"المرجعيات الإسلامية وفقه الفتوى: بين التنوير والإقصاء"

01/10/2013

أجمع علماء شريعة وفقهاء وأساتذة جامعيون على أن الإفتاء ينبغي ألاّ يمثّل "سلطة قهرية"، وأن الأحكام الاجتهادية ليست قابلة للخطأ إذا كان دليلها قاطعاً مستمداً من مصادر الأحكام الشرعية (الكتاب والسنة والإجماع والاجتهاد).

ولفت المشاركون في الندوة التي نظمها مركز "الرأي" للدراسات بعنوان "المرجعيات الإسلامية وفقه الفتوى: بين التنوير والإقصاء"، إلى ما جاءت به رسالة عمّان التي أطلقها الملك عبدالله الثاني ابن الحسين من تبيان لحقيقة الإسلام وصورته السمحة المشرقة، والتي أنارت الطريق أمام القرارات الثلاث التي اتخذها المؤتمر الإسلامي الدولي الذي عُقد في عمّان (2005)، حول صحة إسلام جميع أتباع المذاهب إذا توفرات شروط الإيمان بأركان الإيمان وأركان الإسلام وعدم إنكار معلوم من الدين بالضرورة؛ والتنديد بالجرأة على التكفير؛ والتنديد بالجرأة على الفتوى.
وناقشت الندوة مجموعة من المحاور المتعلقة بأهمية الفتوى، وشروطها، و "الاجتهاد الجماعي"، والعلاقة بين الإفتاء والقضاء، و "فقه الاستفتاء"، والفرق بين فتاوى النظام العام وفتاوى النظام الخاص، واستقلالية مؤسسات الإفتاء، و "فوضى الفتاوى"، والدور التنويري للإفتاء في مواجهة التكفير وإقصاء الآخر، ودور الإعلام في التعامل مع المسائل المتعلقة بـ "الفتوى"، إضافة إلى ما تتميز به دائرة الإفتاء العام ومجلس الإفتاء في الأردن مقارنةً بدول أخرى، وبخاصة الالتزام بالمنهج العام والضوابط، وتبني الوسطية والاعتدال، ومواجهة الإرهاب الذي يتخذ الدين ذريعةً بالحجة والدليل الشرعي.
شارك في الندوة كلٌّ من: سماحة المفتي العام للمملكة الأردنية الهاشمية الشيخ عبد الكريم الخصاونة، وزير الأوقاف الأسبق د.عبد السلام العبادي، رئيس جامعة العلوم الإسلامية سابقاً د.عبد الناصر أبو البصل، الفقيه د.محمود السرطاوي، ونائب مدير المعهد الملكي للدراسات الدينية د.عامر الحافي:

أدارها: هادي الشوبكيiftaa

حرّرها وأعدّها للنشر: جعفر العقيلي

ايلول 2013


تالياً أبرز ما تناولته الندوة:

• التعريف والأهمية

بدأ الشيخ عبد الكريم الخصاونة حديثه بقوله: إن الفتوى مهمة في المجتمع، لأن الإنسان المسلم يُسأل عن أمور دينه وما يحل له وما يحرّم عليه، ويسأل عن كل صغيرة وكبيرة، ولذلك قال الفقهاء: "الفتوى لغةً: هي طلب الجواب عن أمر مشْكل"، قال تعالى: "وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا" (الكهف، 22)، وقال تعالى: "فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا" (الصافات، 11).
وأضاف الخصاونة أن العلماء عرّفوا الفتوى بأنها: "تبيين الحكم الشرعي عن دليلٍ لمن سأل عنه"، وأن السؤال يشمل الوقائع وغيرها، في العقيدة والعبادات والمعاملات والأحوال الشخصية، ولا بد للمسلمين من يبيّن لهم أحكام دينهم في ما يقع لهم، وهو أمر لا يستطيعه كل إنسان، إنما لا بد من تخصص "مفتٍ" أو عالم في الشريعة للإجابة عن أسئلتهم.
وحول أهمية الفتوى، قال الخصاونة إن الله سبحانه وتعالى كان يجيب عن أسئلة الناس، إذ يقول: "وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ" (النساء، 127)، وكان سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم يجيب عن أسئلة المسلمين، ومن بعد الرسول عليه السلام، تولى الإجابة الصحابة الكرام، لذلك فإن موضوع الفتوى هو بيان أحكام الله وتطبيقها على أفعال العباد، وقد قال الإمام النووي: "المفتي موقّع عن الله تعالى" (مقدمة شرح المهذب)، وقال محمد بن المنكدر: "إن العالِم بين الله وبين خلقه، فلينظر كيف يدخل بينهم".

• الشروط

بيّن د.عبدالسلام العبادي إن الشرط الأساس في المفتي الذي يجيب الناس عن أسئلتهم، ويبين الحكم الشرعي في القضايا الحادثة والمستجدة هو العلم الشرعي الوافي، قال تعالى: "فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ" (التوبة، 122).

وأضاف أن الهدف من عملية التفقه في الدين في المعنى العام هو الفهم لأحكام الشريعة، وفي المعنى الخاص هو العلم بالأحكام الشرعية العملية المستمد من الأدلة التفصيلية كتاباً وسنة، وذلك لمعرفة الحكم الشرعي في القضايا المطروحة الأسئلة المثارة. قال سبحانه وتعالى: "فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون" (الأنبياء، 7)، وقال سبحانه: "ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم" (النساء، 83).
وتابع العبادي: يتطلب هذا الأمر شروطاً عدة ذكرها العلماء في كتب الفقه وأصوله منها: أن يكون المفتي مسلماً بالغاً عاقلاً، وفاهماً لمعاني القرآن الكريمة وألفاظه عالماً بمقاصده، ومدركاً للأحاديث النبوية الشريفة من حيث المتن والسند والصحة والحسن.

ومن الشروط أن يكون المفتي مجتهداً أيضاً، ويتجلى ذلك بأن يكون دارساً ومستوعباً لأحكام الفقه الإسلامي، وعارفاً بقواعد علم أصول الفقه ومنهجية استنباط الأحكام من الأدلة الشرعية.

ومنها أن يكون متمكناً من اللغة العربية وأساليبها في النحو والبلاغة، ومدركاً لحقائق الوجود ومتصوراً لكل المسائل التي يتصدى لبيان حكمها، وعدلاً صالحاً ورعاً يحرص على بيان الحق ملتزماً بالصدق والأمانة.

• الاجتهاد الجماعي

وأكد العبادي أن الأردن وعى قضية الارتجال والسطحية في الفتوى في وقت مبكر، فقد صدر عن المؤتمر الإسلامي الدولي الذي عُقد في عمّان سنة 2005 برعاية الملك وتنظيم مؤسسة آل البيت الملكية للفكر الإسلامي ثلاثة قرارات كبرى؛ الأول: صحة إسلام جميع أتباع المذاهب إذا توفرات شروط الإيمان بأركان الإيمان وأركان الإسلام وعدم إنكار معلوم من الدين بالضرورة. والثاني: التنديد بالجرأة على التكفير. والثالث: التنديد بالجرأة على الفتوى مما سُمّي لاحقاً "فوضى الفتاوى".
وأوضح العبادي أن تلك القرارت بينت حرص رسالة الإسلام على تحقيق خير الناس وسعادتهم في الدنيا والآخرة بواسطية واعتدال، كما بينت موقف الإسلام من الغلو والتطرف والإرهاب، وذلك كله في ظلال الحديث عن رسالة عمّان التي أطلقها الملك عبدالله الثاني ابن الحسين من عمّان، والتي أُعلنت للناس كافة من مسجد الهاشميين في ليلة القدر من رمضان لسنة 1425 هـ (2005).
وأوضح العبادي أن البحوث التي قُدمت للمؤتمر الإسلامي الدولي (2005) وأُعدّت بخصوص موضوع الإسلام والأمة والمذاهب العقدية والفقهية والتربوية، قد تلاقت مع الدراسات التي قدمت مضامين رسالة عمّان التي تستحق التقدير والإشادة بجهود الملك في تبنيها وبيان حقيقة الإسلام ودوره في المجتمع المعاصر.

وأضاف أن هناك توجّهاً إلى ما يسمّى "الاجتهاد الجماعي" نظراً لتعقُّد المسائل، لذا بادر الأردن إلى إنشاء مجلس للإفتاء، وطالب الجهاتِ السياسيةَ والدينية أن يكون مجمع الفقه الإسلامي الدولي مرجعية فقهية للأمة، لأن كثيراً من القضايا تحتاج أن يُنظَر فيها من قِبَل كبار العلماء والفقهاء.

