الخطاب الثقافي والاصلاح في الاردن

29/07/2012

المحاضرة، التي استضاف فيها مركز الرأي للدراسات وزير الثقافة د.صلاح جرار، وضعت المطلب الثقافيّ على المحكّ، في نقاشٍ موضوعيٍّ مكاشف، لحال الثقافة اليوم؛ هل تستفيد من الفرصة الذهبيّة في شفافيّة الإصلاح، فترتقي من الدرجات الدّنيا، التي وضعها المسؤولون وصنّاع القرار سقفاً أعلى، إلى مرتبتها التي تستحقّ؟!

 

وهي محاضرةٌ، وقفت على كثير نقاط، تفرّعت، بحجم جمهورها النخبويّ الذي أدار حواره مع الوزير مدير وحدة الدراسات في المركز هادي الشوبكي.

 

أريحيّة المحاضرة التي حملت عنوان(الخطاب الثقافي والإصلاح في الأردن)، كانت في أنّها تسلسلت بمنطق السبب والنتيجة؛ لتلمّ شتيتاً من المواضيع المتصلة بالثقافة، وتعيد ما كان قرره جرار مسبقاً من أنّ الثقافة تحملّ كلّ متغيرٍ وثابت في هذه الحياة، وهي أمٌّ رؤوم لكلّ متغيرات السياسة والاقتصاد والاجتماع، منها ينطلق، أو يجب أن ينطلق منها كلّ ذلك، وإليها يعود، فهي الضامن الأكيد لموثوقيّة التجريب والمغامرة؛ ذلك ببساطةٍ لأنّ الفكر مظلّة كلّ شيء، وما الثقافة في الأدب والفن بكلّ عناصرهما وأجناسهما، إلا انعكاسٌ لهذا الفكر.

 

الزميل هادي الشوبكي كان تقديمه وزير الثقافة بأهميّة اللقاء الذي يجيء استجابةً لمرحلةٍ تشهد فيها الساحة الدوليّة والإقليمية والدولية تحولاتٍ عميقةً، بظهور ما يسمى بـ(الربيع العربيّ)، في وقتٍ تتزايد فيه الثورة العلميّة في عالم المعلومات، ويشهد انحسار ثقافات كانت منهجاً أو خطاباً يُعتمد في معالجة مشكلاتٍ ومستجدّات. ذلك، كما يقول الشوبكي، جعل من المسؤوليّة الملحّة أنّ نتطلّع إلى مفردة الخطاب الثقافي في عالمنا العربيّ والإسلامي.

 

ونظراً لتعدد الدلالات، بحسب الشوبكي؛ فإنّ ثمّة احتياجاً لمفهومٍ يُطبّق على الواقع في إطارٍ يشتمل على قيم العلم والفكر والمعرفة. كما أنّه، وفي ظلّ بروز أزماتٍ كما يرى الشوبكي، في الوطن العربيّ على جميع المستويات، السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة والثقافيّة، وما آلت إليه من ثورات في المنطقة العربيّة، والتي أُطلق عليها اسم الربيع العربي،.. لأجل ذلك، كان لا بدّ من التفكير بشكلٍ جدّي في بناء مشروع خطابيٍّ ثقافي نهضوي. وهي لحظة تاريخيّة، كما رأى الشوبكي، ترسم ملامح المستقبل، بما يكفل حريّة الرأي والتعبير ويهيّئ السبل الكفيلة للإصلاح المنشود.

 

محاضرة أراد منها مركز الرأي للدراسات قراءةً واعيةً لمشهد معقّد متشابك الأبعاد متفاعلها، يرسم فيها الوزير جرار أبعاد هذا المشهد الثقافي المرتكز على الخطاب الفاعل، لا الخطاب الذي يجيء ردّة فعل، أو (فزعة)، فنكون مع قراءات تتكامل بالوعي والنقاش في هذا المعلم المهم، مركز الرأي للدراسات.

 

مركز الرأي للدراسات

 

حررها : إبراهيم السواعيرjarar

 

تموز 2012

 

المحاضرة...

 

معاني الإصلاح

 

التحولات والأحداث التي يصعب، بحسب الوزير، إعطاء وصف لها أو تحديد لمساراتها النهائيّة؛ هل هي إصلاح أم تغيير أم تطويرٌ أم تقدّم أم تراجع أم تفكّك أم ثورة أم انتفاضةٌ أم انقلابٌ أم فوضى خلاّقة أم فوضى هدّامة أم غير ذلك!.. جعلته يرى أنّ من السابق لأوانه أن نطلق عليها اسم (الإصلاح)، قبل أن تنجلي الرؤية وتظهر الحقائق أو تتبدى خيوطها على الأقل.

