقع الاستبداد والظلم الواقع على الشعوب العربية بسبب الطبقات الحاكمة في تبعيتها الاقتصادية والاجتماعية في ظل العولمة، وما رافق ذلك من انتشار للفساد المالي والإداري في منهج الحكم، وهو ما دفع قوى العولمة إلى البحث الجاد عن أنظمة أكثر تطوراً وتكيّفاً مع العولمة بقضاياها الإنسانية والفكرية.

 

دافع هلسة عن وجهة نظره بأنّ المال السياسي وتحديداً الخليجي استخدم لشراء ذمم المثقفين ليقوموا بالتنظير لما سُمّي اصطلاحاً الربيع العربيّ، وفي السياق أوضح هلسة أننا حتى اليوم لم نصل إلى مستوى هذا الربيع؛ فما حدث ليس إلا حراكاً موضوعيّاً يحارب الفساد، فاستغلّ، مثلما انتشرت ثقافة المذهبيات والطائفة والإقليمية والقطرية. واهتم هلسة بالوحدة العربية معولاً كثيراً على المثقفين في ذلك.

 

القواسمي: المفهوم المستورد

 

الفنان عبدالكريم القواسمي قال إنّه يدرك أن ثمة فرقاً بين السياسة وصانع السياسة، مثلما يدرك الفرق بين الثقافة وصانعها، فهي ثقافة عربية في نهاية المطاف. غر أنّ القواسمي وجد أن عنوان الثورات العربية (الربيع العربي) هو مستورد، لذلك جاء فحواه مستورداً، وضرب القواسمي مثالاً بحالة العراق في نهب المتحف والأثر الدال وهجرة العلماء ورجال الفكر العراقيين، مستنتجاً أن ما يعرف بالربيع العربي إنما هو سرقة للوقت.

 

السواعير: ثقافة التمجيد

 

إبراهيم السواعير اقترح أن يأخذ مع وزير الثقافة مقطعاً أو عينةً من الشعراء، العرب أو الأردنيين لا فرق؛ وبصفتهم جزءاً أصيلاً من المشهد الثقافي، فإنّ تمجيدهم الربيع العربي وإجماعهم عليه يمكن أن يدلنا على دور للثقافة في حمل هذا الربيع. ومن جهة ثانية، سأل السواعير فيما لو انفلتت الثقافة النخبوية من يد المنظرين وأصحاب الفكر والرسالة الثقافية لصالح الشعب، تحت مسمى الثقافة الشعبية، وفي هذا بات أصحاب القرار يتسابقون لتبيان محاسن الربيع العربي وثماره الطيبة استناداً إلى هذا الثقافة المهمة، الثقافة الشعبيّة!

 

الهزايمة: الطيف الثقافي

 

الزميل محمد الهزايمة سأل بخصوص سيطرة طيف في ظلّ الربيع العربي وثوراته على طيف، متمثلاً بتبلور الأمور في تونس ومصر بعد نجاح (الإسلاميين)؛ فهي ثقافة إسلاميّة تطغى على المشهد، وقد تؤثر في علاقة العرب بالغرب بعامة، وفي علاقة العرب بإسرائيل على وجه التحديد.

 

جرار: رصيد الثقافة

 

وزير الثقافة د.صلاح جرار أعرب عن تقديره للمفكر العربي د.الصادق الفقيه أميناً عاماً لمنتدى الفكر العربي، يضفي على المشهد الثقافي العربي جديّةً وثراءً معرفياً ومنهجاً علمياً أثبت نجاعته.

 

ساق جرار حقائق مهمة في سياق تقديمه الفقيه، وهي مرتكزات تتعلق بمستقبل الثقافة العربية الذي نتوقعه، مبيناً أنّ العمل الثقافي العربي قبل أحداث ما يعرف بالربيع العربي كان ينزع نحو الابتعاد عن هموم الناس والمجتمعات وقضاياهم وأسئلتهم. ومع أنّ أعمالاً بعينها كانت تنخرط في هموم الناس وقضاياهم، إلا أن الويزر رأى أن العمل الثقافي العربي على وجه العموم كان يحاول أن ينأى بنفسه عن ذلك.

 

لكن الحقيقة الثانية التي ساقها الوزير هي أنّ العمل الثقافي العربي خلال أحداث الربيع العربي لم يكن له انخراطٌ حقيقي ملموس بتحريك الأحداث أو حتى المشاركة فيها. أما الحقيقة الثالثة، فهي أنّ هذه الاحداث أدت الى تفاقم الأزمات السياسية والاقتصادية والمعيشية وأن اهتمام المجتمعات العربية سوف تنصبّ لعقود قادمة نحو تجاوز الأزمة الاقتصادية وتحسين الوضع المعيشي وتجاوز الوضع السياسي.

 

ومن ذلك سأل جرار:كيف سيكون مستقبل الثقافة العربية على ضوء هذه الحقائق؟!..كيف نقرأ مستقبل الثقافة العربية على ضوء التحولات والمتغيرات الجديدة مع التركيز على التحول الثقافي قبل السياسي والاجتماعي، مع الأخذ بعين الاعتبار التناقض الذي كان قائماً بين السلطة والإبداع.