وبيّن العبادي أن المجمع عندما كان أميناً عاماً له، وضع مشروعاً كبيراً بوضع موسوعة فقهية شاملة وبكل اللغات على شبكة الإنترنت، بحيث تجيب عن جميع القضايا التي يسأل عنها الناس في مجالات الفتوى بعلم رصين وفهم دقيق، للحد من فوضى الفتاوى وتقوُّلها على الدين أقوالاً مغرضة ومرفوضة.

• الإفتاء والقضاء

بدوره، أوضح د.عبدالناصر أبو البصل أن الفتوى في مفهومها ومضمونها عبارة عن ضبط حركة الحياة بالأحكام الشرعية، لذلك تنبع أهميتها من ارتباط حركة الحياة في المجتمع بالأحكام، بمعنى أنها عملية اجتهادية عقلية تنظر إلى الوقائع التي تحدث وتأتي بالنصوص من القرآن والسنّة، فتنزل النصوص الشرعية مضموناً بالقياس والاجتهاد أو نصاً على الوقائع.
وبيّن أبو البصل أن المفتي يبين الحكم، ولكن الواقع الآن أن الشخص الذي يطلب الفتوى أو يسمعها هو الذي يقوم بالتطبيق، بمعنى أن تنفيذ الحكم يتعلق بإرادة الفرد أولاً، وتكون الرقابة في ذلك ذاتية. وتنفيذ الأحكام يجعلنا ننتقل من الإفتاء إلى القضاء، فهناك بعض المسائل المتعلقة بالفتوى مرتبطة بالقضاء.

وقدم أبو البصل مثالاً على ذلك، بأن أيّ شخص يسأل المفتي عن موضوعٍ يتعلق بالطلاق، يُطلب منه الحضور إلى دائرة الإفتاء وتُسمَع التفاصيل منه، أي أنه لا يتم إصدار الفتوى مباشرة. وربما يرشده المفتي بالتوجه إلى المحكمة الشرعية، وهذا ضروري في المسائل الكبرى التي تتعلق بالإيمان والكفر.

وقال أبو البصل إن الفتوى عملية معقّدة تتضمن تنزيل الأحكام على الوقائع، لذا يجب التركيز على خطورتها وأهميتها ومدى أثرها في المجتمع، فكلمة من المفتي قد تفرّق بين المرء وزوجه بحكم الطلاق.

• فقه الاستفتاء

وردّاً على سؤال طرحه مدير مركز "الرأي" للدراسات د.خالد الشقران، حول من يملك الحق في إصدار فتوى بالجهاد، قال أبو البصل: "أي شخص يريد أن يشتري سيارة من بنك، وربما جهاز هاتف، يقوم بالسؤال حول موقف الدين، هذا ما يتعلق بمسائل دنيوية بسيطة، فما بالك بشيء يترتب عليه الحياة والموت، وما بالك بقضية تهم الأمة جميعاً".
وتابع: يعجبني تعبير "فقه الفتوى"، فإذا كان في حياة الإنسان مسألة مهمة، لا بد من وجود شورى، وحتى المفتي -الشخص الفرد- يقول: "كلفوا أشخاصاً ليبحثوا في هذه الفتوى"، وهناك مجلس للإفتاء يُصدر فتوى جماعية، إذ يلتقي مجموعة كبيرة من العلماء وتُبحث المسألة، فإذا كانت المسائل العادية تنتظر وقتاً طويلاً، فكيف بمسائل الجهاد والطلاق والتكفير والإيمان؟!
وأوضح أبو البصل أن المسائل الكبرى تُعرض على مجالس الفتوى، وعلى مجامع الفقه الإسلامي، فهي ليست مسائل فردية، بل هي جماعية وتُدْرَس كلٌّ منها على حدة ومن جميع جوانبها.

ورأى أنه لا يُعقل أن فتوى في مسألة مالية تتعلق ببضعة دنانير يتم الاجتماع من أجلها، بينما مسألة حياة إنسان أو موته أو موضوع يهم الأمة لا يُجتمع للبحث فيه. وتابع: "على المفتي أن يدرس فقه الفتوى، وكيف يفتي؟"، فهناك فقه الاستفتاء، أي كيف تستفتي، ومتى، وماذا تفعل؟ مشيراً إلى أن هذا مرتبط بفقه التديّن عند بعض الناس، وأن المطلوب هو فقه الإفتاء من جميع جوانبه.

• العام والخاص

أوضح د.محمود السرطاوي، أن الفتوى هي الإخبار عن حكم الله تعالى في مشكلٍ من المشاكل، فالمسائل التي تعدّ من المبادئ الأساسية، كالدفاع عن الوطن، لا تحتاج إلى فتوى، وحقوق الأفراد في التعبير ليست محلاًّ للفتوى، والسرقة والزنا من الأمور التي لا تحتاج لفتوى لبيان الحكم حلاًّ أو حرمة، فالفتوى تكون في الأمور المشكلة التي تحتمل رأياً ورأياً آخر.
وقال السرطاوي: إن المفتي لا بد أن يعتمد على دليل عند بيانه للحكم، فهو ينظر في المسألة نظراً موضوعياً مجرداً في بعض القضايا، بصرف النظر عن السائل والقرائن المحْتَفّة بموضوع المسألة التي يراد تبيين الحكم فيها، فيستدعي الدليل الأصلي من القرآن والسنة والقياس وينظر فيه، ويسمى هذا عند علماء الأصول: "المناط العام". وهناك مسائل لا يُنظر فيها إلى موضوع السؤال وحده، بل يُنظَر إلى ما احتفّ به من قرائن وظروف زمانية ومكانية، وهذا يسمى عند علماء الأصول: "المناط الخاص".
وبيّن السرطاوي أن من الأمثلة على اعتبار "المناط الخاص"، أي القرائن المحتفّة بالمسألة، أن ابن عباس رضي الله عنه كان جالساً في المسجد وحوله مجموعة من تلامذته فدخل عليه رجل غاضب معه سلاح، وطرح عليه سؤالاً: "هل للقاتل توبة؟"، فنظر إليه ابن عباس، وبعد لحظة أجابه قائلاً: "لا توبة له، وهو مخلّد في نار جهنم!"، وفي مجلس آخر سأله رجل عن المسألة نفسها: "هل للقاتل من توبة؟"، فقال له: "نعم، فمن تاب تاب الله عليه"، ولما خرج الرجل قال أحد التلامذة لابن عباس: "لقد أفتيت في المسألة الواحدة بقولين اثنين. قلت لمن سألك أولاً إنه لا توبة له، ولمن سألك ثانياً إن الله يقبل توبة القاتل عمداً"، فأجابه ابن عباس بقوله: "نظرت إلى الرجل الأول فرأيت الشرر يتطاير من عينيه، وأنه ذاهب لقتل رجل، ومصمم على ذلك، وأنه أتى إلي ليأخذ مني رخصة وفتوى، فإن قلت له توبة قال: أقتله وأتوب! فأحببت أن أشدد عليه ليتوقف عن القتل! وأما الثاني فقد جاء تائباً يرجو الله تعالى أن يغفر له ما كان منه، فأجبته بقبول التوبة"، فهذا ابن عباس يعتبر القرائن المحتفّة، فيفتي في المسألة الواحدة بحكمين شرعيين، وهو ترجمان القرآن.

• المنهجية

وأكد السرطاوي أنه لا بد من وجود منهجية للمفتي، وأول ذلك: إن النية مؤثرة في موضوع الفتوى. وقد تحدث العلماء عن الحيل، حيث يكون التصرف متفقاً مع أحكام الشريعة الظاهرة، ولكن النيّة منعقدة على مخالفة الشرع، ونصّوا على تحريم الحيل، ووضعوا قواعد للتصرفات، فبناء الأحكام على قصود المكلّفين أمر معروف ومستقر عند العلماء، فقد جاء في الحديث الشريف: "إنما الأعمال بالبنيات".
ومن المنهج أيضاً، اعتبار مآلات الأفعال ومآلات الفتوى، فلا يجوز النظر في الواقعة من دون معرفة بالأمور المترتبة على الفتوى، ولا بد للفقيه من مدركات متعددة وجوانب كثيرة حتى يعرف المآل.
واستشهد السرطاوي بقوله تعالى: "وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَ?لِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى? رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ" (الأنعام، 108).
وهي دعوة إلى عدم سب حتى اللات والعزى إذا كان هذا سيؤدي إلى سب الذات الإلهية.. كما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لعن الله الرجل يسب أبويه. قيل: يا رسول الله; وكيف يسب أبويه؟ قال: يسب أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمه فيسب أمه".