 

لم ينكر الوزير أنّ بعض الأقطار العربيّة، ومنها الأردن، أرادت أن تستبق مثل هذه الأحداث على ترابها فقررت المبادرة إلى الإصلاح، إلاّ أنّه وجد أنّ الإصلاح فيها اتجه نحو السياسة والاقتصاد اعتقاداً من صانعي القرار في هذه البلدان أن ما يعاني منه المواطن هو أزمة معيشيّة أصلها الفقر والبطالة وضعف المشاركة السياسية فقط. يرى جرار أنّ هذه الظروف السياسية والاقتصادية حتى وإن كانت عاملاً أساسياً في الأحداث التي شهدها الوطن العربي، إلاّ أنها ليست العوامل الوحيدة والحاسمة في هذه الأحداث، فإجراء إصلاحات سياسية واقتصادية لن تكون وحدها العامل الحاسم في الإصلاح ووقف أي تداعيات لاحقة ومواجهة أي تحديات قائمة أو قادمة.

 

لذا؛ فالإصلاح الذي افترض الوزير أنه لا بدّ أن يكون شاملاً، عليه ألا يتجاهل الجوانب الثقافية والعلمية والتربوية والاجتماعية وما شاكلها، لأنّ لهذه الجوانب أثرها العميق وبعيد المدى في الإصلاح. وهو ما يبرر تساؤل الكثيرين عن دور الثقافة في أحداث المنطقة العربية، مثلما يؤكّد تساؤلهم عن الإصلاح المطلوب في الواقع الثقافي، لتقوم الثقافة بدورها المطلوب في هذا الإصلاح.

 

الوعي الجديد

 

الثقافة، التي هي الحصن الأخير للأمة، بل هي صانعة حضارتها وتقدّمها، ما تزال سلاحاً شديد التأثير، بمكوّناتها من الآداب والفنون واللغة والتراث والعادات والتقاليد والقيم والمعتقدات وأنماط السلوك والمبادئ والمفاهيم؛ فتضمن تماسك المجتمع وتحقق منعته، وتمنحه الطاقة لأن ينتج ويتقدّم، بل لأن يواجه تحدياته، فيكون له لونه وهويته وشخصيّته.

 

هو وعيٌ جديد تنتجه الثقافة بوسائلها في الشعر والرواية والمسرح والغناء والتمثيل وأعمال الفكر والإبداع، فتتعزز القيم الاجتماعيّة الإيجابية، من مثل الانتماء والإخلاص والتعاون والصدق والإيثار، فيتعزز الكبرياء الوطني اعتماداً على ذلك. دلل الوزير بالرواية الغربية والسينما الغربية، أيضاً، في تشكيل الرأي العام هناك، إزاء قضايا عالميّة، وهي- الثقافة- حين تعزز العادات الإيجابيّة وتتصدى للسلبيّ منها، فإن الخلل الثقافيّ والاجتماعيّ الذي يشمل قيم المجتمع يمكن أن يفسد كلّ إصلاح سياسيّ أو اقتصادي إذا ما تفشى في أوصال هذا المجتمع أو ذاك.

 

قتامة الحياة

 

العمل الثقافي، كما يرى الوزير، بتعامله مع جماليات الحياة، في المَلَكة والصورة واللحن واللوحة والرؤية والحلم والذوق والبيئة والسلوك والذّوق والتواصل، وكثير من مثل ذلك، هو الذي يمحو قتامة الحياة وشقاءها، وذلك ما يفسّر تقدّم بلدانٍ بعينها انتشرت فيها المسارح ودور العرض والمكتبات والفرق الموسيقية ودور السينما والمتاحف ودور النشر وكليات الفنون.

 

وهكذا، فالثقافة بوصفها روح الامّة وضميرها وشخصيتها وهويتها وحضارتها، هي ضامنٌ مهم لنهضة الأمم وأمنها وتطورها وتنميتها وإصلاحها ورفاهها وسعادة الناس فيها، ومن كلّ هذا التمهيد، فإنّ الأمر يبدو مريحاً لأن يطلّ الوزير على واقع العمل الثقافي في الأردن، فيؤشر على إشكالياتٍ مهمّةٍ فيه، ما تزال تشكّل قلقاً، بالرغم من كلّ هذا الركام.
مكاشفة جسورة، ربّما لم يكاشف بها وزيرٌ من قبل بشأن الثقافة في الأردن، جعلت جراراً يرسم صورةً واضحةً لجمهور المحاضرة المثقف بعمومه، المنتمي لحقول تجانست نوعاً ما، وتباينت خبرتها في العمل الثقافي مؤسسيّاً وفعلاً بين الأدب والفن والفكر، لكيلا يكون النقاش معيباً بفراغ التسلسل والقفز.