 

سأل جرار: عن أية ثقافة نتحدث الآن؟!..، هل هي الثقافة العربية أم العالمية؟!..، أم نحن نتحدث عن معالم ثقافة جديدة؟!.. وفي فتحه الباب للنقاش عقب انتهاء المحاضرة، وصف جرار نظرة الفقيه بالفاحصة المستنيرة، في ظلّ رصيد هائل للثقفاة العربية لم يستفد منها ها الحراك.

 

إجابات الفقيه كانت تناولت الاستبداد الهش، و(الخوف)؛ بصفته لا ينفع معه كلّ تراسانات الأسلحة او المفاعلات، وهو قلق وخوف تجاه هذا (الحراك) يُحسب حسابه في المنطقة، بسبب المد الجاهيري، وهذه الثقافة الموجودة في الهتافات والتغيير.

 

الفقيه: التأسيس الديمقراطي

 

وجد الفقيه أنّ مؤشرات الربيع العربي بدأت في تأسيس ديمقراطي، يرضاه (الناس)، مفصلاً في حديثه عن التجربة الأميركية وعيوب الديمقراطية وتعقيدات الانتخاب، بما فيها من أخطاء التمثيل والمقاعد؛ مفرقاً بين الفوز الانتخابي والقانوني، ليتناول التدخل الخارجي والارتداد الطائفي في دول تقسّمت، وعادت تستنسخ بذلك أحداث وصروف التاريخ.

 

تحدث الفقيه عن تقاطعات الثقافة الرسمية والشعبية؛ شارحاً معنى التقاط الثقافة الشعبية بدايات الحراك؛ فهي جزء من الثقافة العربية العامّة التي تستحق الدراسة والبحث. وجاء الفقيه بمفاهيم (الثقافة العالية) ونقيضتها وفقاً لباحثين أجانب، وتناول الثقافة العامّة في اشتراك الأديب والفنان في توجيهها أو المشاركة فيها أو الوقوف على حيادٍ منها، فهي الثقافة (الهويّة)، كما يندها الفقيه، الذي نادى بـ(مجتمع المعرفة) سلاحاً لتعظيم التفاؤل وتخفيض نقيضه، بمزيد من الحريات والديمقراطية وتعزيز هوية الوطن حتى لا (نرتكس) إلى أكثر من هويّة.

 

التمجيد العاطفي والإغراق في مديح الظاهرة هو انعكاس لثقافة شعبية، ينبغي أن تسعى إزاءها النخبة إلى النقد والإسهام الحقيقي والتوجيه، لنتجنب أهوالاً وأخطاءً وكوارث. عاين الفقيه مجيء (الربيع العربي) وسط استرخاء مثقف وحالة من عدم التنبؤ، مع أنّ ثقافة (المقاومة) كانت موجودةً في الأصل.

 

لم ينكر الفقيه ظواهر وصفها بالمحزنة؛ يمكن أن تُحسب على التدخل الخارجي، واقفاً على الشباب المصري في ميدان التحرير، ينظفون المكان، في حين أن (الحرق) يصعب محوه، مثلما هي وثائق بغداد، مرجّحاً أن ذلك لم يكن هكذا؛ خبط عشواء.

 

صوت البندقية

 

عاين الفقيه الضعف العربي في توليد المصطلح؛ الذي يضبح عنواناً للفعل الاجتماعي، فكثيرٌ من مسمياتنا مستوردة؛ قال الفقيه، معترفاً بأننا- حتى في استيردادنا الديمقراطية- نستورد ما نشا في سياق تاريخي مختلف اجتماعياً وعلى صعيد الثقافة.

 

وقف الفقيه عند (رسالة الربيع)، ناقداً الطرح (لا صوت يعلو على صوت البندقية)؛ ومع أن الحرية والديمقراطية باتت صوتاً يعلو، إلا أن البندقيّة لم تفعّل؛ مثلما قال إنّ أصواتاً دعت إلى الحرية والإعلام لم تقدم ما ينفع (القضيّة المركزية) أو لم تقدّم ما كان بحجم هذا المأمول.

 

تحدث الفقيه عن الفن والأدب في خدمة القضية العربية؛ فتظل تتخلل ثقافة المستقبل لدينا، متمثلاً بالشعر ديواناً للعرب مدح وصمت وقاوم؛ فكان في كلّ ذلك له هدفٌ يسعى إليه.

 

في مداخلته تساءل وزير الثقافة عن (الثقافة الشعبية)، بوصفها تعبويّةً، ومع اعترافه بهذه الثقافة في دورها اليوم، إلا أنّ د.جرار قال بثقافة النخبة ثقافةً ذات رسالة، لا يجوز أن تتسيّد عليها ثقافةٌ أخرى. قال جرار إنّه يتلقي مع الصادق الفقيه في النظرة المتفائلة والمتشائمة؛ ففي حين ينطلق الفقيه متفائلاً، ثمّ يضع حدّاً لهذا التفاؤل عند أبواب التشاؤم، فإنّ الوزير يبدأ بالتشاؤم، فلا يتمادى فيه، ليلتقي مع الضيف في ما يقف عنده.

 

رجّح وزير الثقافة أن تكون لفظة (الربيع)- المنقولة بالترجمة- يدخل فيها معنى القفز أو الوثوب، في دلالةٍ على ما تخدمه من معنى في الحراك الذي نعيش.