وأورد السرطاوي ما روته السيدة عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يا عائشة؛ لولا أن قومك حديثو عهد بشرْكٍ لهدمتُ الكعبة فألزقتها بالأرض وجعلتُ لها بابين، باباً شرقياً، وباباً غربياً، وزدتُ فيها ستة أذرع من الحجر، فإن قريشاً اقتصرتها حيث بنت الكعبة". وكان هذا بعد الفتح وبعد 13 سنة من جهاد الصحابة مع النبي بمكة و8 سنوات من جهادهم معه في المدينة، ومع ذلك يتجنب النبي صلى الله عليه وسلم ما يمكن أن يدور في نفوس من دخل الإسلام حديثاً من أهل مكة، من أنه يريد أن يستأثر بفضل بناء البيت دونهم، وهو لا يريد أن يكون لبعضهم متكأ لتفرقة صفوف المسلمين بقولهم إن محمداً أراد أن يستأثر ببناء البيت وأن يكون له ولعشيرته الفضل دون عشائر قريش.
وفي هذا بحسب السرطاوي ما فيه من نظرٍ إلى المآل، فنقض باب الكعبة قد يؤدي إلى فتنة رغم أنه ينظم دخول الناس وخروجهم، ويفسح المجال لدخول الضعيف والفقير والقوي والغني.

أما المنهج الثالث، فهو معرفة المجتهد لواقع المسألة، وتبيينها بياناً دقيقاً بمعرفة أسبابها، حتى إن بعض الكاتبين يقول: إن على المفتي أن يضع الدليل الشرعي في يمناه وحقائق الواقع الإنساني في يسراه حتى يستطيع أن يفتي.

• معطيات الواقع

وأوضح السرطاوي أنه لا بد من معرفة الواقع النفسي والاجتماعي، وفي المسائل المتعلقة بالنظام العام لا بد أن يعرف المفتي القانون النافذ والقانون الدولي والمعطيات الإقليمية والدولية حتى يستطيع أن يفتي، ويجب أن تتوفر له المعرفة بالتاريخ والسياسة والمجتمع ومكوناته من المسلمين والمسيحيين حتى لا نجعل المجتمع شيعاً وأحزاباً.

وأضاف السرطاوي: كما لا بد أن يكون المفتي على علم بنفسية المستفتي، حتى لا يحمله على أمر لا يقْدر عليه. وهذا في الفتوى الخاصة، وقد يكون في الفتوى العامة للأمة، إذ يقول تعالى: "لا يُكلّف الله نفساً إلا وسعها" (البقرة، 286).

وتابع: "لا بد أيضاً من معرفة الظروف الزمانية والمكانية، ومعرفة الأسباب الدافعة المباشرة وغير المباشرة، ومعرفة المعطيات الإقليمية أيضاً. فالأردن مثلاً من واجبه أن يحافظ على علاقاته مع الآخرين لظروف اقتصادية وسياسية واجتماعية، لهذا تجده يقف مواقف متوازنة تأخذ في الحسبان جميع هذه المعطيات ولو مرحلياً ووفق الظروف والمعطيات الدولية والإقليمية، فتحرير فلسطين لا يقع على كاهله وحده، وإنما يجب تكاتف الدول العربية والإسلامية لتحقيق هذا المطلب، فإذا أراد فرد ما أن يُدخل الأردن في معركة مع العدو ليس في وسعه القيام بها وحده، من خلال المجاهدة الفردية بقطع النهر، فإن هذا الفعل الفردي الذي لم يراعِ المعطيات للمجتمع في الداخل أو المعطيات التي تحتفّ بواقع الدول العربية والإسلامية يعدّ إضعافاً للدولة لأنه لم يكن في الظرف المناسب".
وبيّن السرطاوي أن من المقرر عند الفقهاء أنه لا يُنكَر تغيُّر الأحكام بتغيُّر الأزمنة والأمكنة، وأن المفتي ينبغي أن يلاحظ مراعاة الخلاف، وأن يكون مطّلعاً على آراء العلماء الآخرين، خصوصاً في الأمور الظنية التي تحتاج إلى قرائن واستشهاد وخبراء، وأن يطّلع أيضاً على قرارات المجامع وآراء العلماء وأن يستمع إليهم.

وقال السرطاوي إن هناك فتوى في الأمور الخاصة، وفتوى في النظام العام، مضيفاً أن الفتوى في النظام العام بحاجة إلى استشارة الخبراء في الاقتصاد والسياسية والقانون والقانون الدولي، فلا بد من وجود عدد من المستشارين، وأن تستعين المجامع الفقهية بخبراء من جميع التخصصات.

ومن الأمثلة على الفتوى في النظام العام، ما يحدث في كل عام بداية شهر رمضان ونهايته، فإن تم الإعلان أن يوم غد هو المكمل لشهر رمضان فإن على المسلمين الصوم فيه، وليس لأحدٍ بعد إصدار الفتوى أن يقول إن يوم غد هو العيد وليس المتممَ لشهر رمضان، لأن ذلك يؤدي إلى تشتيت المجتمع وتفريق الصف.

ومن النظام العام في النطاق الضيق، إن رأى إمام المسجد أن يجمع بين الصلوات لعذر المطر أو البرد، فلا يجوز لأحد أن يقول له ألاّ يجمع، لأن ذلك يثير فرقة وخلافاً في داخل المسجد. أما إن كان الأمر يتعلق بالمسح على الخفّ للفرد، أو ببعض مسائل نقض الوضوء فإن هذه من المسائل الفردية وليست من النظام العام، واختلاف الفتوى فيها من فرد إلى آخر لا يؤدي إلى خلل في النظام العام.

• "سلطة الكهنوت"

قال د.عامر الحافي إن مفهوم "الفتوى" متّفق عليه، ولكن المصطلحات ربما تترك ظلالاً غير مفهومة أحياناً، فعندما نقول: "التوقيع عن الله" أو "الإخبار عن الله"، أو إن "العالِم هو بين العباد وبين الله"، فكأن في ذلك إيهاماً بشيء من السلطة الكهنوتية، وبالتالي لا يعود المفتي مجتهداً، وكأن لا إمكانية لخطئه، فتتحول سلطة الإفتاء إلى "سلطة قهرية" أو سلطة تتجاوز إعادة النظر أو التفكير باتجاه الآخرين، مما يحدّ من إمكانية تطور الفقه الإسلامي.
وهذا بحسب الحافي، ما يجعل الفتوى تبدو كأنها "رواية" والمفتي "راوٍ"، انطلاقاً من أن النصوص قد حُدَّت وتحدّدت ولا يزاد عليها أو ينقص قيد أنملة، فتصبح النصوص متناهية بينما الاجتهادات والوقائع غير متناهية.

ورأى الحافي أن القول إن المفتي موقّع عن الله -كما قال ابن القيم- هو من باب إعطاء أهمية للفتوى وليس من باب "تحرير" المفهوم، وبغير ذلك بصبح لدينا نوع من الكهنوت، ومصادرة الاجتهاد وتحنيطه، وهذا بعيد عن الإسلام.

وشدد على أن الإفتاء يجب أن يتعلق بالتخصص، فمن يتسرع إلى الإفتاء بفتاوى تكفيرية تجاه كثير من الفرق الإسلامية يكون في الأساس غير مختص في هذا الجانب العقدي وغير عارف بالفِرَق، وبالتالي لا بد من الاختصاص بالفتوى، وما نجده اليوم أن الإفتاء يتنزل باتجاه الأحكام العملية، بمعنى فقه الأحوال الشخصية والمعاملات والبيع والشراء، والإشكالات في هذا المجال ليست كبيرة. أما النوع الآخر الذي هو في غاية الخطورة، فهو الإفتاء المتعلق بفقه المذاهب الإسلامية، والإفتاء المتعلق بالجهاد ودار الحرب والصراعات السياسية وما يسمى "العلاقات الدولية".

• التبعية

ولفت الحافي إلى مشكلة كبيرة في موضوع الإفتاء تتمثل بالتأثر بالعوام والدهماء وأهوائهم التي غالباً ما تكون امتداداً لتأثير وسائل الإعلام المسيّسة والمدفوعة بأجندات مختلفة، مثل تكفير الشيعة وتعميق الصراع معهم.
كما أن هناك مشكلة أدبية وأخلاقية تتمثل في نفاق بعض العلماء وتباين آرائهم، فتجدهم يتحدثون باعتدال ووسطية وتسامح أمام وسائل الإعلام في حين تجدهم أكثر تشدداً وتزمُّتاً في لقاءاتهم الخاصة.