 

إشكاليات الثقافة

 

هذا العمل الثقافي عندنا هو هو عند أشقائنا العرب بإيجابيّه والسلبيّ منه، فبالرغم من كثرته وتنوّعه وسعة انتشاره، كما يقول الوزير، فإنّه يفتقر كثيراً إلى عناصر تمكّنه من أن يضطلع بدوره في الإصلاح والتطوير والتنمية، فهو ما يزال يحتفي بالشكل على حساب المضمون، وبالجانب الاحتفالي على حساب الفكري، وبالعامّي على حساب النخبوي، وبالتقليدي على حساب التأصيلي، وبالنمطي على حساب الإبداعي، وبالآنيّ على حساب الدائم، وبالكمّ على حساب النوع، وبالعاطفة على حساب العقل!.. وهي صفاتٌ عامّة لا تخلو من استثناءات غير رائجة؛ فإشكاليات العمل الثقافي لم تحلّ بعد في مجتمع لا ينظر إلى الثقافة أولويّةً على حساب الرغيف والبطالة والفقر، مجتمعٍ قليل الوعي بكلّ شرائحه بأهميّة الثقافة ودورها في التنمية والإصلاح، فيعاني العمل الثقافي من التهميش الإداري والإعلامي وتقليص ميزانيته التي ظلّت عاجزةً عن الوفاء بمطالب الفنانين والمثقفين ومتطلبات التنمية الثقافية.

 

من إشكاليات العمل الثقافي أن تأثيراته لا تظهر سريعاً، فيزهد الناس، وينتابهم اليأس، مثلما يغيب التنسيق الكافي بين الوزارات ذات الصلة بالعمل الثقافي، فيتفكك الجسم الثقافي بخلافات داخل بِناه وأطره الثقافية، وفق منهج المصلحة على الأعم الأغلب. إرثٌ طويل متراكم من عدم ثقة المثقفين والفنانين بالمؤسسة الثقافية الرسمية المتمثلة بوزراة الثقافة، استناداً إلى مفهوم تناقله الخلف عن السلف وهو مفهوم الخلاف بين السلطة والمثقف.

 

هذا، كما يرى جرار، يحدث في ظلّ الإعلام الثقافي عندنا الذي يضع قضايا الثقافة في ذيل الاهتمامات، فتعاني الوزارة- الثقافة- من ضغط مطالب القطاع الثقافي والفني في توظيف المثقفين والفنانين وتوفير الضمان الاجتماعي والتأمين الصحيّ وإنشاء المراكز الثقافية وتمويل المبادرات الثقافية وأنشطة الأفراد والهيئات وتوفير مقرات لها وإنشاء مكتبات ومسارح وفرق موسيقية تمولّها، ومشاركة في المهرجانات والوفود الخارجيّة،.. وكلّ ذلك كما قال الوزير يحمّل الوزارة مسؤوليات ضخمة لا تفي بها ميزانيّة ما تزال محدودة.

 

موضوعيّة التشخيص

 

ما يزيد هذه الإشكاليات تعقيداً، كما يرى جرار، أنّ محاولات القطاع الثقافي والفني لتشخيصها تفتقر هي الأخرى للموضوعيّة والعلميّة، في ظلّ تأشيرات عجلى على مؤسسات بعينها أو أفراد، فتصدّر الإشكاليّة أو تُدوّر بدلاً من القراءة الدقيقة الفاحصة.

 

هو واقعٌ، إذن، كما يستنتج الوزير، يُستنسخ عند مثيله العربي، فلا يصبّ في خدمة الأهداف البعيدة للامّة، أو يؤدي رسالة الثقافة في المحافظة على هويّة الأمّة وتماسكها أو في خدمة تنمية المجتمع، والنتيجة: من الصعب أن تسهم الثقافة، وهي على هذه الصورة، في خدمة الإصلاح أو توجهاته، بل إنّ ما يشهده المجتمع من صور الخلل والتراجع في القيم وبعض صور السلوك السلبيّة والدخيلة على مجتمعنا مردّه الأساسي هو التراجع في واقع العمل الثقافي.