وتابع الحافي: "عدم مصداقية بعض من يتصدرون الحديث الديني، قد يُبعد الناس عن بعض المفتين، الذين يُصنفون على أنهم مفتون تابعون للدولة، أو أن الواحد منهم مفتٍ حركي أو يتبع حزباً سياسياً معيناً، بل إن هناك جماعات إسلامية كانت تصنف حتى المساجد؛ فإن كان مسجدٌ ما تابعاً للدولة، فإنهم لا يصلّون فيه.. وهناك نظرة تصنيفية لبعض المفتين في المؤسسات الرسمية من قِبَل بعض التيارات الإسلامية وكأنهم ليسوا ذوي مصداقية، ويتم بدلاً منهم الذهاب إلى مفتين تابعين لحركات سياسية وجماعات معينة. وهنا تكمن الخطورة".
ولفت الحافي إلى مسألة التعدد في المرجعيات الدينية، فالواقع السياسي في العالم العربي أدى إلى نوع من الانشقاق في اتجاهاتنا الدينية السياسية.. هناك من يقبل فتوى القرضاوي، وآخر لا يقبلها، وعند احتلال العراق للكويت ظهرت فتاوى عديدة أيدت مجيء الأميركان، وآخرون رأوا أن هذا يصبّ في مصلحة الشيعة في العراق، وهناك من كفّر الشيعة لاعتقاده أنهم وراء مجيء الأميركان، بينما تشيع الآن فتاوى سنية تستدعي الأميركان من أجل ضرب سوريا.
وأوضح الحافي أن هذا التباين يصل إلى حد الجنون في واقعنا السياسي، وقد أدى إلى حيرة عند الشباب.. وتساءل: من هم المفتون الذين يمكن أن يفتوا بموضوعية، وهل هناك معايير علمية للإفتاء؟

وأكد الحافي أن الجانب العلمي التخصصي هو الأساس، فالمفتي عالم متمكن في اختصاصه ومجتهد وصاحب رأي وفكرة، وليس صاحب سلطة كهنوتية يريد أن يصادر حق التفكير.

وفي هذا السياق المعرفي، لفت الحافي إلى وجود اختصاص اسمه "علم النفس الديني"، وتحدث عن أهمية وجود دراسات إنسانية واجتماعية يطّلع عليها المفتي، إلى جانب اطّلاعه على ثقافات الشعوب، فالعُرف ليس ما نتناقله سماعاً فقط، بل يشمل أيضاً الدراسات الفلكورية والثقافية، ومن يدرس الدراسات الإسلامية يحتاج الدراسات الاجتماعية والثقافية والنفسية أيضاً.
وتابع الحافي: إن من لم يفقه الخلق لن يفقه الخالق.. لذا يجب أن يزداد الفقيه توسعاً، وأن نكثف من الدورات التي تنمي مهاراته ومعارفه الإنسانية.

• الضوابط

من جهته، قال الشيخ عبد الكريم الخصاونة إن هناك اتساعاً للنهضة العلمية في الدراسات الإسلامية هذه الأيام، فهنالك المدارس والجامعات والمعاهد التي تخصصت في دراسة العلوم الدينية الإسلامية وفي مناطق كثيرة من العالم، لكن هذه النهضة العلمية تأثرت بتيارات فكرية متعددة، نتيجة التعدد الطائفي، والتدخل السياسي، وتغيّر الأحوال والزمان، وهذا أثّر في الفتوى والمفتين، إذ قال الإمام علي رضي الله عنه: "المفتون في أي عصر معرّضون للخطأ بحكم بشريتهم، وعدم ضمان العصمة لهم".
ولأن المؤثرات الفكرية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية في زمننا هذا أكثر منها في أي زمن آخر، أكد الخصاونة أهمية وضع ضوابط للفتاوى لتحقيق المقصود من الفتوى، وهو إصابة حكم الله عز وجل في المسألة محل الفتوى.
أما إطلاق القول بالتحليل والتحريم من غير ضوابط فهو افتراء على الله عز وجل، قال الله تعالى: "وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ" (النحل، 116).

وأوضح الخصاونة أن من ضوابط الفتوى: الاعتماد على الأدلة الشرعية المعتبرة لدى أهل العلم، وهي الكتاب والسنة والإجماع والقياس. فيُفتى أولاً بكتاب الله تعالى، ثم بما جاء في السنة النبوية الشريفة ثم بالإجماع.
وأما الأدلة المختلفة فيها، فإذا أدى اجتهاد المفتي إلى صحة شيء منها أفتى به، وإذا تعارضت عنده الأدلة فعليه أن يفتي بالراجح منها، قال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ رضي الله عنه: "كيف تقضي؟ قال: أقضي بما في كتاب الله، قال: فإن لم يكن في كتاب الله؟ قال: فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فإن لم يكن في سنة رسول الله؟ قال: أجتهد رأيي، فقال: الحمد لله الذي وفق رسول الله صلى الله عليه وسلم".
وأوضح الخصاونة أن المفتي يستشهد عند الإجابة عن الفتوى بالدليل الشرعي، ويمكنه أن يذكر أقوال الفقهاء من كتبهم المعتمدة، وبذكر المفتي للدليل على الحكم الشرعي فإنه أدعى للقبول بانشراح صدر المستفتي وفهم لمبنى الحكم، وذلك أدعى إلى الطاعة والامتثال.

ومن ضوابط الفتوى، تعلّقها بموضوع الاستفتاء، لأن الفتوى إذا تعلقت بموضوع الاستفتاء بلغت بالمستفتي حاجته وحصل منها على مراده. ويمكن أن تكون الفتوى أشمل من موضوع الاستفتاء لفائدةٍ يراها المفتي، فقد سأل الصحابة رضي الله عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ماء البحر فقالوا: "يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا نَرْكَبُ الْبَحْرَ وَنَحْمِلُ مَعَنَا الْقَلِيلَ مِنَ الْمَاءِ فَإِنْ تَوَضَّأنَا بِهِ عَطِشْنَا أَفَنَتَوَضَّأ بِمَاءِ الْبَحْرِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ".
ومن الضوابط أيضاً، التجرد عن الهوى في المفتي والمستفتي كليهما، لهذا اشترط العلماء في المفتي أن يكون متيقظاً حذراً.
قال ابن القيم: "لا يجوز العلم والإفتاء في دين الله بالتشهي والتخير وموافقة الغرض، فيطلب القول الذي يوافق غرضه وغرض من يحابيه فيعمل به، ويفتي به ويحكم على عدوه ويفتيه بضده، وهذا من أفسق الفسوق وأكبر الكبائر".

ويجب مراعاة الحال والزمان والمكان، بخاصة في الفتاوى الاجتهادية المبنيّة على العادات والأعراف، لهذا يُقال: "تتغير الفتوى بتغير الأحوال والأزمان"، وضرب العلماء أمثلة على ذلك، مثل: مَنْ هو العدل الذي تُقبل شهادته؟

وقد يأخذ المفتي بقول أحد أئمة المذاهب، ويترك رأي جمهور العلماء نظراً للواقع الذي هم فيه، ويفضَّل أن تصدر الفتوى عن مجلس يضم علماء عدة، كمجلس الإفتاء الأردني. غير أنه لا يجوز مخالفة النصوص الشرعية أو تأويلها تأويلاً فاسداً أو تطويعها لواقع غير إسلامي بدعوى فهم الواقع.

ومن الضوابط أن تكون الفتوى عن مسألة وقعت، بخاصة إذا كانت اجتهادية، فالمفتي يترك الجواب لإشعار المستفتي بأنه ينبغي له السؤال عمّا يعنيه مما له فيه نفع ووراءه عمل، أما إذا كان المستفتي يقصد من سؤاله إثارة الطائفية أو التعصب المذهبي، فالمفتي لا يجيب عن سؤاله، ويُستحب للمفتي أن يقدم للمستفتي النصح والوعظ والإرشاد بدلاً من الفتوى.

• درجات الفتوى

وأوضح الخصاونة أن المفتي يحق له ترك الجواب عن الفتوى إذا خشي "غائلة الفتيا"، كأن يقصد المستفتي فساداً أو فتنة أو غير ذلك، فالفتوى لها درجات كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وإذا كانت الفتوى خاصة (أي تتعلق بشخص معين أو للمستفتي فائدة مادية من سؤاله)، فلا بد من معرفة جميع الأطراف والاستفسار منهم عن الواقع حتى يتمكن المفتي من الجواب، مثل أعطيات الوالدين والهبات لأبنائهم في حياتهم ولم يتمكن الأبناء من قبضها في حياة والديهم، وكذلك في الأحوال الشخصية إذا كانت الطلقة الثالثة (والأخيرة)، إذ يطلب المفتي من المستفتي إحضار زوجته للتأكد من الحكم الشرعي الذي سيفتي به.
وحول الرأي بأن المفتي يُعطي صفة "الكهنوت" قال الخصاونة إن المفتي لا يُعطي هذه الصفة لأنه لا يقول برأيه، وإنما يخبر عن حكم شرعي من الكتاب والسنة والإجماع.
إذ لا يجرؤ المفتي أن يفتي بمسألة لا علم له فيها، لأنه يرتكب بذلك حراماً، ويتضمن الكذب على الله ورسوله، ويتضمن أيضاً إضلال الناس الذي هو من الكبائر لقول الله تعالى: "قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ، وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ" (الأعراف، 33).
وأضاف الخصاونة أن المفتي يعلم انطباق الحكم على الواقعة المسؤول عنها بأن يتحقق من وجود مناط الحكم الشرعي الذي تحصَّل في الذهن في الواقعة المسؤول عنها لينطبق عليها الحكم.
إذ قال الشافعي في ما رواه عنه الخطيب: "لا يحل لأحد أن يفتي في دين الله إلا رجلاً عارفاً بكتاب الله، بناسخه ومنسوخه، ومحكمه ومتشابهه، وتأويله وتنزيله ومكّيه ومدنيه، وما أريد به ويكون بعد ذلك بصيراً بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويعرف من الحديث ما عرف من القرآن". أما لو تُركت الفتوى لكل إنسان بحجة أن العالم (المفتي) عنده "كهنوت"، عندئذٍ تصبح الفتوى فوضى لا ضابط لها، ويتولى الأمر الجهلة، فإذا سُئلوا أفتوا بغير علم فضلّوا وأضلّوا.

• فوضى الفتاوى

ورأى الخصاونة أن سبب الفوضى في الفتاوى هو الجهل والإفتاء بغير علم، واستخدام الفتاوى لأهداف شخصية وأغراض سياسية، فلو أن الفتاوى صدرت عن علماء أتقياء تنطبق عليهم شروط الإفتاء، وتعتمد الفتاوى الصادرة منهم على الأدلة الشرعية، لما كان هناك فوضى في الفتوى.
أما إن كانت المسألة اجتهادية، وصدرت عن مجلس علمي، وبُحث في المسألة وسُئل عنها أصحاب الاختصاص، واجتمع المجلس على حكم فقهي واتفقوا عليه، فعندئذٍ لا يمكن أن تحدث فوضى في الفتاوى.

ولفت إلى أن دخول المآرب الشخصية في الحكم الشرعي تؤدي إلى وقوع الفوضى في الفتاوى، وفي هذه الحالة يمكن أن يكفّر بعضهم بعضاً وهم لا يعرفونهم ولم يتأكدوا من أقوالهم، ويصدرون الحكم عليهم وكأنهم قضاة علماً أن الحكم على إنسان بالكفر هو من صلاحيات القاضي.

وأوضح أن هنالك فرقاً بين الفتوى والقضاء، فلو سُئل المفتي عن رأيه بشخص يُنكر الصلاة، فإنه يجيب: "إن من أنكر الصلاة فهو كافر". أما الحكم على الشخص الذي عيّنه في فتواه بأنه كافر فهو من شأن القاضي، والقاضي له أسلوبه في الحكم على هذا الشخص بعد استتابته وسجنه، وهذا ليس من شأن المفتي.

• استنباط الحكم.. لا وضعه

من جهته، قال د.عبد السلام العبادي إن أحكام الشريعة تنقسم إلى: أحكام اعتقادية، وأحكام خلقية وتهذيبية، وأحكام عملية. وأضاف أن الشريعة صالحة لكل زمان ومكان، قال جل وعلا: "ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء" (النحل، 89)، لكن النصوص لا تتكلم عن جميع التفاصيل، فقدمت الشريعة الإسلامية منهجاً لاستنباط الأحكام من نصوص الشريعة، لذلك كانت مصادر الأحكام الشرعية هي الكتاب والسنة والإجماع والاجتهاد. وللاجتهاد صور عديدة منها: القياس والاستحسان والمصالح المرسلة. ودور المجتهد الكشف عن الحكم واستنباطه من نصوص الشريعة وليس وضع الحكم.
وتابع العبادي: إن القياس ومعرفة الحكم الشرعي واستنباطه، له أهله الذين هم الفقهاء، والفقه مَلَكَة ومعرفة وعلم بالأحكام الشرعية العملية، وليس حفظاً للأدلة والنصوص.

ورداً على ما ورد حول الخشية أن يتحول الفقه إلى "سلطة قهرية"، قال العبادي إن الأحكام الاجتهادية ليست قابلة للخطأ إذا كان دليلها قاطعاً، وإنه لا بد من التسليم بها، مثل تحريم المخدرات قياساً على الخمر وأثره في واقع المجتمع، فقد دفع المجتهدون إلى القول بحرمتها، وهذا بإجماع الأمة وليس قابلاً للخطأ.

وبشأن الأحكام التي قامت على أساسها المذاهب ولم يتفق عليها العلماء، دعا العبادي إلى وجوب احترام الرأي والرأي الآخر، مؤكداً أنه لا يجوز أن يرفض مذهب بقية المذاهب، وأن قانون الأحوال الشخصية الأردني روعي فيه الاختيار من المذاهب وفق تحقيق المصالح الشرعية المعتبرة وقوة الدليل.

وفي موضوع "فقه الاستفتاء"، شدد العبادي على أهمية تحديد هوية المستفتي، ومعرفة الواقعة، وأنها حول قضية محددة يُسأل عنها، قال تعالى: "فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ" (الأنبياء، 7)، فلا يجوز التصدي للأمر بارتجال، ولا بد من وجود أدلة شرعية واضحة ومستقرة في بناء الشريعة، وهذا أمر قام له علم كامل هو علم أصول الفقه، الذي يبحث في القواعد التي تُعِين المجتهد على استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها، وثمرته هو الفقه، فالفتوى مكون من مكونات الفقه، ولا بد أن تتوافر في المفتي شروط الفقيه المجتهد.
وشدد العبادي على ضرورة فهم الواقع، سواء كانت القضايا عامة أو خاصة، فالحكم على الشيء فرعٌ عن تصوره، لذا يجب تصوُّر المسألة بكل أبعادها النفسية والاجتماعية والعملية قبل الحكم عليها. ولا بد من ملاحظة أن الشريعة تشترط كي ينتظم أمر الناس وأمر الحياة، وجود ولي الأمر، فلا يجوز لأحد أن يرتجل القول في قضية تتعلق بصلاحية ولي الأمر، وإلا عمّت الفوضى في المجتمع.

• مواجهة الإرهاب بالمعرفة

وفي موضوع الإرهاب باسم الدين، قال العبادي إن هذا الموضوع خُصصت له مؤتمرات وكُتب به عشرات الكتب ومئات البحوث، وجرى التنديد به على أوسع نطاق. ورأى أن محاربته يجب ألاّ تكتفي بالمواجهة الأمنية، إنما لا بد من المواجهة الفكرية بتقديم المادة العلمية التي تحصّن الناس من أخطار هذا الفكر المنحرف، وذلك من خلال مناهج التربية والتعليم وأدوات الإعلام والاتصال، ولا بد أن يُفهم الموضوع بشكل متكامل والتصدي له بوعي وبصيرة، نظراً لخطورته وحساسيته.
وأوضح العبادي أن ثمة دليلاً واضحاً على منع القتل الأعمى ومنع محاربة المدعوين للإيمان بهذا الدين العظيم بالإرهاب والعنف، إذ جاء نفرٌ متحمّس من أصحاب الرسول إليه بعد بيعة العقبة الثانية، وقالوا: "يا رسول الله؛ إننا لن نجد القوم في مثل هذه الحالة؛ صناديد الشرك نائمون"، وكانت البيعة بعد منتصف الليل، مع عدد من الأوس والخزرج على يمنعوا المسلمين بما يمنعون به أنفسهم وأهلهم. فقال لهم العباس بن عبّادة رضي الله عنه: "أتعلمون ما تقدمون عليه؟ إنما تقدمون على حرب الأحمر والأبيض"، وذلك حتى يبين لهم أن القضية في غاية الأهمية. في هذه البيعة المؤصلة المهمة في تاريخ الأمة، لو استجاب الرسول لطلب مبايعيه المتحمسين حين قالوا: "يا رسول الله، إن أمرتنا أن نميل عليهم بأسيافنا فعلنا"، لما لامه أحد بعدما أصابه من معاناة وتعذيب ومقاطعة، لكن الرسول قال لهم: "لم أؤمر بذلك، ولم يأذن الله لي في محاربتهم". يقول الهم تعالى: "فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ" (البقرة، 109).
وأوضح العبادي أن جملة من القضايا لا بد أن تحضر حتى نفهم الإسلام، فلعل الله يُخرج من أصلاب أهل الشرك مَن يوحد الله ورسوله. فهذا الدين لا يهدف إلى قتل الناس. يقول تعال: "وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين" (الأنبياء، 107)، ويقول "ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالموْعِظَةِ الحَسَنَةِ" (النحل، 125).