الإصلاح، أو الجهود الإصلاحيّة في الأردن، بمساريها، كما يرى جرار، الاستباقي، والشعبي، تحتاج وقفة. فالإصلاح الاستباقي الذي تبادر به الدولة، فتكافح به الفقر والبطالة وتحارب من خلاله الفساد وتضبط بوساطته الإنفاق وتعدل على ضوئه القوانين والتشريعات متوخّيةً العدالة والنزاهة والمشاركة السياسيّة،.. لا يتلمّس الأثر الثقافي، أو لا يتقصّد نتائجه التي قد تطال الثقافة. كما أنّ المسار الإصلاحيّ الشعبيّ، الذي يُعرف بـ(الحراك)، ويرفع شعارات الإصلاح ومكافحة الفساد، السمة الغالبة عليه هي أنّ الرؤية فيه لم تتضح، مثلما يتناقض في غاياته ومراميه، بل يفتقر إلى الإجماع على رأيٍ واحد أو هدف، فلا يعدو شكلاً من أشكال التأثّر بأحداث ما عرفته المنطقة بـ(الربيع العربي)، وهو، على هذه الصيغة، لا ينطلق من رؤى ثقافيّة، أو يستخدم وسائلها أو أدواتها أو يتطلع إلى غاياتٍ ذات بعد ثقافي، بل ليس للمثقفين ولا للجهود الثقافية فيه إسهامٌ واضح.

 

الأثر الباهت

 

النتيجة المتوقّعة، كما يرى جرار، أنّ أثر الثقافة في أحداث هذا الربيع وفي الجهود الإصلاحيّة في الأردن هو أثرٌ باهت ضعيف، يجعلنا نشكك بفعاليّة العمل الثقافيّ الراهن وبمقدرته على إحداث التأثير في المجتمع والإسهام في التغيير والتنمية والمشاركة في جهود الإصلاح.

 

فلا بدّ، كما قال، من دعوةٍ لمراجعة مناهج هذا العمل الثقافي وسياساته وبرامجه المراجعة الشاملة، لتقوم بدورها، بل تنهض بهذا الدور الأصيل في تحصين الأمّة والحفاظ على هويّتها وتعزيز قيمها وتحقيق وحدتها ومنعتها وقدرتها على التقدم والبناء والإصلاح.

 

أحداث الربيع العربيّ ووالجهود الإصلاحيّة في الأردن وضعت، كما تبيّن لجرار، العمل الثقافيّ على المحك؛ فأثبت هذا العمل فشله في مواكبة الاحداث والجهود أو التأثير فيها.

 

كان لا بدّ من مؤتمر ثقافي وطني شامل، كما يؤكّد الوزير، يشارك فيه كلّ القطاعات الثقافيّة، لتقييم الواقع الثقافي في المملكة، ورسم خطّة مستقبلية وفاعلة للعمل الثقافي؛ لأنّ العمل الناجح هو الذي يشارك فيه أصحاب الاختصاص، ويعكس متطلبات المجتمع ورؤيته وتطلعاته واحتياجاته. والهدف النهائي لهذا المؤتمر، أيضاً، هو تحديد الوسائل الضرورية لتفعيل دور الثقافة وإعادتها إلى ميادين المشاركة المجتمعية ولا سيّما في هذه الظروف الاستثنائية التي تمرّ بها الأمّة. ومن هذا المنطلق دعت وزارة الثقافة إلى عقد مؤتمر ثقافي وطني شامل يحقق الهدف، كما قال جرار. وهو المؤتمر الذي نسّقت بشأنه الوزارة خلال أشهر طويلة من الاستشارة واستمزاج الرأي وتثبيت العناوين.

 

المؤتمر والمراجعة

 

وفي هذا السياق أيضاً تسعى الوزارة إلى توجيه برامجها وأنشطتها الثقافية لكي تصبّ في خدمة المجتمع الأردني وتطلعاته وتعزيز قيمه ومبادئه، والحفاظ على هويته الوطنية والقوميّة، والإنسانية، وتحقيق أمنه واستقراره ووحدته وتماسكه ورفاهه وثقته بنفسه وبقدراته، ومواجهة التحديات والأخطار والآفات الدخيلة عليه... يقول جرار، مضيفاً أن للعمل الثقافيّ الذي تتبناه الوزارة وتشرف عليه ثلاثة مسارات رئيسة، تتصل بالماضي والحاضر والمستقبل.

 

الأوّل، مسار الحفاظ على الهويّة الوطنيّة، هويةً أردنية عربيّة إسلامية وإنسانية بمختلف عناصرها: من اللغة والعقيدة والتراث والقيم والعادات والتقاليد والآداب وغيرها، وذلك من خلال المحافظة على التراث المادي والشفوي وصيانته وإحيائه وتحقيقه وتوثيقه ونشره والدفاع عنه وتوظيفه في خدمة قضايا الأمّة. والثاني، مسار رعاية الإبداع بكشف الطاقات الأدبية والفنيّة، وحفزها ورعايتها، بوسائل كثيرة ذكرها الوزير، أما المسار الثالث، فهو توجيه الأنظار للأجيال الناشئة؛ بوصف الطفولة متلقياً فطرياً لقيم الوزارة المستهدفة، التي هي قيم وطن، وفي هذا الموضوع، ذكر الوزير العناية بالطفل في مؤلفاته ونشر إبداعاته وحفزه بالمسابقات وتطوير مهرجانٍ يسمى مهرجان أغنية الطفل، مثلما تهتم الوزارة بمهرجان مسرح الطفل، وتوفير كتبه ومكتباته، وكثير من مثل ذلك.

 

ما يرمي إليه الوزير هو تمكين الثقافة من أن تقوم برسالتها، وتضطلع بمسؤولياتها الخطيرة وتسهم في البناء والتنية وتشارك في مسيرة الإصلاح، ولتحقيق ذلك، فإن مقترحاتٍ قدّمها جرار، كانت موضوعيّة في أن ينخرط أبناء المجتمع كافة في الأنشطة الثقافية مشاركين أو مشاهدين منتجين أو متلقّين، وأن تصبح الثقافة أولوية فردية وشعبية ورسميّة، وأن تنشأ لدى الناس عادات وتقاليد ثقافية كالقراءة وارتياد المسارح ومعارض الفن التشكيلي ومعارض الكتب والعروض الموسيقية والندوات الفكرية وغير ذلك، وأن نعلي من عناصر الهويّة الثقافية للأمّة، في لغتها، وعقيدتها، وتاريخها، وتراثها، وعاداتها، وتقاليدها، وقيمها، ومبادئها، وأن يتمّ التنسيق بين مؤسسات الدولة التي تعنى بالجوانب الثقافية والبناء الثقافي للمواطن مثل: وزارة الثقافة، ووزارة التربية والتعليم، ووزارة التعليم العالي والبحث العلمي، ووزارة الإعلام، ووزارة الأوقاف، ووزارة السياحة والآثار العامّة، ووزارة البيئة، فلكل وزارة من هذه الوزارات رسالة ثقافية تتصل باختصاصها، ولا بدّ لهذه الرسائل أن تتكامل.

 

وفي مجال التشريعات الداعمة، فإنّ تفعيلها بتخصيص المؤسسات والشركات نسبةً معيّنةً لأغراض البحث العلمي والإبداع الثقافي، يتكامل معه السعي إلى نشر ثقافة الوقفيات لخدمة المؤسسات الثقافية، وهي ظاهر كثيرة الانتشار في الدول الغربيّة المتقدّمة.

 

مفاهيم الثقافة

 

كيف نجمع، أكبر إجماعٍ ممكن، على مدلولات المفاهيم الثقافية السائدة: الثقافة، الإبداع، الحرية، الديمقراطية، العدالة، الهويّة، المواطنة، الانتماء، الآخر، الحوار، التنوّع الثقافي، الحضارة، إلى غير ذلك من المفاهيم؟!.. هو إجابة على سؤال اتّساع التفاوت بين أبناء المجتمع في إدراك دلالات المفاهيم، الاتساع الذي يؤدّي، حتماً، كما قال جرار، إلى الكثير من الاختلالات داخل المجتمع والتفكك بين أبنائه.

 

الثقافة التي يطمح الوزير أن تسود في مجتمعنا الأردني وتدخل إلى كلّ بيت هي الثقافة التي تتشبث بامتدادها القومي والإسلامي والإنساني، وهي التي تمتلك قدرة كبيرة على التأثير في حياة الناس وسلوكهم ووعيهم، وهي ثقافة تنويرية وتقدميّة وجادّة تنحاز إلى العقل والعلم والقانون والنظام كما تنحاز إلى القيم الإنسانية الرفيعة كالحرية والديمقراطية والعدالة وحقوق الإنسان والمساواة وتكافؤ الفرص واحترام الرأي الآخر، وهي ثقافة تسعى إلى تحقيق الأفضل وتقف وراء إتقان العمل والإخلاص له، مثلما تقف وراء زيادة الإنتاج، وتحترم الوقت وتقدم الإنتاج على الاستهلاك والعمل على القول وترفض الإسراف غير المسوّغ في كلّ شيء بدءاً من الطعام وانتهاءً بالكلام الذي يصل حدّ المبالغة والكذب.