وشدد العبادي على وجوب أن يستمد المفتي كلامه من كتاب الله وسنة رسوله، فهو كاشف عن الحكم الشرعي وليس واضعاً له، ولا بد من وجود صفة أساسية فيه هي ملكة العلم والمعرفة، ولو فُتح الباب لارتجل كثيرون الأمر ارتجالاً وضاع أمر العلم وانهار أمر المجتمع.
لذا وُضعت ضوابط تفصيلية دقيقة لضبط الفتوى من قِبَل مجمع الفقه الإسلامي الدولي.

وأوضح العبادي أن نقطة دم واحدة لم تُرَق في عهد الرسول خلال 13 عاماً من الدعوة وفي فتح مكة، فكيف بمن يعتدون على الأجنّة في بطون أمهاتهم؟ لافتاً إلى أن هذا ليس منهج الإسلام، وأننا يجب أن نبذل جهداً كبيراً في مواجهة الإرهاب بالمعرفة السليمة وتوضيح حقائق الإسلام، فقد يأتي شخص متحمس ومندفع، لكن عندما يوضع في حقائق العلم ودقائقه سوف يفهم أن القضية ليست ارتجالاً، إنما هي قضية معرفة علمية سليمة.

• الخطاب التربوي

من جانبه، دعا د.عبد الناصر أبو البصل إلى أن يفهم المفتي الخطابَ التربوي، وألاّ ينسب أمراً إلى الله وهو ليس كذلك، مضيفاً أن الفتاوى الشاذة والفوضى في الفتاوى تحدث عند فقدان الثقة بالعلماء، لذا لا بد من إعادة الثقة بالعلماء، فقوة الفتوى مرهونة بجملة من الضوابط أولها التزامها بمنهجية واضحة وارتباطها بالأصول الصحيحة.

وشدد أبو البصل على الالتزام بالمنهجية والوسطية، وتحقيق مقاصد الشريعة والنظر إلى المآلات والمقاصد، مؤكداً أن صدور الفتوى عن أهلها له دور كبير في ذلك، فعندما يكون العلماء ثقة، فإن الناس يرتاحون لفتاواهم.

كما لفت إلى ما يحدث من حرب إعلامية وصراع في مجال الفتاوى، فهذا الشيخ يُحسب على الجهة الفلانية، وذاك على جهة أخرى، بينما عندما تصدر الفتوى عن مجلس أو مجمع فهذا مما يبعث على الطمأنينة.

وبيّن أبو البصل أن الفتوى تُطلَب لتحل مشكلة، وهي ترتبط بالواقع مكاناً وزماناً، داعياً إلى اتخاذ موقف حازم من الفتاوى "الفضائية" المباشرة (أي التي تُبَثّ عبر شاشات التلفزة)، فهي تكون عامة وتربوية ولا تكون مخصصة، مفضّلاً أن تكون هناك دراسة للأسئلة وبحث فيها قبل بَثّ الإجابات، وبغير ذلك تكون الفتوى سريعة وغير مثبتة، إذ لا يكون المفتي عارفاً بالمذهب الذي يتبعه السائل، ولا بالظروف المحيطة بالموضوع.
ورأى أبو البصل أن العصمة هي للأنبياء فقط، أما العلماء فيمكن أن يخطئوا ويمكن أن يصيبوا، ويمكن أن يناقش المفتي مفتياً آخر في مسألة، لكن لا أن يأتي شخص عادي ويبدأ بتشريح فتوى المفتي ويناقشها ويرد عليه "فلسفياً"، كما يجب إضفاء الاحترام على المفتي، وعدم تتبع زلاته، وإن حدث وأخطأ مفتٍ ما، فينبغي ألاّ تتكالب الألسنة عليه.

وقال إن دائرة الإفتاء في الأردن يُسجَّل لها عبر تاريخها، أن لا شذوذ في الفتاوى الصادرة عنها، خصوصاً الجماعية، كما تكون هناك ضوابط للفتوى، وكثير من الناس يثقون بها لأنها لا تتأثر إلا بالحق والشروط الموضوعية بالفتوى، ويتم فيها تقديم الكليات على الجزيئات، والوحدة على الفرقة، ولا يُترك الباب لصراع الفتاوى.

• الفتوى والاستغلال السياسي

قال د.محمود السرطاوي إن المشكل في الفتوى ينحصر في الفتوى التي تتعلق بالنظام العام، إذ يمكن أن تُستغل سياسياً، وتؤثر في وحدة الوطن واستقلالية الأمة ومصيرها. كما أن مسائل الحدود والقصاص والردة والطلاق من النظام العام التي ينبغي ألاّ يُطلق العنان فيها للمفتين، فإن كان لا بد من إصدار فتوى، فينبغي أن يلتزم المفتي في فتواه بالنظام العام الموافق لقواعد الشرع والمستمَد منه كمسائل الطلاق مثلاً.
وأوضح أن بعض هذه المسائل لا تدخل تحت نطاق الإفتاء، وإنما تدخل تحت سلطة القاضي، كمسائل القتل والردة. وأن المسائل التي من اختصاص النظام العام ليس للأفراد على الإطلاق أن يتناولوها، بل تكون لمؤسسات الفتوى.

وأكد السرطاوي أنه حينما كان عضواً في مجلس الإفتاء لمدة 12 عاماً تقريباً، لم يحدث أي تدخل سياسي في عمل المجلس، لكن بعض مؤسسات الإفتاء في بعض الدول الإسلامية استُغلت استغلالاً سياسياً، لهذا ينبغي أن يكون تشكيل مؤسسات الإفتاء مبنياً على أسس موضوعية، وعندئذ ستكون لمؤسسة الإفتاء المصداقية عند المسلمين، فلا يعزفزن عنها إلى غيرها من مصادر الإفتاء الفردية أو الجهوية.
وشدد السرطاوي على أن يكون اختيار أعضاء مجلس الإفتاء موضوعياً، موضحاً أن مجلس الإفتاء في الأردن يُختار بعض أعضائه بصفاتهم الوظيفية، وهذا يحقق قدراً من الموضوعية في عمل المجلس ويعطيه قدراً من المصداقية إذا ما قورن باختيار أعضاء مجالس الإفتاء في دول أخرى.

وتساءل السرطاوي: كيف نحدّ من فتوى الأفراد ونلجمها؟ وبيّن أن العلماء قديماً أفتوا بوجوب الحجر على المفتي الجاهل والماجن، مشيراً إلى أهمية منح مؤسسة الفتوى قوة كبيرة وأن يكون لها مستشارون وخبراء يمكن أن تستفيد منهم، بحيث تحظى بالمصداقية وتنال ثقة الناس. وهذا أحد السبل في منع الفتوى الفردية.

• دور الإعلام

ورأى السرطاوي أن للإعلام دوراً في هذا الإطار، وذلك بنشر الفتاوى الصادرة عن المجالس والمجامع الفقهية المعتبرة، وقد يسهم عن قصد أو غير قصد في نشر الفتاوى الشاذة استقطاباً للقراء مع أن أثرها خطير في الناس، لا سيما أنها تتعلق بمسائل الدين والعقيدة، فإن كان لا بد من نشرها فينبغي أن تتبع ذلك بنشر الفتاوى الصحيحة والسليمة من العلماء الثقات، حتى لا يكون للشذوذ سبيلٌ إلى نفوس الناس.
ودعا السرطاوي الإعلام للمساعدة في الحفاظ على البلد، وتقوية مؤسسة الإفتاء، كي يظل الأردن نموذجاً للدول العربية والإسلامية في هذا المضمار. كما دعا مجلسَ الإفتاء لعدم التحرج في فتاوى تتعلق بمسائل حساسة، فإنه يضع بذلك حدّاً للفتاوى الفردية نظراً لما يتمتع به من مصداقية بين الناس.