 

وهي ثقافة تعلي من قيم الأمّة ومبادئها السامية ولغتها وتراثها، وتعلي من الذوق والأخلاق والسلوك النبيل، وتقدّم المصلحة العامّة على الخاصّة، وتقدم التحديد والتخصيص على التعميم في الأحكام، وتقدّم النوع على الكمّ، والتخطيط المسبق على الارتجالية وردّات الفعل، وتقدّم المضمون على الشكل، وهي التي توحّد ولا تفرّق، وهي التي تعظم المشترك في المجتمع، لأنّ تعظيم الجوانب المشتركة داخل المجتمع هو أفضل سبيل للحفاظ على وحدة المجتمع وتماسكه ومنعته وقوته وحماية قيمه ومبادئه وتعزيز ثقته بنفسه وبقدراته.

 

المناقشات...

 

السياسة والثقافة

 

الكاتب أديب شقير وصّف الحالة التي يخلقها (الفساد)؛ محذراً من شروره، وانعكاسه على الإنجاز، وسأل عن رؤية الوزير بشأن الواقع السياسيّ وحالة المد والجزر التي تعصف بالمنطقة؛ مثمناً جهود الإصلاح التي يقوم بها جلالة الملك عبد الله الثاني، داعياً إلى محاربة الفساد بكل أشكاله.

 

الكاتب عبد الله حمودة قرأ محاضرة الوزير بوصفها تنفتح على عناوين كثيرة ملحّة، من مثل عنوان (المثقف والسلطة)، مهتماً بالنقد البناء الذي لا يجامل. وجد حمودة أنّ قضية المثقف والسلطة، على سبيل المثال، مهمّة، مع أنها تحتاج ندوةً خاصّةً. نادى حمودة بأهمية أن تتوافر مجالس الوزراء على محاضر؛ فهي ملك للشعب وتُعدّ تراثاً غنياً، كما عاد على اتفاقية جرت عام 2003 بين وزارة التربية والتعليم واليونسكو بخصوص تعديل المناهج؛ شاكياً من حالةٍ أسماها (التغريب). كما طرح أهميّة أن تتوخى الصحف أخبارها، فتتحقق منها قبل النشر، ضارباً أمثلةً من مغالطات وتناقضات لا يجوز أن يقرأها الناس، وقال حمودة إنّ ثقافة المواطنة هي التي تساوي بين الناس، وتمنحهم حقوقهم، مثلما تشجع على الانتماء.

 

د.حنان هلسة مديرة مركز آرنون للدراسات وجدت أنّ مكاشفة وزير الثقافة بالحال الثقافيّة أتت على كلّ شيء؛ متسائلةً: من يقرع الجرس؟!..مهتمّةً بالتغيير الثقافي في الأردن إلى حالة أفضل، وهو تغيير قالت إنّ مؤسسةً رسميّةً هي التي يجب أن تقوده. وطرحت هلسة الإنفاق الاستهلاكي على السلع والخدمات حدّ البذخ، في حين لا نسمع عن وقفيّةٍ لمشروع ثقافي، خصوصاً عند أصحاب رأس المال.

 

الإبداع والرغيف

 

الشاعر أحمد أبو ردن تمثّل بجبران في قوله: (إذا غنيت للجائع سمعك بمعدته!)، قائلاً بالإبداع مرحةً لاحقة. كما تمثّل بقول تشرشل إنّ بريطانيا قد تتخلى عن كلّ مستعمراتها، في حين أنها لا تتخلى عن شكسبير. أعرب أبو ردن عن احترامه شباب (الفيس بوك) في مصر الذين حرّكوا الثورة، وسأل عن طلاب جامعاتنا، لماذا هم يغيب عنهم غالب هلسا وعرار. وطرح مشكلة توزيع كتب المبدعين الأردنيين، في حين تصلنا كتب إخوانهم من المبدعين العرب. وقال إن الربيع العربي لم يكن اعتباطيّاً وإنما جاء نتيجة ظروف ملحّة، هي في أساسها اقتصاديّة.

 

ضرغام هلسة قال بالثقافة غير المحايدة، مستعيداً القول(أعطني مسرحاً أصنع أو أدمّر شعباً!)، مناقشاً مسألة (توظيف الثقافة)، مهتماً بالمثقف العضوي الحامل آمال الناس وهمومهم. تحدث بشناق عن المنهج التبريري والتشخيصي في وصف حال الثقافة. وقال إنّ الثقافة انعكاس مباشر للإصلاحات الاقتصادية والسياسية وليست مكوناً رئيساً، مبيناً أن هذه الإصلاحات ستقدم لنا حالةً من الثقافة النوعية المتطورة.

 

الكاتب الإعلامي موسى الصبيحي تحدث عن وزارة الثقافة التي مضى على وجودها وقت ليس بالقصير، وعاد إلى فترة كان فيها د.جرار أميناً عاماً للثقافة، وتساءل عن صعوبات الوزارة في لَمّ مفردات الشأن الثقافي وإبراز الهويّة، متسائلاً عن دمج الثقافة مع الشباب والعودة عن هذا القرار. وقال إنّ الثقافة هي فعل وليست مجرد رصيد معرفي أو فكري. وطرح الصبيحي قضية اعتصام الفنان الأردني وهمومه، فهم يشاركون في الحراك، مستفيدين من فرصته للجهر بحقوقهم على مستوى الوطن.

 

برهان جرار تناول الثقافتين: السلبية والإيجابيّة، متسائلاً عن أيّ ثقافةٍ نريد، وطنية أم قوميّة؟!.. وقال إن ثقافةً عربيةً إسلاميّةً وصلت إلى أندونيسيا وماليزيا، في حين أننا قليلاً ما نتحدث عن الوحدة العربية.

 

خالد المجالي تحدث عن حال المثقفين الصعبة، من فنانين وكتاب ومطربين، وصعوبة تصريفهم منتجاتهم الإبداعيّة، والوقفة التي يقفونها أمام موظفي العلاقات العامة ليشتروا منهم كتاباً. دعا المجالي إلى بند في الموازنة العامة يدعم المثقف الأردني ويمنع عنه كل هذا الهم.

 

إعلام الثقافة

 

القاصة سحر ملص أيّدت الوزير في اهتمامه بأدب الطفل، مهتمّةً بترسيخ الإعلام مجموعة المبادئ الثقافية المجتمعيّة، ذاكرةً اشتغالها مدربةً في مركز الأميرة سلمى للطفولة في الزرقاء، وهو المركز الذي يتبع إدارياً وزارة الثقافة في عنايته بالطفل في محافظة كبيرة هي الزرقاء.

 

الأكاديمي إبراهيم الخطيب قال إنه قرأ مئة تعريف للثقافة، واجداً أنها تمتد لتشمل حتى الألبسة والأسلحة، ومن ذلك نادى الخطيب بثقافة برلمانيّة وثقافة حقوق إنسان، مثلما نادى بأن تتداخل الثقافة مع التربية والإعلام والتنمية السياسية؛ بوصفها تصنع ضمير الأمّة وهويتها، وهي إلى ذلك مهمة في تفعيل الديمقراطيات ونشر كلّ هذه الثمار.

 

فائزة الأعرجي تناولت الثقافة امتداداً إقليمياً وقوميّاً، بكلّ مخاض السياسة والاقتصاد، مناديةً بالهوية التي يذيعها الإعلام؛ في أوقات الرخاء والشدة، وفي عصر العولمة. وقالت الإعرجي إنّ فضائيات خاصّة نشأت بخطاب مستقل، جعل من الحكومات شريكاً لا منفرداً، وعرّجت الأعرجي على شكوى المثقف من تهميشه في أكثر من مجال.

 

إبراهيم السواعير أعرب عن تفاؤله بالحراك الثقافي، من واقع حوارات الصحافة الثقافية، ووقوفها على آمال وتطلعات المثقف في السياسة والاقتصاد وظروف المجتمع الاقتصاديّة. ودلل بالكتاب الأحدث في هذا الشأن، كتاب د.عبد الرحيم ملحس(لماذا نحن هكذا؟!)، الذي عاين فيه الماضي والحاضر في اهتمام مثقف ما بين مؤيد ومختلف مع طروحات المؤلف. وقال السواعير إنّ المؤتمر الثقافي الوطني الشامل يعطي فكرةً عن الوزير جرار في رؤيته الواثقة. ذكر السواعير كتاب الوزير (الجدار الأخير: نظرات في الثقافة العربية)، بما يحمله من فكر. وأعرب السواعير عن أمنيته في أن يكون المؤتمر الثقافي الوطني الشامل سنوياً، كما طرح مسألة أن الدول يمكنها أن تسعى إلى (حلحلة) مفاهيمها القديمة، قليلاً، في ظل العلاقة القائمة بين ما هو إنساني في قبول (الآخر) وما هو وطني في الحفاظ على التراث، معرباً عن احترامه لمداخلة الكاتب عبدالله حمودة بهذا الخصوص.