• الاستقلالية والمشاركة

شدد د.عامر الحافي على أهمية استقلال مؤسسات الإفتاء، وعدم جواز تأثرها بواقع سياسي، عبر يتم إملاء آراء أو اتجاهات معينة عليها.

وكمثال على تباين الآراء والفتاوى الدينية، توقف الحافي عند العملية الديمقراطية التي تتباين الآراء حولها، فهناك التيار السلفي وآراؤه في ذلك، وهناك من كان ينظّر أنه لا يجوز المشاركة في العملية الانتخابية بتاتاً.

وبشأن المشاركة في مناقشة الإفتاء، قال الحافي: إذا كان المفتي يتعرض لقضية في الإفتاء السياسي، فيجب على مَن لديه اطلاع في السياسة أن يتحدث، لأن الموضوع هنا ديني سياسي.. أما إذا كان الموضوع دينياً اجتماعياً فلا بد من الاستعانة بعالم اجتماع.

وزاد الحافي في هذا السياق: "إذا كنا نحظر على غير المفتي أن يتحدث في مسائل الإفتاء لأن ذلك يؤدي إلى مشاكل، فيجب أن نحظر على المفتين ورجال المعارف الدينية من التحدث في الشأن السياسي أو العسكري أو سواهما"، مضيفاً أننا بحاجة إلى نوع من "الإفتاء الجماعي المؤسسي".

• بين التنوير والإقصاء

وحول "متى يكون دور الفتوى تنويرياً، ومتى يكون إقصائياً تكفيرياً؟"، قال د.عبد السلام العبادي: "يجب أن يتصدى العلماء لجميع القضايا بالمعرفة المطلوبة، وأن يضعوا إجاباتهم الشافية بالأدلة، حتى لا يضطر الناس لسؤال جهلاء أو دخلاء".

وتابع العبادي بقوله إن الفتوى تبين الحكم في سائر أفعال الناس، في القضايا الحادثة وغيرها، وإن لها دوراً تنويرياً، وإن العلماء لا بد أن يتصدوا لعملية تنوير واسعة، فقصور المعرفة يجعل الشباب المتحمسين ينطلقون في اتجاهات غير محمودة، واهتمام مناهج التربية والتعليم بذلك أمر في غاية الأهمية لأن فيه تحصيناً مبكراً للأجيال.

وأوضح العبادي أن إحدى الدول العربية، كان لديها توجه لشطب مبحث الجهاد من مادة التربية الإسلامية، لأنهم لا يريدون أن يشغلوا الطلبة في أمور قد يفهمونها بطريقة خاطئه وخشية أن يتلقوها بشكل غير صحيح، فاستشاروه في ذلك، فأخبرهم بأهمية الإبقاء على هذا المبحث وعرضه عرضاً صحيحاً شاملاً، لأن فيه تحصيناً للجيل من الانسياق في دروب مجهولة، فالمعرفة في غاية الأهمية في مجالات التربية والتعليم والاتصال والإعلام. إذ يجب ألاّ نترك عقول أبنائنا فارغة من فهمٍ صحيح للشريعة، فالإناء الفارغ يمكن أن يوضع فيه السائل السام والسائل النافع على حد سواء.

• "جماعة المسلمين"

وبيّن العبادي أن القضايا التي تفرّق ولا تجمع ذات خطورة، لأنها تقسم الأمة إلى فئات كلّ منها تعتقد أنها "جماعة المسلمين" وأن بيعة إمامها واجبة على الجميع انطلاقاً من نص الحديث النبوي: ".. من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية".

واستدرك العبادي بقوله إن المقصود بهذا الحديث هو الإمامة الكبرى للدولة أو الأمة، وليس رئيس جماعة أو مجموعة.. وتابع أن بعضهم قد يندفع إلى تكفير الآخرين، موضحاً أن أي تنظيم يجب أن يكون وسيلة وأداة للتنوير والدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي أحسن، لا أن يكون غاية في حد ذاته، فجماعة المسلمين تضم كل من يؤمن بالله ورسوله، وتم تحديدها في "قرار عمّان"، وفي مجمع الفقه الإسلامي الدولي في دورته السابعة عشرة التي عُقدت في عمّان سنة 2007، وفي مؤتمر القمة الاستثنائي الثالث الذي عُقد في مكة المكرمة سنة 2005، فكل من يؤمن بأركان الإيمان ويقر بأركان الإسلام ولا ينكر معلوماً في الدين بالضرورة، فهو من جماعة المسلمين، قال سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم: "ما من أحد يشهد ألاّ إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صدقاً من قلبه إلا حرّمه الله على النار"، وفي رواية أخرى: "من مات وهو يعلم أنه لا إله إلا الله دخل الجنة".
وأكد العبادي أهمية الفهم الدقيق لأحكام الشريعة وضرورة نشره على أوسع نطاق، متوقفاً عند حادثة لحاق أسامة بن زيد بالمشرك الذي آذى المسلمين في معركة أحد، إذ قال المشرك عندما هوى عليه أسامة بالسيف: "أشهد أن لا إله إلا الله"، لكن أسامة قتله، ووصل الأمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "أقتلته بعد ما قال‏:‏ لا إله إلا الله‏؟"، فقال أسامة: "إنما قالها متعوذاً من سيفي"، فقال عليه السلام: "فهلا شققتَ عن قلبه فتعلم أصادق هو أم كاذب؟".. وبقي الرسول يعاتب أسامة على فعلته حتى تمنى أسامة أنه أسلم في ذلك اليوم..

• الاستعانة بالخبراء

وأكد العبادي أن العالِم عليه أن يكون موثوقاً دقيقاً، ولا ينافق للحكام ولا يحابي، وأن يقول الحق ولو على نفسه، كما أنه يجب أن يبتعد عن النفاق للجماهير، فهناك مَن يستعطف قطاعات عريضة من الناس بكلام غير مدروس، وعندما تقول له: "قل الحق"، يرد عليك بقوله: "تريد أن يقول الناس إنني ضيقت عليهم، وأن يحملوا عليّ!". فيجب أن يخاطب العالِم الناسَ بما ينفعهم ويعرّفهم بأحكام دينهم، لا بما يرضيهم ويعجبهم.
ودعا العبادي إلى ضرورة التفريق بين من يصوّر المسألة ويبينها، وبين من يتصدى لمعرفة حكم الشريعة فيها. فالسياسيّ مثلاً يصور المسألة السياسية، لكن ليس له أن يبين الحكم الشرعي فيها، أما مجامع الفقه فقد درجت على استدعاء الخبراء والمختصين حتى يصوروا لها المسائل المعروضة ويناقشتهم فيها، ثم تُصدر قراراتها بخصوص الأحكام الشرعية فيها. وأوضح أن هذا ما تفعله مؤسسات الفتوى المرموقة، فمثلاً: أفتى مجلس الإفتاء الأردني بمسائل مثل أطفال الأنابيب والموت الدماغي، وذلك بعد أن استمع من أطباء حول هذه المسائل وسواها.

• العلاقة مع الدولة

في موضوع "علاقة مؤسسات الفتوى بالدولة"، قال الشيخ عبد الكريم الخصاونة إن الملك عبد الله الثاني قال لسماحة الشيخ نوح (رحمه الله) عندما عيّنه مفتياً عاماً: "لا سلطان على الإفتاء إلا الكتاب والسنة". لذلك فإن الفتوى تصدر من دائرة الإفتاء من دون أيّ سلطان عليها إلا الكتاب والسنة.

وأضاف الخصاونة أن جميع الفتاوى الصادرة عن الدائرة مدعّمة بالأدلة الشرعية من القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة ومن أقوال العلماء. ويتم عرض الفتاوى عبر الموقع الإلكتروني للدائرة، ويطّلع عليها الأردني وغيره من جميع دول العالم، وهي تعتمد على الأدلة الشرعية، وقد لاقت قبولاً كثيراً، ولم يلاحَظ فيها أنها تحابي جهة معينة، وإنما تلتزم الضوابط الشرعية، فقد قرأها طلبة العلم فلم يجدوا أيّ خلل شرعي فيها.
وأوضح أن لدائرة الإفتاء منهجاً في إصدار الفتاوى، هو أن الفتوى تصدر جماعية، أي من مجموعة من المفتِين في الدائرة وليس من مفتٍ واحد، وقد تم اعتماد هذا المنهج عند كثير من العلماء السابقين.