 

الإصلاح الثقافي

 

الكاتب ممدوح أبو دلهوم قال إنّ محاضرة الوزير إنما هي رمحٌ في كبد الحقيقة، متناولاً التشاؤم الثقافي وحالة(الكؤوس العدميّة)، مهتماً بمسيرة ثقافية تصلح بين الجسمين الأكبرين، كما قال، بين الرابطة والاتحاد. كما تحدث أبو دلهوم عن مسائل ثقافية تقوم عليها الوزارة من مثل التفرغ الإبداعي وتوسيع قائمة الإهداءات في الوزارة، والاهتمام بأن تكون مجلة (أفكار) بين أيدي المثقفين، والناس.

 

عيسى قراعين تناول الإصلاح الاقتصادي والسياسي، مهتماً بالإصلاح الثقافي الذي ينشده الوزير، طارحاً فكرة(نريد تخفيف الإصلاحات لا كثرتها)، لكي لا تكون بعدد الوزارات، فتكفي، برأيه، إصلاحات مهمة في مواضيع سائدة.

 

الزميل محمد الهزايمة سأل الوزير بخصوص قوله إنّ الحراك يتسم بعدم وضوح الرؤية، رامياً من سؤاله إلى دراسة استند إليها الوزير. وبين اهميّة أن يُرفع سقف الحريات وأن يكون هنالك إصلاح سياسي واقتصادي وأن نكافح الفساد. وسأل عن دور الحكومة وفترتها الزمنية في مقدرتها على متابعة الفساد ومكافحة وجوهه المتعددة.

 

القاص خالد سامح تساءل عن دور القطاع الخاص في الشأن الثقافي، راجياً ألا تبقى الفكرة أن الدولة هي المسؤولة عن تفاصيل الفعل الثقافي، ذلك لأننا نعيش عصر الانفتاح. وصف المجالي مشاكل الأردن الثقافية بالشبيهة مع جيرانه العرب، وأعرب عن أسفه لاختلاف تنظير المثقف الأردني عن فعله على مستوى التطبيق في قضايا ملحّة.

 

سيطرة الخطاب

 

القاص د.أحمد النعيمي قال إنّ ضبابيةً تنسحب على الثقافة على مدار سنوات، في سيادة أشكال الثقافة اليسارية والقومية والليبرالية. وقال إنّ خطاباً بات يفرض نفسه على (الفن النظيف)، و(الفن غير النظيف)، على سبيل المثال. وأعرب النعيمي عن تخوّفه من سيطرة خطاب على خطابات ثقافية، معايناً قلق مثقفين على الخطاب الثقافي العربي بعمومه.

 

يسرى الكردي اهتمت ببناء إنسان مثقف بالإعلام الثقافي، غير متفائلة من إعلام يجانب الواقع والحقيقة. تناولت الكردي المناهج المدرسية والهوية التي تتخللها، كما تحدثت عن الثقافة الحقيقية واستقلال القرار، متطرقةً إلى معالجة شؤون الفساد وتبني ثقافة الوطن.

 

دعم الفنان

 

إجابات وزير الثقافة د.جرار على هذه المداخلات حملت ما يوجب الاهتمام بالإصلاح بالثقافة، مهتماً بنقل جهود الوزارة في تدوين التراث وحفظه، أما الثقافة المجتمعية فمهمّة حتى لو كانت المجتمعات تعاني من الفقر. أوضح الوزير جهود الوزارة في مكتبة الأسرة وطباعة الكتب ودعمها ونشرها وتسويقها، متعاطفاً مع الكاتب الذي تذهب كتبه إهداءات بعد كلّ هذا الجهد. أكّد الوزير أنّ على الحراك أن يصدر عن رؤية لا أن تختلط لديه الأمور فينقلب على غاياته.

 

جرار أكّد دعم الوزارة للفنانين في مهرجان المسرح والتعاون مع نقابة الفنانين الأردنيين، بحدود المتاح من ميزانيّة، كما أكّد المؤتمر الثقافي الوطني الشامل مؤتمراً سنوياً على قدر كبير من الأهميّة.