وتابع الخصاونة أن بعض الفتاوى هي من تخصص مجلس الإفتاء الذي يصدر عنه: الفتاوى العامة والمستجدات الفقهية والفتاوى الرسمية، ويوقّع عليها أعضاؤه، كاشفاً أنها ستصدر في كتاب مستقل قريباً.

وبيّن أنه خلال عمله في الفتاوى، لم يجد فتاوى متناقضة ولا حدثَت فوضى في الفتاوى، لأنها تعتمدُ على الأدلة الشرعية، والأدلة الشرعية لا تتناقض. أما الفتاوى العلمية والمستجدات الفقهية، فيُستدعى إليها أصحاب الاختصاص لإبداء الرأي العلمي، ومن خلال رأيهم تصدر الفتوى، ولهذا فإن الفتاوى التي صدرت عن الدائرة متَّفق عليها من قِبَل جميع علماء الأردن وغيرهم، ولو كانت غير علمية لوجدت معارضة شديدة، وخاصة في هذه الأيام مع وجود حرية الرأي واتساع شبكة الإعلام.

• التزامٌ بالمنهج

وبما يتعلق بمواجهة الإرهاب، قال الخصاونة إن الإرهاب ليس من الإسلام في شيء، وإنه ليس للإرهابيين أدلة شرعية، وإنما هناك فتاوى خاصة بهم لا تعتمد على أدلة علمية ولا تصدر من طلبة العلم الشرعي.

ورأى أن هذه الفتاوى لعلّها صدرت بتأثيرٍ من الفقر والجهل والسياسة، مبتعدةً عن التأثير المباشر للفتاوى وهو تقوى الله وبيان الحكم الشرعي للناس من الأدلة الشرعية.

وتابع الخصاونة: المعلوم أن دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم هي الرحمة والمسامحة، قال تعالى: "وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ" (الأنبياء، 21)، وقال تعالى: "فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ" (آل عمران، 159). وفي أحلك الظروف وأشدها على الرسول صلى الله عليه وسلم (يوم الطائف الذي كان أشد عليه من يوم أحد)، قال لجبريل عليه السلام عندما استأذنه ليطبق عليهم الأخشبين: "بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ أَصْلاَبِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ لاَ يُشْرِكُ بِهِ شَيْئاً".
وأوضح الخصاونة أن دائرة الإفتاء العام تصدر الحكم الشرعي العام بشأن الفرق الأخرى من غير السنّة، التزاماً بمنهجها، قال صلى الله عليه: "مَنْ صَلَّى صَلاَتَنَا وَاسْتَقْبَلَ قِبْلَتَنَا وَأَكَلَ ذَبِيحَتَنَا فَذَلِكَ الْمُسْلِمُ الَّذِي لَهُ ذِمَّةُ اللهِ وَذِمَّةُ رَسُولِهِ فَلاَ تُخْفِرُوا اللَّهَ فِي ذِمَّتِهِ".

• تثبيت المرجعيات

وحول مفهوم "الولاء والبراء" الذي أصبح يُستخدم في الإطار السياسي، قال د.عبد الناصر أبو البصل إن هناك مشكلة تتمثل في تثبيت المرجعيات للمجتمع، فهناك مكونات في المجتمع أو المذهب أو الطائفة تلتف حول مجموعة من العلماء وتجعلهم مرجعية لها، ولا تقبل فتوى إلا منهم. وتابع أن مشكلة "الولاء والبراء" محلولة في هذه الحالة، لكن إذا أصبحت هناك أزمة في الثقة مع العلماء، ولم تعد المؤسسات التي أنيط بها وظيفة المرجعية تشكل مرجعية لدى الأفراد بصرف النظر عن السبب داخلياً أكان أم خارجياً، فإن هذا يؤدي إلى المشاكل.
ولفت أبو البصل إلى طبيعة الخطاب الذي تتبناه بعض الجماعات والتيارات الإسلامية، والتي ليست بديلاً عن جماعة المسلمين، فالمجتمع الإسلامي كبير جداً، ورغم أنه يمكن الإشارة إلى مخالفات في بعض المجتمعات، إلا أن الأمر لا يصل إلى حد الإقصاء، فهناك إطار حددته المجامع الفقهية وجمهور العلماء في الإسلام.

وتابع أبو البصل في هذا السياق: "لدينا في عدد من الدول وحدة مذهبية، لكن الفضائيات أدخلت هذه المذاهب في صراعات بعضها مع بعض، أدت إلى اضطراب المفاهيم".

ودعا أبو البصل المؤسسة التربوية والإعلامية والدينية إلى إعادة ترتيب المفاهيم لدى الناس، وأشار إلى قرارات المجامع الكبرى التي تحدثت عن هذه المشكلات، ففي دورة عمّان هناك قرار بعقد دورة خاصة لحل مشكلات المصطلحات مثل "الولاء والبراء"، وتحديد "جماعة المسلمين".

ولفت إلى أن هناك واجباً في هذا الصدد ملقىً على وسائل الإعلام، داعياً الدولة لدعم المؤسسات الدينية حتى يتم الوثوق بها وكي تشكل مرجعية، وأن يعود للمساجد دورها الحقيقي عبر الدروس العلمية التي تربط بين المجتمع والعلماء، حتى لا يبحث المرء عن أجوبة أسئلته في شبكة الإنترنت والفضائيات.

وأكد أبو البصل أن هناك خطورة في حذف موضوع "الجهاد" أو "حروب الردة" من المناهج، فهذا يتيح للمتشددين والمتطرفين والمنحرفين النفاذ منه، مبيناً أن هناك أحكاماً ثابتة أجمع عليها العلماء، وقد اتخذ مجمع الفقه الإسلامي الدولي قراراً بأن من أنكر معلومة في الدين فهذا فيه نقض للإسلام.

• دور المعاهد الشرعية

رأى د.محمود السرطاوي أن الداعية عليه أن يكون قدوة حسنة للناس في سلوكه، وأن يفهم الإسلام فهماً شمولياً وموضوعياً، داعياً المعاهد الشرعية التي تُعَدّ المصانع المنتجة للدعاة والعلماء، إلى تعليم المنهجية، بحيث تنتقل في التعليم من المفاهيم الجزئية التي تعتمد التلقين والحفظ إلى المعاني الكلية التي تعتمد المنهجية العلمية البحثية.

وطالبَ السرطاوي وزارةَ الاوقاف، إلى مواصلة عقد الدورات العلمية لجميع الأئمة والوعاظ والدعاة حتى تظل التوعية مستمرة، وقد تكون هذه التوعية بدروس في الأحكام الشرعية من عبادات ومعاملات وقضاء وتاريخ وسياسة شرعية وقانونية وثقافة مجتمعية وإدارية حتى يعرف الواحد من هؤلاء واقع مجتمعه وما يحيط به. ويتطلب ذلك استخدام وسائل تقنية تكنولوجية حتى يتم التواصل معهم حيثما كانوا.

• فقه التعايش

عن موضوع الفِرَق الإسلامية، قال د.عامر الحافي: "هناك تأجيج كبير ومسيَّس للفرق الإسلامية"، متسائلاً في هذا السياق: "ألا يكفي أن تجمعنا أركان الإسلام الخمسة مع الاثني عشرية ومع الزيدية ومع بقية الفرق؟".

وبشأن مفهوم "الولاء والبراء"، قال إن هناك إشكالية كبرى فيه، فهناك من يقول تحت عنوان "البراء": "لا يجوز أن تدْرس في الغرب، ولا تحترم جارك أو صديقك من غير المسلمين"، فهناك استغلال غير أخلاقي وغير قيمي للمفهوم، بحيث يتم تبرير شتيمة الناس على المنابر بأنها من مقتضيات البراء!

ودعا الحافي إلى أن تراعي الفتاوى المتعلقة بالأديان والمعتقدات الأخرى، احترام أتباع تلك الأديان وحقوقهم ومعتقداتهم، وعدم المساس برموزهم الدينية أو منعهم من بناء معابدهم تماماً كما أن للمسلمين الحق في بناء مساجدهم.

وشدد على وجوب أن يكون المفتي ملمّاً بفقه التعايش والحقوق المدنية التي لا تميز بين المواطنين، ولا تثير الكراهية والصراع في ما بينهم.